لا تبدو الإجابة على هذا السؤال يسيرة للوهلة الأولى، فقد عاش جبرا إبراهيم جبرا حياة حافلة بالفرح واللذة والمغامرة والنجاحات، كما يتضح من سيرته الذاتية ومنجزه الإبداعي. ومع ذلك فإن ثمة ترابطاً عميقاً بين اللذة والموت في الكثير من أعماله الروائية، وهو موتٌ غرائبيٌّ أو أسطوريٌّ. ومثلما يرتبط الموت باللذة في أعماله فإن هذا الموت ملتقى للموت الشخصيِّ بالموت العام، أي أن الجانب التراجيدي من شخصيته يلتحم ويفنى في الموت التراجيدي الفلسطيني الذي كان هاجس جبرا ونشيده الداخلي الحافل بالعذاب العظيم.
كانت حياة جبرا وأدبه وترجماته شبكة شديدة الجمال والألم والترابط في آن معاً. والمدهش، حد الفجيعة، أن حياته ومجده الأدبي ونهاياته اشتبكت مع حياة بغداد ومجدها القاسي ونهاياتها الكارثية أيضاً. كانت حياته استثنائية بكل المعاني، عبّ فيها ما لذّ وطاب من ملذات العقل والجسد والمخيلة. وكما عبّ حد الثمل من نشوة النجاح وبريق الشهرة فإنه عانى حد الألم من انكسار الحلم وتدفق الظلام والذبول على بغداد وفلسطين وعلى جبرا نفسه، فكأنه يتنقل تنقلاً ذا دلالة من كاريزما النجومية الى قهر التراجيديا في أواخر العمر.
وكأن ثمة مزاجاً تراجيدياً يكمن في القرار البعيد من نفس جبرا. ولم يكن متاحاً، كما يبدو، للمارين على نتاجه الروائي والشعري والترجمي على عجل التوقف عند ذلك الجذر. كان جذراً بعيد الغور يرضع من طينة روحه التي عركتها غربته الشخصية وغربته الفلسطينية الكبرى. لقد اختار للترجمة تراجيديات شكسبير تحديداً، من بين نتاجه المسرحي الغزير كله. ويبدو لي أن ذلك الجذر المأساوي الكامن في طبيعة جبرا وفي قرارة روحه رجّح لديه ترجمة التراجيديات الشكسبيرية دون سواها. و انسجاماً مع هذا الجذر المأساوي المتأصل في روحه لم يختر من كتاب ” الغصن الذهبي ” لجيمس فريزر، إلاّ الجزء الخاص بالإله “أدونيس أوتموز” دون سواه من فصول هذا الكتاب الضخم والمثير. ولا يخفى ما يحمل مقتل أدونيس من دلالة رمزية على الموت والخصب والتجدد.
ومن جانب آخر مازج جبرا إبراهيم جبرا، بحميمية واقتدارعاليين، بين تراجيديته الفلسطينية الطاحنة، وعراقيته الرافدينية المفعمة بحس أسطوري كارثي نادر. وقد تجلى الكثير من ذلك في أعماله الروائية. وقد استطاع جبرا كما يقول صديقه الياس خوري، القدس العربي 20-4-2010، أن يصنع ” هذا الامتزاج الفلسطيني العراقي الذي لا نرى له شبيها في التجربة الأدبية الفلسطينية المعاصرة”. لقد وضع جبرا الحنينَ في سياقٍ عراقيّ قادر على ان يكون احد مرايا بغداد الأدبية القليلة، بحيث صار الفلسطينيُّ جزءاً من السؤال العراقيّ.
كان لا بد أن يرحل جبرا إبراهيم جبرا بعد أن بدأ حلمه العراقي والفلسطيني بالتصدع حجراً حجراً ورواية رواية. رحلت حبيبته البابلية، وكفّ الناس عن البحث عن وليد مسعود، وتوزع الابناء على المنافي، وماعاد هذا الليل الطويل صالحاً للسهر أوالحنين أو الكتابة، فليس هناك إلاّ للصراخ، وليس هناك إلاّ اللحاق، في 1994 بمن أحبها وأحبته.
لكن الموت الأسطوري لجبرا إبراهيم جبرا لم يكتمل تماماً إلاّ في بداية نيسان 2010. في مطلع هذا الشهر القاسي اكتملت فتنة جبرا بالأساطير، حيث خرج الليلك من الأرض الموات، كما يقول اليوت، وامتزجت الذكرى بالرغبة. وصل موت جبرا الى منتهاه، حين تم تفجير بيته الجميل في شارع الاميرات. خمسون عاماً قضاها جبرا في خلق الجمال والدعوة اليه والاستمتاع به تحولت الى ركام . كانت دماء الإله تموز وعبيره يتسربان من تحت الانقاض. وكان ثمة محرقة بحق الجمال الصافي، سال الحبر والجمال النقي من الكتب المتفحمة، وتدافعت الخيول تخوض في الظل والضوء والألم، وهي تسيل من لوحات الرسامين الكبار. واندلعت في شارع الأميرات عاصفة من رعد أخرس ومطر كئيب، وراحت شظايا الآلات الموسيقية تتطاير في ذاكرة العراقيين التي بدأت تتآكل فرط خوفها من كثافة الموت القادم .
كان تقرير الشرطة، وهذه مفارقة موجعة أخرى، لا يشيرالى صاحب هذا البيت العامر بالجمال الذي تم تفجيره. فالشرطة، في بلادنا المهدمة، لا تشم الجمال ولا تتذوقه. كان مجرد بيت لا أكثر، وكأنه لم يكن ملتقىً لنخب من مبدعي الجمال وعاشقيه طوال خمسين عاماً.
كان موت جبرا يتعدد ويتسع ويتكاثر، فهو أكبر من البيت الذي تم تدميره تماماً، وأضخم من القبر الذي لم يتم العثور عليه في مقابر بغداد جميعاً *. لقد تمرّد على ضنك المكان، وانتصر على ربقة الحجر وصدأ الحديد، لينتشر في هواء بغداد، موزعاً على قلوب مثقفيها ومبدعيها. ليظل، في استعادةٍ لما قلته عنه ذات يوم، واحداً من تلك الطيور النادرة التي لا تطيق التحديق في الأنهار المطمورة أوالمنحدرات. فقد كان مثلها، تماماً، لا يعرف إلاّ الغيم والرعد وشجر الأعالي.
.________________________________
* مجلة “رؤى فكرية”، التي تصدر عن مختبر الدراسات اللغوية والأدبية بجامعة سوق أهراس بالجزائر، كرست عددها السادس،2017، للاحتفاء بالمبدع الكبير جبرا إبراهيم جبرا. وقد ساهم في هذا العدد الخاص مجموعة من النقاد والكتاب، من أصدقاء جبرا وزملائه ودارسيه، بينهم عبد الواحد لؤلؤة، محمد عصفور، مي مظفر، ابراهيم السعافين، حاتم الصكر، وكاتب هذه المقالة وآخرون.
*في احتفال أقامه اتحاد الكتاب في العراق، قبل أسبوعين، ألقى د. أحمد عقل كلمة باسم سفارة دولة فلسطين، قال فيها ان فكرة عقد هذه الجلسة نشأت بعد ما عجزنا عن العثور على قبر الفقيد جبرا، في المقابر المسيحية والإسلامية في بغداد.لاحقا وفي التعقيب على هذه المقالة، أشار الشاعران الصديقان أديب ناصر وعبد المنعم حمندي الى أن قبر جبرا إبراهيم جبرا يقع في مقبرة محمد السكران في شمال بغداد، وكانا قد شاركا في تشييعه ودفنه هناك.