السيرة الذاتية بين الميثاق السردي والتوثيق الشعري..

 

   منال رضوان

بعد أن نشرت مقالتها التالية في جريدة المصري اليوم بتاريخ 24  من مايس الماضي ، أعادت الكاتبة منال رضوان نشرها، على صفحتها في الفيس بك، وقد استهلتها بالقول :

مقالتي عن العمل الحائز على جائزة زايد/ فرع الآداب لهذا العام ٢٠٢٣ ، ” إلى أين أيتها القصيدة ؟ ” للشاعر والناقد العراقي القدير د. علي جعفر العلّاق، وهو من أفضل ما قرأت في أدب السيرة الذاتية في الفترة الأخيرة؛ وبه الكثير من النقاط المهمة والجيدة، لعل أبرزها هذا التمازج فيما بين الميثاق السردي والتوثيق الشعري لأدب الإوتوبيوغرافي..  شكري وتحياتي للناقدة منال رضوان على مقالتها الجميلة ..

                                                    **

   “إلى أين أيتها القصيدة” هو العنوان الذي اختاره الشاعر والناقد العراقي د. علي جعفر العلاق لعمله الحائز على جائزة زايد لهذا العام ٢٠٢٣، ويعد العمل من أعمال السيرة الذاتية لكاتبه المولود في مدينة الكوت بالعراق في العام ١٩٤٦  وتخرج في الجامعة المستنصرية عام ١٩٧٣ ثم حصل على الدكتوراه من جامعة إكستر ببريطانيا عقب ذلك بعشر سنوات، وللعلاق العديد من الأعمال الشعرية التي حظيت باهتمام بالغ من قبل النقاد، ومنها : لا شيء يحدث .. لا أحد يجيء ، وطن لطيور الماء ، شجر العائلة،  فاكهة الماضي،  أيام آدم، فضلًا عن العديد من الدراسات النقدية المهمة..

– عن العمل:

 اعتدنا أن يقوم كاتب العمل الإوتوبيوغرافي ( Autobiography) على استدعاء الذاكرة والنظر إلى الماضي بعين الحاضر وأن” َتبْتكر  -الذاكرة- بعد وقوع الحدث، هذه المشاعر أو الأفكار التي يمكن أن تكون سببًا للحدث، مع أنها في الواقع مخترعة من خلالنا نحن وفق ما دلل “موروا” بعد حدوثه؛ ولذا قد يتسم العمل بالجنوح نحو الخيال وتمجيد كاتب السيرة لذاته، فيقع في فخ من المبالغة، أو على جانب آخر يقرر الالتزام الشديد بذكر الأحداث، فيتحول إلى التقريرية التي تُنشىء الخلط بين هذا النوع الأدبي وبين أدب الاعتراف بخصائصه المتعارف عليها، بيد أننا نجد العلاق وقد أجاد في استخدام السرد للماضي، لا بوصفه التوثيق لأحداث عبرت، بل عمد إلى النظر لهذا الماضي بعين التأمل والترقب والرجاء والانتظار، وباختيار العنوان الذي جاء وفق صيغة الاستفهام، ”إلى أين.. أيتها القصيدة؟” تم منح القارىء الإجازة للالتفات والبحث والتنقيب فيما وراء السطور بحثا عن ضالة كاتبها، فمنذ عتبة النص الأولى تلمس إجادة تامة في استخدام أسلوب الكتابة التفاعلية فيما بينه وبين القارىء؛ فلم يتم التركيز على الذاتي بشكل يخرج العمل خارج النسق العام للنص الإبداعي من حتمية الالتزام بمعياره الموضوعي.

  ومنذ الصفحات الأولى تجده يتحدث عن قريته الموجودة على ضفاف النهر، ويتخذ من الماء بما له من قدرة على حفظ الحياة المحرك الأساسي للأحداث وتحريك العقل الجمعي ليس فقط لشخوص هذه المرحلة، بل سريان هذه الحالة إلى القارىء، وبحس شعري راق يبدأ في الاشتغال على فكرة الربط بين الماء والحياة؛ لتناسب مرحلة التكوين الغضة وسنوات الطفولة الأولى فيقول:

( في تلك القرية التي ربطت لغتي إلى الماء، تعلمت الإصغاء إلى الريح الشتوية وهي تردد نواحها الليلي البارد في الحقول المجاورة وأودعت ذاكرتي حشدًا من المخلوقات الممعنة في ندرتها وصفائها…)

بينما تجده يبدأ في استخدام مفردة الدماء، فتتكرر في أكثر من موضع وبخاصة في الفصل الثاني “أسطورتي الأولى”.. لتناسب حياة الغجر الذين يحطون برحالهم في موسم الحصاد على القرية الهادئة، فتتشكل المشهدية البصرية التي يجيد الكاتب نقلها إلى المتلقي، من حيث الصخب والشجار والرقص والمجون لهؤلاء البشر الذين يختلفون في حياتهم وطباعهم عن أهالي القرية البسطاء، لننتقل معه من هدوء كان ينعم به في الفصل الأول “واسط والحجاج وأخيلة الطفولة” ونبدأ في الاستعداد على انفتاح النص رويدا رويدا.. فكان هذا التمهيد ذكيًا موفقًا.

ومن الملاحظ أن العمل يتخلله بعض المقاطع الشعرية التي أجاد الكاتب توظيفها؛ لتمثل التفاتة ووقفة لدى المتلقي، يضمن بها الحفاظ على المذاق السردي للأحداث طازجا، وكأن هذا القطع والتداخل فيما بين الحكي والشعر يعزز من إبراز الملامح الشخصية لصاحبها ويؤكد على أنه بأبياته الشعرية المكتوبة في زمن لاحق على الأحداث، ما زال يحياها عبر حيلتي الاستدعاء والتذكر.

 على العكس من ذلك في فصول لاحقة وعند ذكر وقائع وأسماء شخصيات بعينها، قد تخلى عن الأسلوب الشعري الذي ميز الفصول الأولى، وبات السرد أكثر واقعية وصلابة وثباتا مع ترك هذه الهدهدات المائية بحالتيها (الماء والدماء)، وتحول ميكانيزمية الكتابة إلى السرد الواقعي..

 فعلى سبيل المثال في فصل ” القاهرة وأقمارها التي لا تصدأ” يتحدث عن وقائع ولقاءات تمت بينه وبين الدكتور جابر عصفور والشاعر اليمني عبد العزيز المقالح والدكتور عز الدين إسماعيل، فتجده وقد استبدل بتراكيب الجمل الشعرية المفردات التي تميل إلى المباشرة والسرد الخالص مع الحفاظ على الشغف ذاته  في كل فصول العمل على طول الخط السردي عبر محطات من المرح والصخب واليتم والنجاح والإخفاق، والذي يمكننا من أن نخلص لنتيجة مفادها أن الألم يصنع الذاكرة، بينما الإبداع وحده هو القادر على توثيقها.