سركون بولص وشعرية الطوفان

 التعـرف على النـصّ

 تسعى كل ممارسة نقدية الى التعرف على النص أولا. وهذا التعرف ليس شأنا قلبيا فقط ، أعني لا ينحصر في الانتشاء وبهجة التواصل وثرائه، بل يتمثل في التأسيس للحظة نقدية حـرة، خـالصة من المواقف المسبقة، أو مبـرأة من الهيـاج الأيـدلـوجي دفـاعــاً عـن عمـــل شعـري ّمـــــا، أو إلغــاء لــه.
ونتيجة لكل ذلك لا بد من أن يكون النص، الى أقصى مدىً ممكن،  وقودًا حميمًا في جدل نقدي مبني على المعرفة من جهة، والوعي بسلوك الأنماط الشعرية من جهة أخرى.
إن قصيدة النثر، أو هذا ما أراه في هذا الفصل على الأقل، واحد من نمطين شعريين يمثلان حركة الحداثة في شعرنا العربي الآن: أعني قصيدة الوزن أو التفعيلة، والقصيدة المكتوبة نثرًا أو،  بتسمية أكثر جاذبية، قصيدة النثر.
يميل المزاج النقـدي، أحياناً، الى الاشتغال خارج هـذه القصيدة، خارج جسدها النصيّ مدفوعًا إما بنزعة الالغاء دونما براهين نصية ثاقبة، وإما بهاجس الانحياز اليها بلغة غيبية ثملة، لا تقبل الفحص أو الاعتراض، وكأنها تفترض بمتلقيها الإيمان المسبق بكل ما تقوله. وهكذا ظلت قصيدة النثر غالبًا رهينة ذلك الفضاء السجالي دون أن يتاح لها، إلاّ نادراً، أن تقدّم للفحص والتأمل برهانها الجمالي والـدلالي في هـذه البرهة الشعرية بالغة التعقيـد والثـراء.
شاعر يتشمـم عـذاب العـالم
يقدم سركون بولص، دائمًا، الدليل على انقطاعه إلى مشروعه الشعري انقطاعًا لم يبلغه، ربما، إلاّ القلة من شعراء قصيدة النثر اليوم. وقد ساعده على ذلك  اشتغاله على قصيدته بصمت ودراية عاليـين. وقد يسّرَ له ذلك الصمت وتلك الدراية أن يهبط إلى الأعماق تمامًا، لم يقف على حافة الأشياء مراقبًا، أو مفتونًا. بل كان له عينا نسر خرافي، أتاحتا له أن يفترس ما يراه، أو يسمعه، أو يلامسه بتحفز حسي هائج. غير أن هذه الضراوة الحسية الأخاذة لم تكن عدته الوحيدة ؛ فقصائده، أو الكثير منها على الأقلّ، تجسد قدرته الكبيرة على الوفاء بمتطلبات الشاعر الحقيقي، وأعني تحديدًا الموهبة الشعرية والخزين الثقافي الحيّ .
كان سركون بولص يرى أن الكتابة الشعرية مسعى إلى انتشال الحقيقة من بين الركام اليومي، وإزالة ما علق بها من أقنعة، إنها:
«إسقاط القناع عن وجه الكتابة المقبول،
أيًا كان هـذا الـوجه، عــن المتوقـع، عـن
المتفق عليه».
وبذلك تكون الكتابة، فعلاً فضائحيا بالمعنى الإيجابي للكلمة، جلاءً لما يكمن تحت الركام وأشلاء الحياة، وصولاً إلى تلك الحقيقة المرّة ، الملقاة في أعماق النفس، كجرة قديمة ينهشها الصدأ. إن فعل الكتابة، كما يراه سركون بولص، هجوم على الظاهري، والسطحي في الحياة، وعلى البريق المترع بالظلام، وصولاً إلى تلك:
«المياه المضطربة التي تغلي تحت السطح».
وحين تنفصم عرى القصيدة، أحيانًا، تحت عبء فكرة ما، يراد الوصول بها إلى المتلقي بثوب جمالي وارف فلا يكون الهدف قابلاً للتحقيق، يكون سركون بولص شديد الوعي بفداحة هذه المهمة، لذلك فهو، في الكثير من قصائده، يلتحم مع فكرة القصيدة بيقظة حسية كبرى، عند تلك اللحظة لا تكون الفكرة معزولة عن النصّ، ولا النصّ منسلخاً عن شحنته الفكرية. إنه يربط دائماً وبوعي بالغ القسوة والنباهة، بين القصيدة والوضع البشري، بين اللحظة الراهنة والماضي، وأخيرًا بين فكرة النصّ وأشياء العالم، وهكذا تنفعل قصيدة الفكرة بكل عناصر الوجود:
«بالأشياء، بالظاهر، بالعوالم النفسية اللانهائية التي تتضمن الزمن وجموده واسترخاءه، والمكان ووضع الإنسان في التسلسل التاريخي».
تكاد كل قصيدة لسركون بولص تقريبًا أن تنهض بفكرة ما، لكنها ليست فكرة مجردة، أو ذهنية، بل ممزوجة بمصهـر حسي حارق. وقصيدته، رغم صفائها التعبيري وحيويتها الشكلية، مثقلة بالدلالة، والرؤى، أي أنها لا تكتفي بذاتها, ولا تقف عند حدود التعبير المبـرأ من الدلالة، أو المفعم بفضائل الشكل وحده.
وعلى خلاف الكثير من قصائد النثر ربّما، تفصح قصيدة سركون بولص غالباً عن وعي بالتراث بمختلف تجلياته الأسطورية والدينية والأدبية، حتى أن قصيدته تبدو أحياناً وكأنها نموذج بالغ الحيوية لشعرية من طراز فريد في قصيدة النثر؛ فهي لا تغتنم هذه الرحابة الشكلية، التي أُسيءَ استخدامها أحيانا، لتخرج الى متلقيها برّاقةً، هيّنة، ومتاحة للجميع ؛ بل هي على قدر عال من النضج، والاختمار، وفداحة الأسى.
إنّ قصيدته لا تغترف من نهر شائع، بل تسعى بوعي رهيف إلى الاغتراف من هواء الثقافة أينما كانت، ومن أزمنة موغلة في القدم. وهي، بذلك،  تمثل وجهًا متفردًا من وجوه الإفادة من التراث الإنساني عامة والتراث الرافديني تحديدًا في شعرنا الحديث. والمدهش في شعر سركون بولص أن الحدّ لا يكاد  ُيرى بين الذاكرة ومكابدة الجسد، بين الحلم والواقع، بين الأسطورة والتاريخ ؛ فكل ذلك المزيج الثقافي والروحي والوجداني يأخذ شخصيته الشعرية صاعدًا من نفس مترعة بالألم والوعي والتدفق المثير للدهشة. إن سركون بولص نموذج لشاعر النثر، الناصع، الشفيف، الذي يقدم براهينه الشعرية دائمًا لا على براءته من تهمة القطيعة مع التراث، بل على تمثّله لهذا التراث واعتباره مكونًا دلالياً وبنيوياًً من مكونات قصيدته.
وأنا هنا أحاول الوصول إلى ثيمة دلالية مركزية في شعر سركون بولص، ملكت عليه الكثير من فضاءات قصائده، وشكلت معظم تصوراته أو رؤياه للحاضر الذي هو امتداد لخميرة الماضي، أو تفتحه المرّ. وأعني بذلك صورة الطوفان وهو يعصف بالخليقة الأولى، ويدفع بها إلى الشتات والتبعثر، تاركًا في ضمائر البشر، وفي ثنايا الطينة التي جبلـوا منها، إمكانات لطوفـانـات كامنة، وكـوارث مـؤجلة، آتيـة لا محـالـة.
بنيـة القصيـدةّ  
يأخذنا عنوان القصيدة، (شهود على الضفاف) إلى مشهد بصري مفتوح على إيحاءات متعددة، لكنه يفصح منذ اللحظة الأولى عن صلة ما، بين عنصرين يؤجلان دلالتهما إلى وقت لاحق. الصلة هنا تقوم بين الحياة والشهادة عليها، بين الفعـل والتأمل، وأخيرًا بين ثبـــــات اليباس وصــــلادته من جهة، وانجراف الماء وحركيته من جهة أخرى.
كما يكشف العنوان أيضًا من خلال صيغة الجمع: شهود، عن فاعل السرد أو الراوي كلي العلم، الذي يفارق فرديته، لينخرط في سرد جمعي، يضعنا منذ البداية في حركة مشهدية جماعية تسجل شهادتها على ما يحدث:
في البدء سمعنا الهدير..
بهذا البيت الذي يحتل وحده سطرًا كاملاّ، تبدأ القصيـدة بإيماءة استباقية فاضحة ؛ فالمشهد ليس بهيجًا، كما أن دلالته التي أجّلتها بنية العنوان إلى حين، ليست مكمنًا للنشوة في هذه المرحلة من تطور القصيدة على الأقل.
يقدم لنا هذا البيت، بعزلته عن كتلة النص وانفصاله عنها، ما يعيننا على توقع ما يحدث دلالياً وتشكيلياً ؛ فهو، بمعنى من المعاني ، دلالة أيقونية على انجراف ما، أو انفصال وانخساف يعتري كتلة العالم أو الحياة فجأة. إن هذا البيت الذي يقف وحيدًا ، ومكتفيًا بذاته يكشف عن بداية مخيفة، وهي بداية حسية سمعية تتلقاها حاسة السمع أولاً، على شكل هدير يمهد لحدث أكبر يتم استقباله على مستوى حسي وعقلي وانفعالي أكثر شمولاً.
بعد هذا البيت – المفتاح، يواجهنا المقطع الثاني وهو أطول مقاطع القصيدة:
في البدء
قبل أن نرى
عندما اصطكتْ ركب الجبال وانهارت
سدّة العالم الخفيّة
تحفر هذه الأبيات طريقها عميقًا في الروح، تمهيدًا لانهيار كوني زلزالي تنهض القصيدة بتقديمه لاحقاً، على شكل تدافع مقطعي، يضج بحسيّة هادرة، تفارق خلالهما الجبال طبيعتها الصخرية الراسخة لتنجرف، وبلغة تجسيدية حارة، إلى التفكك والفوضى.
إضافة الى ذلك فإن الأبيات تكتسي بغلالة بدئية أسطورية، تحيلنا إلى أول الأشياء والكائنات والكوارث، تحيلنا إلى كلكامش تحديدًاً، وإذا كان كلكامش قد رأى كل شيء فإنّ السارد هنا مايزال يرتجل شهادته على ما يرى من انهيار يأخذ طريقه إلى التحقق في اللحظة الراهنة. ومن اللافت أن الفعل المتعدي (نرى) لم يستوف مفعوله، بل ظل مشحونًا بالترقب في انتظار دلالته المؤجلة.
 ويستمرالمقطع الثاني في تدافعه:
جاء هادرًا
يحمل أبواب البيوت
جاء يحمل أشجارًا منزوعة من جذورها
أعشاش اللقالق والتوابيت
عربات وخيولاً
يحمل صندوق حارس تعلوه رايةٌ
دولاب عروس له ثلاث مرايا
في هذه الأبيات يستخدم الشاعر الفعل “نرى ” مرتين: في الأولى يندفع الطوفان بكل جسارته وعنفه حاملاً معه كل شيء: الأبواب، والأشجار، وأعشاش اللقالق، والعربات، والخيول والتوابيت. لكنـه لا يحمل في طريقه بشرًا، بل أشياء الطبيعة، أو ما يعود في أصوله إلى الطبيعة.
في تكرار الفعل ” نرى ” للمرة الثانية، تتغير قليلاً طبيعة المشهد ؛ إذ يأتي الطوفان حاملاً عناصر جديدة ذات وظيفة بشرية هذه المرّة، أعني أنها عناصر لا تكتمل إلا بالبشر ولا تكتسب دلالتها إلا بهم عادة: صندوق الحراسة ودولاب العروس بشكل خاص. وهما صورتان تعمقان طاقة الطوفان التدميرية: الأمن والخصب، الهلاك والجنس، صورتان حميمتان تتعرضان للانتهاك، وهذا التغيير في عناصر المشهد يمثل خطوة تهدف إلى أنسنة الفجيعة في فعل الطوفان، وهو في هياجه الأول.
 إنّ ضحايا الطوفان قد خلت، حتى الآن، من العنصر البشري الخـالص تمامًا ؛ فجبروته يحكم المشهد كله ويدفع به إلى تصاعد دراماتيكي آسر، ومع ذلك فليس هنا، في هذا المقطع من القصيدة حياة تجاهد الطوفان: لا غريق يلوح بيدين مذعورتين، ولا ضحية تلفـظ مع الـماء المالـح أنفاسها الأخيـرة، أو جثـة تهمـد بعـد أن يئست من المقاومة.
ثـمّ يجتمع شمل المقطع ثانية، ويجد الفعل «نرى» مفعوله، أو دلالته التي ظلت غائبة حتى الآن:
قبل أن نرى المهد
قبل أن نرى
المهد يجري على الأمواج
والمرأة تسبح وراء المهد، عيناها
جديلتها الطافية
يبدو لي، هنا، وكأن مشهد الطوفان كله كان في انتظار هذا الجزء لتكتمل به، كما سنرى، أبهة المأساة، وتأخذ هذه الفجيعة المائية المكدرة مسارها الحقيقي؛ حيث تتكرس لوعة الانسان الفـرد وعزلتـه.
أنسـنة الكـارثـة
إن المهد بما يحمل من خزين إيحائي ديني، وأسطوري، واجتماعي سيرتفع بمشهد الطوفان إلى ذروة كبيرة؛ فنحن هنا لا نرى المهد معزولاً عن تداعياته الراسخة في النفس والذاكرة. هناك بصيص، وإن كان خافتاً، من الأمل يشتت كدر الماء فنستحضر، دون وعي منّا ربما، كل ما ادخرته الذاكرة من حنو الأنهار على المهود، والاندفاع بها بعيدًا عن احتمالات الموت أو الأذى.
حين يدخل المهد في تفاصيل الطوفان الهادر هذا، فإن المشهد التدميري كله يتعرض لتصعيد من نوع خاص، وهذا التصعيد ينتج، في ظني، من حقن المشهد بالنفس الإنساني، لقد كان المشهد، حتى هذه اللحظة تقريبًا، مشهدًا شيئيًا، خرابًا مائيًا يعصف بأشياء الإنسان وهبات الطبيعة، غير أن المهد سيضمن لهذا الخراب بعدًا شجياً يتغذى على الأسطورة، والدين، وعواطف البشر.
كما أن حضور الإنسان يدشن مشهد الطوفان للمرة الأولى، فيخرجه من ارتجال الطبيعة، وتلقائيتها المفرطة إلى البعد الإنساني النابض بالموت والحياة معًا. وهذا الحضور لا يتمثل في وجـود إنساني مهمل، أو كتلة بشرية يحملها التيـارعلى هواه، بل على العكس من ذلك تمامًا، إن المهد هو الذي «يجري» على الموج. إن المشي على الماء، فعل نبوي، خارق، ومعجز، كما أن المهد في هذا المقطع لا يتحرك بذاته، بل بمن يملؤه ويحلّ فيه، إنه مصدر الكلام النبوي، المفحم .
ثم يتحرك المشهد خطوة، في سلم العذاب الانساني، أكثر مرارة حين تدخل المرأة، الأم بطبيعة الحال، وهي تسبح وراء المهد الطافي على الماء. هل كانت ستكابد لاسترداد المهد لو كان فارغًا؟
إن دولاب العروس ومراياه الثلاث، والمهد أو طفل المهد، كما يتيح لنا المجاز المرسل أن نتكهن، والمرأة التي تصارع الموج. إن كل ذلك ينتمي إلى حقل وجداني ودلالي مليء  ، لا بالإيحاءات الاجتماعية واللذائذية فقط ، بل بالإحالات الدينية، والشعبية ؛ فالرقم ثلاثة مثلاً شديد التجذر في المعتقدات والشعائر والعادات، كما أن المرأة تكتنز قدرًا عاليا من إيحاءات الجمال وإيحاءات الحنوّ و القوّة أيضاً. إن ما تعرفه البشرية عن أمهات الأنبياء يفوق، إلى حد كبير، ما تعرفه عن آبائهم ؛ فليس للأنبياء، غالباً، إلا أمهات وحيدات تحمّلن معهم عذاب النشأة أو عذاب النهاية ، لذلك فإن هذه المرأة التي تصارع جنون الطوفان سابحة وراء المهد ستكون، في المقطع الثالث، عصبًا أساسيًا يشد جسد المعنى وشحنته التساؤلية القاسية :
من يوقف العالم عن الانجراف
أو يسدّ من أجلنا باب القيامة، بأية صخرة؟
لا أحد..
من يعيد إلينا القامة التي تغيب
من يرفع المهد كالطائر من بين مخالب التنين
أو يوصل إليه الأم الغريقة؟
لا أحد…
في هذه الأبيات تبلغ الحيرة مداها الأبعد، ويزدهر حشد من الأسئلة الباعثة على اليأس. العالم ينجرف إلى الهاوية، والضفاف تضجّ بالاستغاثات التي لا يملك الواقفون على الضفاف سواها؛ فهم يتأملون، بعجز كامل،  اكتمال الكارثة وهي تكتسح، في طريقها، العالم كله وما يمثله من قيم ودلالات روحية، وجمالية، واجتماعية ووجدانية.
إن شرخًا كبيراً يفتت كثافة العالم وتماسكه، ويباعد بين الأم وطفلها في المهد، وبينها وبين دولابها ذي المرايا الثلاث ؛ فمن يردم هذه الهوة التي لا قرار لها؟ ومن يوقف يوم الحشر هذا ؟ ثم يأتي سيد الأسئلة وأكثرها دلالة ، عمن يرفع المهد من أنيـاب التنـين، ومن يوصل أمّه الغـريقة إليه؟ والجـواب على هـذا الـوابـل من الأسئلة: لا أحد.
 تعلن القصيدة، في هذا المقطع، يأسها التام من أي مسعى للوقوف في وجه هذا الخوف الكوني: لا أحد. ليس إلا اليأس يهيمن على المشهد كله، غير أن المقطع الرابع يشهد حدثًا طارئًا يخترق هذا التردد، والذهول، والحيرة:
رجل واحد ألقى بنفسه لاعنًا في التيار
تلقّاه النهر الهائج كأنه ذبيحة
صارع قليلاً، صاح مرة
واختفى…
يختض هذا المقطع تحت عبء فادح من الأفعال، نحسّ للوهلة الأولى وكأن الواقفين على الضفاف، أو بعضهم على الأقل، قرر الانخراط في هذا الطوفان الكوني، منفلتًا من دائرة انتظاره الأعزل، متجهًا صوب التيار بشجاعة مهلكة. لكن أكان الأمر يتعلق بالشجاعة حقاً، أم أن ما أقدم الرجل على فعله كان استجابة لنداء الماء، ذلك الفاتن، الغامض، اللانهائي ؟ أليس الماء، كما يقول باشلار، دعوة إلى الموت؟ ثم أليس الماء، بعبارة باشلار أيضاً؛ مادة الموت الجميل الوفي( ) ؟ وهكذا تكون الضحية قد اختارت، وبيأس منقطع النظير، حصتها المؤكدة من هذا الموت المائي الشاسع. وبدل أن تسهم في تعديل اتجاه الموت فإنها تذوب في ثناياه كالذبيحة، لتعزز كثافة النهاية وتعجل من اكتمالها الخاطف:
صارع قليلاً، صاح مرة
واختفى….
ثمّ تأتي خاتمة القصيدة خافتة مخذولة لتسجل شهادة الواقفين على الضفاف، إنهم يعتصمون باللغة، ويحتكمون إليها في شهادتهم على ذلك الغضب الكوني الذي صنعه جبروت المياه العنيفة. لقد ظلوا في ملاذهم على اليابسة يرقبون الطوفان ذاهلين وهو يقتاد العالم إلى نهايته:
هذا ما رأيناه في صباح الفيضان
نحن الشهود على الضفاف
 وهكذا يكتمل فعل الرؤية أو الرؤيا، ويكتمل الفعل ” نرى ” مرتين: مرة حين يستوفي مفعوله، ومرة حين يحقق دلالته الزمنية على الماضي الذي لا يقبل التغيير، وكأنّ الشاعر كان يأخذنا الى أقصى البدايات، حيث ما يزال العالم يعيش أولى حماقاته وكوارثه، يأخذنا الى خطيئتنا الأولى، حين ارتضينا الوقوف على الحافة نرقب الطوفان عاجزين، وهو ينجرف بنا بعيداً الى مصائرنا المجهولة.
إن هذا الطوفان، الذي يرقبه الواقفون على الضفاف، ليس طوفانًا منقضياً يعاد سرده، أو استحضاره مرة أخرى من قبل الشاعر. بل هو، وكما تقترح علينا قراءات ممكنة أخرى للنصّ، ما يحدث الآن وقـد حمل ميراثـه الكبير من جبروت الماضي وفوضاه ؛ حتى تأخذ المفارقة الراهنة بهاءها الكارثي كاملاً، وحتى تلتحـم معــاً حماقات الطبيعــة و حماقــات التاريــــخ، وتتنامى في تصاعــد تراجيــدي يأكل في طــريقــه البشــر، والأعــراس.
أصـداء الطـوفـان  
الطوفان، في قصيدة سركون بولص، هلاك يتمدد على سرير كوني، فعل أسودُ يتكاثر عبر التكرار، والإعادة. غير أن التكرار هنا، لا يعيد ذاته تمامًا، بل يرتجلها بكيفيات متباينة: المياه وهي تفصح عن غرائزها السوداء، النهر وهو ينخسف، كخاصرة لينة منزاحًا عن الأرض، الشهود وهم يتأملون هلاك الحياة. تكرار لا يحدث داخل النص فقط، بل ينحدر إليه من مياه عديدة تشكل، مجتمعة، هذا الطيش المائي الذي يتغذى على مصادر بالغة التنوع والإثارة.
وموضوعة الطوفان أو صوره، تتناثر، كأصداء مريعة، في الكثير من أعمال سركون بولص؛ فليست هذه القصيدة، وحدها، هي التي جسدت الطوفان الذي يعصف بكل شيء، وكأن طوفان الماضي وطوفان النفسّ، كليهما، كانا يهدران في أعماق الشاعر منذ الأزل ؛ حتى بدت شباك اللغة عاجزة عن عرقلتهما، أو التعبير عنهما. القصيدة، في هذه الحالة، ليست أكثر من اندفاعة  من اندفاعات هذا الماء الغاضب. كيف للشاعر أن يقتنص هذا الغضب المائي كله في قصيدة واحدة؟ كيف له أن يفرغ من طوفانه الخاص، الذي يعصف به منذ بدء الخليقة، وفي نصّ شعري مكتفٍ بذاته ؟
لهذا كله فاض هذا الحدث، عن حدود النص الواحد، وتطاير ما فيه من شرر وتفجع كارثـيـين في كل اتجاه ؛ ففي مجموعته الشعرية (إذا كنت نائمًا في مركب نوح)، مثلاً،  لا يستحضرالشاعر شيئا عابرًا من مستلزمات الطوفان، بل يقتنص روحه هـو  وهي ترتطم بالقاع ، في مسعًى لا يبدو أنه أقل عذابًا من الطوفان نفسه. العنوان، شعريًا، هو جزء من بيت لجلال الدين الرومي، أما تركيبياً فهو جزء من جملة شرطية تُرك جواب الشرط فيها للطوفان أو لمخيلة القارئ.
أين تكمن النجاة من الطوفان إذن ؟ من يبعد عنا رعدة الخوف منه، المركب أم النوم ؟ الشعر أم النبوءة ؟ الهرب أم المواجهة ؟ المشكلة أن مركب نوح لا يقف هناك: في الواقع، أو في التاريخ، أو الأسطورة ،؛ بل  هنـا : في صميم الألـم وحيـرة الــداخـل :
في رأسي
مركب نوحٍ في بحر متلاطم من المخلوقات
تدوزن كل سمكة فيه حراشفها.
إن هذا الطوفان الداخلي، هذا الإرث الذي خلفته حماقة الماء، ما يزال كامنًا في الروح والجسد، في الحواس والمخيلة. لذلك فإنّ التفات الشاعر الى الطوفان، أوالتذكير به عملية تتجاوب أصداؤها في الكثير من قصائده :
– ربما هي الريح يا سيدي. لي دونغ
جاءت لتسرد علينا مرة أخرى قصة الطوفان
– ذات يوم سأقول لأمواجه:
سوف أطفو فيك على قُـفتي أيها المحيط الهادي
وبضعة من كتبي المفضلة
محمولة على ظهري
عائدًا من جديد إلى قصة الطوفان
– بسطالٌ
من دون سيور، مسمارٌ
لا يصلح حتى للصلب، وغربان متخمةٌ
تنعق بين حطام مراكب لم تنج من الطوفان
تنـاصّ داخلـيّ
وقصيدة (شهود على الضفاف) لا تسترجـع الطـوفـان، أو ما يخلّفـه من هلاك قابل للتجدد عبر العصورعلى المستوى الدلاليّ فقط، بل تعيد، عبر حوارها مع نصوص الشاعر الأخرى، صيغاً أدائية محددة،  وتناصات طوفانية عديدة فيها من البراعة قدر ما فيها من فجيعة الروح.
لنتأمل، ثانية، هذا المقطع الضاجّ بالحركة:
عندما اصطكت ركب الجبال وانهارت
سدّة العالم الخفية
جاء هادراً
يحمل أبواب البيوت
جاء يحمل أشجاراً منزوعة من جذورها
أعشاش اللقالق والتوابيت
إن هذ المشهد المثقل بالعنف والارتجاج والتشظي يستمدّ الكثير من عناصره، أو يوزعها ربما، على قصائد أخرى ؛ وكأنّ الشاعر لم يفرغ منه في هـذه القصيدة، أو سواها، مرة واحدة ، فظلّ يتشظّى مريراً وقاسياّ في أكثر من نصّ، كما ظل أنينه يتناهى إلينا من قصائد متعددة أخرى، عبر منحى بلاغي لا يكف عن التذكير بذاته:
من قبل، أوقات كهذه
جاءت من قبل. أوقات عرفنا فيها
أعاصير لا تكف عن اقتلاع الأشجار
من جذورها
لقد فرضت صورة الأعاصير الباطشة بالأشجار، عبر التكرار من جهة والعودة إلى المشهد ذاته من جهة أخرى، شحنتها الوجدانية والمجازية معاً على مخيّلة الشاعر، وحفرت في روحه الكثير من الندوب التي ظلت لصيقة به، وظلّ بدوره عاجزاً عن الانفلات منها:
– كيف نمضي مرة أخرى
إذا ما جاءتنا أيام عرفنا فيها أعاصير
لا تكف عن اقتلاع الأشجار من جذورها
– جبال تحركت، وانهارت
عوالم كاملة على رؤوس الغرقى
إن هذه المقاطع، وغيرها، تلح بعنف على التقاط هذه اللحظة الكارثية الخاطفة، حين ينهار العالم، وتتحرك الجبال من أماكنها، وتقتلع الأشجار، أعني حين يدب التفتت والفوضى في جسد الكون وتقتاده المياه الهائجة إلى نهايته.
وحين نتأمل الجزء التالي من المقطع ذاته يتعزز لدينا ثقل المغـزى الكـارثي لحـركة الطوفان المهلكة:
يحمل صندوق حارس تعلوه راية
دولاب عروس له ثلاث مرايا
قبل أن نرى المهد
قبل أن نرى
المهد يجري على الأمواج
تفيض صورة دولاب العرس هنا بإيحاء خاص: ذكرى مرفرفة في طريقها إلى الغياب، أو بهجة تلتمع ثم تخبو في تداعيات هذا المشهد العاصف. لقد عمقت هذه الومضة من عنف الموت ودلالته؛ فهذا الموت المائي الأسود المدوّي يفتك بأكثر الضحايا هشاشة وعذوبة: الخشب المشوب بالقداسة، واللذة المهددة بالنسيان.
إن الاكتمال القاسي للطوفان مرهون بطبيعة ضحاياه ؛ فكلما كانت ضحيته عامرة بالإيحاء والتداعيات كانت دلالته على ذاته أشدّ وأقسى. وصورة دولاب العروس تمتد ، كسابقاتها، فـي وشيجة تناصية ثاقبة الى نصوص أخـرى للشاعـر، فهي، بـدلالة التكرار، مركـوزة في نفسه بعمق:
– ماذا حدث لصانع
دواليب العرائس
كم كان يقدس الخشب
– صندوقُ عروسٍ
تهرب في الفجر إلى ميناء
ولا تتوقف التناصات الداخلية عند هذا الحدّ، فالمهد والتابوت الطافيان على الماء يتمددان، أيضاً، خارج هذه القصيدة وكأنهما صورة بالغة الرعب والجاذبية، تنشب مخالبها في مخيلة الشاعردائماً، و لا يمل من استثمارها بين حين وآخر، لتثير رعدة الأسى في مياه الـنصّ ودلالتـه.
في قصيدة (رسام الأهوار) يقف الفن والموت في منازلة ينتصر فيها الفنّ  رمزياً حين يضفي الخلود على كل شيء:
كل شبكة مفرودة للصيد في الريح
كل مشحوف طاف كالمهد أو التابوت
على بحر من الغرين
وهكذا يطفو المهد والتابوت، ثانية، على الماء. إنّ كليهما يحتضنان دلالة البداية والنهاية، وكليهما أيضاً يمثلان نقطة دلالية مشتركة بينهما ؛ فالمهد سرير الكائن في أول العمر، أمـــــا التابوت فهو مهد الميّت، أو سريره الأخير.
تنـاصّ خـارجـيّ
وأنا استعيد قصيدة (شهود على الضفاف) أجدني مدفوعاً بعنف الطوفان وتياره المهيب، الى الاصغاء الى تناصات كثيرة، لا تقع ضمن قصائد الشاعر، بل تتجاوزها الى نصوص خارجية مختلفة:  دينية، وأسطورية، وشعرية . ولا غرابة في ذلك فنحن أمام شاعر مزود بثقافة فذة، ووعي عالٍ بالتراث، كما أن لغته تتميز غالباً بمتانة وإحكام مشوبين بغرابة صادمة. أحسّ أحياناً وكأن مشهد الطوفان، في هذه القصيدة يستبطن ، وبجاذبية لا تخلو من جلال ورهبة ، بعضًا من الأجواء القرآنية المبهرة، ويستعيد أيضاً الكثير من صور الطوفان السومري والبابلي.
إضافة إلى ذلك فإن هذا المشهد يأخذني إلى امريء القيس، أعني إلى مشهد السيل في معلقته الشهيرة. ويتملكني إحساس، لا أستطيع تجاهله وأنا أقرأ هذا النص، أن سركون بولص، وهو يشيد طوفانه الخاص، لم يكن بعيداً عن طوفات عديدة تتناهى إليه من ماضٍ غابر، أو روح مليئة بالرضوض، ويبدو لي أن مشهد السيل، في معلقة امريء القيس تحديداً، كان واحداً من تلك الروافد التي غذت مخيلة الشاعر وأمدت طوفانه الشعريّ بهذا العنف كله .
من الطبيعي القول بأن هناك حراشف لغوية جارحة تحول بيننا وبين ما في أبيات امريء القيس من عنف مائي خلاب، ولابد من إزالتها أولاً، ليتاح لهذا السيل المتدافع أن يلمس حواسنا وذائقتنا، ويصبح ، بالتالي، عنصراً نشيطاً في تكوين الدلالة.
 لقد توافر في هذين النصين عـدد من المكونات التي تجعل الشبه بينهما كبيراً على المستويين البلاغي والدلاليّ ، منها على سبيل المثال :
– اقتلاع الأشجار أوالنخيل .
– أنسنة الطبيعة .
– السباع الغرقى  التي تحولت خيولاً لدى سركون بولص .
– هيمنة الصورة البصرية.
لعبـة التكـرار 
يخرج التكرار، في هذه القصيدة، عن وظيفته التقليدية في التوكيد ّ ؛ فيذهب أبعد من ذلك، لا للتوكيد على كثافة الدلالة أو فداحتها، بل على انتشار هذه الدلالة وتفشّيها في عموم النص، وتَـردد أصدائها في مختلف أرجائه. وقبل مقاربة هذا الحشد من التكرارات لابد من الإشارة إلى ولع سركون بولص بالتكرار في مجمل شعره مما يكشف ، بوضوح وعمق، عن انشداده إلى الأدب العراقي القديم. واستيحائه الكثير من مظاهره الروحية والفنية ؛ فـقـد كان التكرار واحداً من أكثر السمات وضوحاً في الشعر السومري وكان يمثل فعالية مزدوجة، في الأداء والدلالة معاً. وتتجلّى خاصية التكرار هذه، مثلاً، في قصيدتيه: (كواكب الذبياني) و(بورتــريـه للشخص العــراقي في آخــر الــزمن):
– أيها الصباح الجميل يا ابن الزنيمة
خلت هذه الليلة لن تنقضي
خلتها نسيت كيف تنقضي الليالي وكدت أُسلم أمري..
كدت أسلم أمري أيها الصباح الجميل يا ابن الزنيمة
وخلت هذه الليلة لن تنقضي أبداً..
– وبأي وجه ستأتينا، هذه المرّة، أيها العدو؟
 بأي وجه،
ستأتينا أيها العدو،
هذه المرّة ؟
ومع أن تحليل هذين النموذجين من التكرار، لا يقع في الصميم من اهتمامي هنا، إلاّ أنهما يكشفان، ببلاغة ضافية رغم وجازتها، عن تلاحم النصّ مع دلالته؛ فالليلة النابغية تظهر، في النموذج الأول، متشابكة، رتيبة، متماثلة تبعث على المرارة والغيظ، وكان التكرار الكثيف قادراً على جلاء هذه الدلالة بطريقة مدهشة حقاً.
ولا يختلف الأمر في النموذج الثاني؛ عن الخراب الذي كان قدر العراقيين ، منذ بدء التاريخ كما يبدو . يأتي دائماً مدججاً بشهوة الهلاك والمحو: عدو لا تتغير طبيعته المهلكة، وإن كانت أقنعته لا تحصى.
في (شهود على الضفاف) يدخل التكرار في اللعبة الشعرية منذ البداية، أعني منذ البدايتين: بداية النصّ وبداية السرد في تشابك دلالي وتشكيلي بالغ الحيوية:
-في البدء سمعنا الهدير
-في البدء
-في البدء قبل أن نرى
تهيئنا هذه اللازمة، ومنذ المفتتح، لانتظار متوتر وخصب يُغذّيه تنامي القصيدة، وتصاعدها في الطريق الى دلالتها الكلية. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن هذه البداية، المترعة بالتكرار، تمثل التفاتة ذات مغزى إلى البدايات حيث يختلط التكراربالبكارة، والحياة بالموت، والبراءة بالإثم.
إن القصيدة، لا تتقدم صوب خاتمتها، في خط مستقيم، أملس، ومسطح، بل من خلال حشد من التواءات التعبير، والارتدادات الزمنية، وتكرار الصيغ والأحداث، وفي تدافع سردي شيق:
-جاء هادراً
-يحمل أبواب البيوت
-جاء يحمل أشجاراً منزوعة من جذورها
-يحمل صندوق حارس تعلوه راية
ومع استمرارهـذا العنف الصوري، ينهض التكـرار فجـأة من خـلال ظرف زماني ومكاني معاً:
قبل أن نرى المهد
قبل أن نرى
المهد يجري على الأمواج
ليؤجج فضولنا، ويجعل دخول المهد الى المشهد حافلاً بالإثارة، إضافة إلى ذلك فإن الظـرف ” قبل ” يعـزز المسار السردي للحـدث ويمنحـه مـزيداً من القـدم والمهابة.
وتتوالى التكرارات، في المقطع الثالث من القصيدة:
-من يوقف هذا العالم عن الانجراف
-من يعيد إلينا القامة التي تغيب
-من يرفع المهد كالطائر من مخالب التنين
يمثل تزاحم الأسئلة وتكرار صيغها ازدهاراً للحيرة وغياباً يكاد أن يكون تاماً، لأي إجابة ممكنة. كما أن استخدام أداة الاستفهام “من ” تحديداً يكشف عن تعطيل طاقة البشر، وعجزهم عن فعل المواجهة أو محاولة التغيير.
إن الأسئلة، هنا، تكشف عن حيرة روحية كبرى، وخيبة فادحة تتجسد في بحث هذه الأسئلة عن الردّ دون جدوى، وكأنها أسئلة ملقاة للريح أو للعراء. لقد كان جوابها الوحيد هو النفي الذي يتكرر مرتين، قاسياً كالصمت:
-لا أحد
-لا أحد
وهكذا يتكرس سلطان الغياب، وترتفع راية الطوفان كالظلام المشعّ في كل اتجاه، لاسيما في المقطع الـرابع حيث شهـد حـركـة وحيـدة قابلة للحياة؛ غير أنها بدلاً من أن تتصاعد صوب أفق مفتوح على أمل ما، فإنها أسدلت  ستارة بيننا وبين أيّ تغيير ممكن.