علي جعفر العلاق شاعر وهب اللغة لمعانا

 

العراقي الفائز بجائزة الشيخ زايد للكتاب لهذا العام واحد من أبناء جيل ضاع بين ستينات القرن العشرين وسبعيناته.

أشبه براقص لا يراقب قدميه وهما تستجيبان لوقع نغم تعرفان مسافاته

مثل مشيته، مثل صوته، مثل نظرته كانت قصيدته دائما منغّمة وخفيفة ومحلقة وغامضة. كان عليّ أن أنتظر طيور الغراف لتحل لي لغز ما قرأته من شعره. ولكنّني اكتشفت في ما بعد أنني لا أحتاج إلى فهم ما أقرأ بعد أن صرت أهذي بمقاطع من قصائده كما لو أن أصابعي قد تلوثت بحبرها.

 اكتشفت بالصدفة أن معلمي كان شاعرا شابا. ولكنّني كنت أضع كتابه الشعري الأول “لا شيء يحدث لا أحد يجيء” قرب وسادتي. كتاب بحجم الكف يكاد يتهشم من كثرة ما تصفحته.

 لم أخبر علي جعفر العلاق بعد أن صار صديقي أنني كنت أحلق وأنا أقرأ قصائده القصيرة. كان من الصعب أن أخبره أن لغته تملأ رئتي هواء مختلفا وكانت عيناي تمتلئان بالمياه وهما تجربان السباحة بين سطوره. كنت في الوقت نفسه أقرأ لأدونيس وأنسي الحاج غير أنني لم أرقص إلا مع أبياته “وزع لغة الصبر علينا/ جرب لغة البكائين/ الليل شبابيك تهذي/ وعصافير الفرحة طين”.

التجربة إلى أقصاها

 

◙ الشاعر وقصيدته هما الشيء نفسه
◙ الشاعر وقصيدته هما الشيء نفسه

 

 ما لم أفهمه جعلني أكثر شغفا بالشعر، كما أحببته وكما استجاب له مزاجي. حين ذهبت إليه حاملا دفتري الشعري الأول كنت أفكر في المسافة التي اجتزتها وأنا أصل إلى شاعر تمكن مني بغموض لغته. سيكون عليّ أن أسمع كلاما مختلفا. ذلك ما حدث حين نصحني العلاق بقراءة كتاب “الشعر والتجربة” لإرشيبالد مكلش.

 كان ذلك الكتاب أكبر مني. ولكن معلمي قرر أن أذهب بالتجربة الشعرية إلى أقصاها. أن أفهم ما الذي يعنيه الشعر من عذاب. قدم لي يومها خلاصة تجربته في القراءة.

شعرية الأشياء

علي جعفر العلاق الفائز بجائزة الشيخ زايد لهذا العام عن سيرته الشعرية “إلى أين أيتها القصيدة؟” هو واحد من أبناء جيل، ضاع بين ستينات القرن العشرين وسبعيناته. فهو لم يكن ستينيا ذلك لأنه نشر كتابه الشعري عام 1973 وهو أيضا لم يكن سبعينيا لأنه تربى شعريا على لغة استخرجها في الستينات. حدث ذلك لغير شاعر في بلد، كان الشعراء فيه يظهرون على شكل جوقات.

ظهر العلاق وحيدا من غير أن يكون له أب شعري في العراق. لم يكن سيّابيا (نسبة إلى بدر شاكر السياب) ولم يكتب قصيدته على غرار ما فعله الشعراء الستينيون المتمردون حين اتبعوا طرقا في الكتابة الشعرية فيها الكثير من الشغب والخشونة في محاولة منهم لاستفزاز القارئ. كان غنائيا بلغة متماسكة وتوتر مضموني يذوب داخل شكل يتأنق كلما اصطدمت مفردة بمفردة سبقتها.

كان علي العلاق أشبه براقص لا يراقب قدميه وهما تستجيبان لوقع نغم تعرفان مسافاته. كنتً أراقب ما سيحدثه السطر الشعري المقبل قبل أن يقع. ذلك لأن مختبره اللغوي الذي يفيض رقة وعذوبة مكتظ بالمفاجآت التي تهب المفردات معاني مجاورة. مع علي العلاق يمكننا الحديث عن شعرية الأشياء. فهو يلتقط مشاهده ويعيد تخيلها بما يفجر في لغته الشخصية مواقع سعة جديدة.

ولد علي جعفر العلاق عام 1945 في الكوت. عام 1973 تخرج من كلية الآداب – الجامعة المستنصرية بعد أن درس اللغة العربية. نال شهادة الدكتوراه من جامعة إكستر ببريطانيا عام 1984. عمل في التدريس الأكاديمي في بغداد وفي المؤسسات الثقافية إلى أن أصبح رئيسا لتحرير مجلة “الأقلام”. درس الأدب والنقد في جامعة صنعاء بين عامي 1991 و1997. بعدها انتقل للتدريس في جامعة العين بدولة الإمارات حتى عام 2015.

أصدر كتابه الشعري الأول “لا شيء يحدث لا أحد يجيء” عام 1973. بعده أصدر أكثر من عشرين كتابا شعريا. جمعها في مجلدين ضمت أعماله الشعرية.

بوكس

كتب العلاق في نظرية الشعر ونقده فأصدر عشرة كتب، أولها “مملكة الغجر” عام 1981 وكان آخرها “إلى أين أيتها القصيدة؟” الذي هو عبارة عن سيرة ذاتية. وهو الكتاب الفائز بجائزة الشيخ زايد لعام 2023. وقد سبق للشاعر أن نال جائزة سلطان عويس عام 2019.

قوة حياة متخيلة

“حين فاجأني الحلم/ وانكسرت سعفة الغيم/ طاردني الشعر/ طاردته/ هاربا من دخان يديه/ والتجأت إلى الجن/ أضرمت الجن في جسدي النار/ أهدت رمادي إليه”. يختزل العلاق من خلال تلك القصيدة علاقته بالشعر وهي علاقة على درجة عالية من التفاني والذوبان والتماهي.

الشاعر وقصيدته هما الشيء نفسه. فالشاعر حين “يذوب في يده خيط الكلام/ لا يرى طريقا إلى المعنى/ سوى لغة بيضاء غائمة”. تلك هي القصيدة التي لا تتسع لكلام فائض. ولا تصلح لصناعة قالب جاهز يمكن أن تُستنسخ بالاستعانة به قصائد أخرى.

يتحرك العلاق في فضاء لغوي كان واضح المعالم منذ كتابه الشعري الأول وكان ذلك الفضاء يتسع مع كل قصيدة جديدة يكتبها من غير أن يلتفت إلى ماضيه، أشبه بصائغ الذهب الذي يخترع أشكالا جديدة ليفاجئ مادته بلمعانها عمل العلاق على اللغة ليهبها قوة حياة متخيلة.

لم تكن هناك اتجاهات في الشعر العراقي الحديث. فلا شيء يجمع بين شاعر عراقي وآخر من جيله أو من جيل سبقه أو جيل لحق به. تلك ميزة طبعت العراقيين وهي انعكاس لمزاجهم الفردي، العصي على الاحتواء بما يجعله جزءا من ظاهرة. لذلك ليس غريبا على العلاق باعتباره شاعرا كبيرا أن يبدأ من لحظة قطيعة مع الشعرية العراقية التي تقع على جغرافيا واسعة لم يتسع الوقت بعد للنقد الأدبي أن يلم بتضاريسها المعقدة.

 ما فعله العلاق أنه أضاف أراضي جديدة إلى تلك الجغرافيا، سيكون من الصعب العثور على ما يشبهها. لم تكن قطيعته مع الشعرية العراقية وهو الناقد المحترف مخططا لها بل حدثت انسجاما مع اكتشافاته اللغوية التي سعى إلى تكريسها عبر كدح جمالي أسس لقواعد كتابة شعرية جديدة.

ليل العراق الطويل

في قصيدته “ليل عراقي” يقول “راكضا صوب بلاد/ لم تجد في مهرجان الوقت/ إلا ضجة القتلى/ تناستها الفراشات وعافتها الفصول/ هل يرى في الظن/ ما يجعل للأيام معنى؟/ غير ما يسمع من حشرجة النايات/ يمضي/ لا يرى إلا حنينا لجذور الضوء/ يمضي/ ليس إلا هذه الأيام ملقاة/ على قارعة الدرب/ ويمضي/ ليس إلا وهمه العالي/ ومنفاه الثقيل/ أيها الليل الخرافي إلى كم ستطول”.

 سيكون عليّ أن أحفظ تلك القصيدة عن ظهر قلب لأنها جزء من مدخراتي فهي مهداة إليّ. ولكن العلاق سكب من خلالها لوعته وباح بغصته وهو يرى العراق يغرق في ليل آخر طويل.

لقد كتب شعرا كثيرا وهو يرثي تلك البلاد التي صارت تختفي. إنه يرثي من خلالها حياة كُتبت فيها القصائد التي شكلت صورة العراق الشعرية على خارطة الشعر العربي الحديث.

◙ شاعر خارج التصنيف الجيلي