الشاعر عبد العزيز المقالح

    ينادي غزلانه الضائعة هامساً

   في ليلة يصعب عليّ نسيانها من عام 1985 كنت أزور صنعاء للمرة الأولى، وكم أدهشني ليلها المفعم برائحة المطر والغبار. كان ذلك الليل الصنعاني في هزيعه الأخير، وبينما كان الغيم يتهدّل على التلال المجاورة كان هناك حوار مائيّ لا يهدأ بين المطر وتراب الأزقة.

ومع ساعات الصباح الأولى كنت أرى الحياة، من نافذة الغرفة، وهي تستيقظ بطريقة استثنائية: الناس، والمطر، والحجارة. كان هناك أطفال ينبثقون من الأزقة المعتمة، وأشجار ما زال يقطر من أوراقها النعاس وبقايا الليل.كانت سيارة الشاعر د. عبد العزيز المقالح في انتظاري أمام فندق سبأ، حيث أخذتني إلى مكتبه في رئاسة الجامعة. لم أكن قد التقيته شخصياً قبل ذلك اليوم، مع أنني كنت أعرفه من خلال النشر اسما لامعاً، وشخصية مرموقة. وفي الطريق إلى مكتبه كان ثمة حوار مع النفس يتصل بالشاعر حين يتولى منصباً رسمياً، ويتعلق بالشعر حين يخوض صراعاً قاسياً مع الوظيفة وأعبائها.

ما إن وصلت إلى مكتبه حتى استقبلني بحفاوة غامرة: أية وداعة فياضة وأي حياء آسر؟ لم أكن أتصور أن هذا الاسم المدوي، الذي يتقلد أكثر من منصب رفيع، يمكن أن يجلس في مكتب متواضع إلى هذا الحد . وتساءلت – في سري- ما الذي يجعل المقالح أكبر من مناصبه كلها؟ وما السر في أن اسمه أهم من الألقاب التي تحيط به جميعاً؟ وداعة أقوى من المنصب، وتواضع أكبر من امتيازات السلطة.

لأكثر من ست سنوات، كنت أعمل خلالها في جامعة صنعاء، لم يحدث أن رأيت المقالح جالساً، ولو للحظة واحدة، وراء مكتبه الرسمي. كان يغرق دائما بين حشد من المراجعين والطلبة والزائرين وأساتذة الجامعة: وسط هالة من الأوراق، والطلبات، والأدعية، والشكاوى.

وللمرة الأولى، كنت أرى مسؤولا تفيض مشاغله فلا يتسع لها مكتبه الخاص، ويضيق مكتبه حتى لا يستوعب مراجعيه، فتلاحقه ويلاحقونه أينما حل: في الجامعة وفي مركز البحوث، في الطريق وفي قاعات الدرس، في السيارة وفي البيت، في المسجد وفي المقيل.

ومن يجلس إلى الدكتور عبد العزيز المقالح لابد أن يكون في غاية الفطنة؛ فالمقالح وريث الشخصية اليمنية المعروفة بالذكاء، وروح الدعابة وحضور البديهة. قد يبدو غارقاً معك في حديث حميم، أو منغمراً في نقاش جانبي مع سواك، ولكن عليك ألا تظن أنه غائب عن الأحاديث الأخرى في مجلسه أو بعيد عنها، وستدهش حين تكتشف أن خيوط الكلام كلها كانت تصب بين يديه دائماً.

حين تصغى إلى المقالح فإنك تحس في نبرته تموّجاً حميماً: ذاتا متوهجة، وحنوّا وارفاً لايصدق . لا تراه – في أحاديثه- إلا هامساً حتى لو كان ينادي كوكباً نائياً، أو غزالة ضائعة. هكذا أظنه، أو هكذا أراه، حتى كأن صوته الهادئ، الغائم ، العميق، لم يخلق إلا للشعر، أو البوح، أو الحنين إلى الصداقات الآفلة.

وحديث المقالح لا يخلو، رغم عمقه ورصانته، من دعابة محببة: ذكية دون إيذاء، وبارعة دون لؤم. يروي النكتة ويستمتع بها، وهو بالغ الرهافة في الحالتين: لا يحمله المرح – مهما كان جارفاً- بعيداً عن وقاره الجميل، ولا يدفعه الغضب- مهما اشتد- خارج وداعته المهيبة، ومع ذلك فإن عليك أن تتذكر جبل الجليد دائماً، فلا تخدعك أطراف القمم أو نهاياتها البيضاء. إن لهذا الشاعر الممعن في لطفه طريقة فريدة في التعبير عن انفعالاته العالية؛ فوراء صمته بلاغة مكتومة، بل تيار من الغضب الهادر أحياناً، وخلف شروده الطفولي انتفاضة من الرفض أو التعنيف أو اللوم في أحيان أخرى. قادر على الجمع بين السماحة والحسم في كيان واحد. يترك الحرية للآخر في أن يحاور، أو يناقش، أو يختلف، أو يحتج، على ألا يأخذه الوهم بعيداً؛ ففي لحظة خاطفة لا تكاد تُحس، وبنظرة دالة، أو جملة توحي أكثر مما تقول، وبنبرة يمتزج فيها الحسم والوداعة يُنهي كل شئ وتخمد حرائق النقاش. هكذا ينال بالرفق ما يعيا الرجال به كما يقول الشاعر القديم، وهكذا هو: حكمة لا تعرف الغضب مع إنها – أحياناً- أشد ضراوة منه.

يمثل المقالح أحد الأمثلة النادرة للمبدع أو المثقف حين يتولى منصباً مرموقا ويظلّ مخلصاً لمشروعه الشعري والفكري، ففي مثل هذه الحالة كثيراً ما ينسى المبدع أو المثقف ذاكرته بعد أن تُسند إليه وظيفة راقية: يترك لغته البيضاء، وأحلامه الأولى، طفولته الشرسة واحتجاجاته الكبرى، وسرعان ما يتماهى هذا المثقف مع مكتبه الأنيق، ممتلئاً برائحة السلطة مفتونا بذاته وهي تنعكس، لا على مياه الأساطير كما كان يفعل “نرسيس”، بل على مكتبه الفخم ومراياه الأخاذة: هذا يستثير غرائزه لا خياله، وتلك تستفز جسده لا عقله، وهكذا يتحول إلى حيوان كاسر: يختار ضحاياه بعناية شديدة، من أصدقاء الأمس، مبدعين وكتابا مثقفين، يلاحق نصوصهم ليتشمم لغتها باحثاً عن رموزهم، أو أفكارهم، أو نواياهم خدمة لسلطة لا تجيد غير الرقابة ولا تعرف غير القمع. لقد عرفنا مبدعين، أو نقاداً تولوا الإشراف على مؤسسات ثقافية مرموقة، فحوّلوها إلى ورشة مخيفة لصناعة الطغيان والتبشير به، أو إلى مخادع للملذات.

لقد ظل التلاحم عميقا بين الشاعر والمسؤول والإنسان في ذات المقالح، بل يمكنني القول أن الشاعر كان هو المهيمن دائماً. كان وما يزال يمارس دوراً تنويرياً، وشعرياً، وأكاديميا، وإنسانيا لا حدود له من خلال شعره المتألم ونقده الحميم وتدريسه، ومسؤولياته وكتاباته الصحفية كذلك.

لقد دفع المقالح ثمن إبداعه وفكره الحر باهظاً، وكنت أشهد صنوفاً من التشهير به وصل أحياناً حد التكفير بسبب بيت انتزع من سياقه، أو استعارة لم تفهم على وجهها الصحيح.

وهكذا كان المقالح كبيراً في إنسانيته، وفي إبداعه، وكان كبيراً في احتماله الأذى أيضا، وكأن نقاءه ومخيلته يحملانه بعيداً عن التراب، تاركاً للمنتفعين أن يتمرغوا فيه بحثاً عن خاتم ضائع، أو حصاة ينتفعون بها.

لم تنكسر أحلامه العربية الكبرى رغم هذا الظلام الذي يزداد كثافة يوماً بعد يوم: لقد ساهم بدور جبار في إشاعة وعي جديد، وذائقة مختلفة في الأدب اليمني. وعمل دائماً على ربط هذا الأدب ببعده العربي والإنساني، إضافة على ذلك فقد جعل من جامعة صنعاء جامعة عربية بحق: للكثير من المثقفين والمبدعين العرب، لكل من ضاقت به أرضه أو نفسه، أو ضاق بهما ، لا فرق.

لقد كان مجلسه مدرسة عامرة بالتنوع والحيوية: شعراء وأدباء من أجيال مختلفة، نقاشات محتدمة في الأدب والسياسة والحياة، ومتابعة واعية وحميمة لأكثر قضايانا حدة، وأشد انكساراتنا إيلاماً. وإذا كان مجلسه هذا قد جمعنا بكبار زوار صنعاء من الشعراء والأدباء والمفكرين العرب والأجانب، فإنه قد عرفنا أيضا على ألمع شعراء اليمن ومثقفيه: أحمد المروني، إبراهيم الحضراني، عبد السلام منصور، زيد مطيع دماج، خالد الرويشان، على الحضرمي، عبد الكريم الرازحي، محمد حسين هيثم، عبد الودود سيف، أحمد العواضي وآخرين..

هل يضع الشعراء في نصوصهم كل ما يحلمون بكتابته؟ لا أظن ذلك. وبالنسبة للشاعر عبد العزيز المقالح فإن ما يظل خارج قصائده من شعر وطفولة لا يقل عما في تلك القصائد منهما. إن زهرة الضوء لا تعطر نصوصه فقط، بل تتوهج هناك أيضا: في أحاديثه، وفي صمته ، وفي إصغائه.

يشتبك شعر المقالح مع الكثير من همومنا الراهنة بنبرته الأسيانة الحيية وتفتحه على الأمل الصعب، ومع ذلك فإن المتتبع لكتاباته يجد أن موضوعة الصداقة تحتل مساحة كبيرة من شعره.

وما زلت أتذكر أنني في زيارتي الأولى لصنعاء، وجدت إحدى قصائدي القصيرة وعنوانها (علاقة منتهية) قد أعيد نشرها في مجلة اليمن الجديد. وتساءلت، وقتها، لماذا هذه القصيدة بالذات. لقد كانت القصيدة مهداة “إلى صديق قديم” وكان الشاعر المقالح هو من اقترح نشرها مرة أخرى:

ندمٌ أم ندى

أن ما بيننا أصبح الآن يا صاحبي

عرضةً للأذى والجفاءْ؟

ندمٌ أم ندى

أنني، حين يختلط الأصدقاءُ المحبّونَ

بالأصدقاءِ المعادينَ أهجسُ

أيهما الأصدقاءْ؟

 

آه يا صاحبي

كيف موسمُ ذاك الحنينِ انتهى

ثمّ صارَ لكلٍ هوىً، ولكلٍ طريقْ

ومضينا وحيدينِ منكسرينِ

 نغنيّ :

أيا شجرَ الليلِ كيف انتهينا ،

وعدنا بلا نجمةٍ ،

             أو صديقْ ؟

لقد أدركت، لاحقاً، أن القصيدة ربما حركت وترا راعفا في نفس المقالح الذي ظل يتابع نجمة الصداقة الآفلة في الكثير من قصائده، وربما كانت قصيدته (أغنية للرماد) من أكثر قصائد الصداقة حرقة، وكان إهداؤها شديد المرارة أيضا: إلى الذي كان صديقي:

قبل أن ترفع الخنجرَ المتوغّلَ

في الظهرِ

دعني أراكْ

فإنّ دمي حين عانقهُ ،

شمَّ في نصلهِ مقطعاً منك

وقد أسهم كمال أبوديب بقراءة جميلة لهذه القصيدة ضمن كتاب عن المقالح عنوانه (النص المفتوح). أما بالنسبة لي فقد ظللت أرقب اهتمام المقالح بهذه الموضوعة حتى انجزت دراسة عنها شكلت واحداً من فصول كتابي (الدلالة المرئية) الذي صدر عام 2002. وما زلت أتذكر عينيه وهما تشعان غبطة وحزناً، وهو يقرأ عنوان تلك الدراسة : مرثية الصداقة الآفلة .