كيف يكون للقصيدة أن تظل مترفعة عن ملامسة الواقع الذي يقع على مقربة منها دون أن تلحق بها شبهة السكوت عن جزء من مهمتها التي لا تتعارض مع كونها شعرا؟ أليس للقصيدة من مهمة حضارية أو إنسانية؟ أليس لها، في فترات تاريخية محددة، من حياء قابل للخدش وهي ترى الدم يزحف في كل اتجاه، تاركا وراءه بلدانا تشخب دما، وشعوبا تأخذ طريقها إلى الموت أو الجوع أو المنافي المذلة.
ولعلنا لا نجانب الصواب إذا قلنا إن حجم الدم الذي يتدفق من جسد البلاد كل يوم، لا يزال أكبر من أثر القول الأدبي، والشعري منه بشكل خاص، حتى أنني أتساءل: هل وصلنا إلى اليأس من قدرة الشعر على تبرير ذاته، من المراهنة على جدارته بأن يكون شهادة جمالية وأخلاقية في مستوى الفوضى التي وصلت إلى حدّ الفضيحة، وفي مستوى الألم الذي تجاوز قدرة البشر على الاحتمال؟
وأنا هنا لا أوكل إلى القصيدة مهمة ليست من طبيعتها. غير أن الدم يدعونا إلى احترام نداءاته التي لا تقبل الدحض، إلى أن يرتفع الشاعر إلى مستوى الشاهد المعذب، الذي لا يدّخر جزءا من الحقيقة مخافة أن يثير عتبا لئيما عند هذا الطرف، أو اعتراضا عند ذاك. لا بدّ للشاعر إذن من مناعة شعرية تجعله عصيّا على الخوف أو حسابات الربح والخسارة. ألم يقل الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري “وما أنت بالمعطي التمرّدَ حقّه/ إذا كنت تخشى أن تجوع وأن تعرى؟” ومثل الجواهريّ تماما، رفض يوسف الصائغ أن يتفرج على وطنه من ثقب الباب “أنا لا أنظر من ثقب إلى وطني/ لكن أنظر من قلب مثقوب”. ويظل للجواهري إغراؤه الذي تصعب مقاومته، فهو شاعر من طراز شعري خاصّ جدا. وكانت لقصيدته بصمتها الفنية والوطنية المؤثرة التي رافقت الكثير من التحولات السياسية والاجتماعية الكبرى في تاريخ العراق طوال القرن الماضي، الذي كان حافلا بالقلق والكوارث والمفاجآت. كان الجواهري واحدا من نمط الشعراء الفرسان؛ يذكرنا به اليوم هذا الليل العراقيّ الدامس، ويذكرنا به فساد الذمم، وموت الضمير، وتفشّي الجريمة في كل لحظة “ما تشاؤون فاصنعوا، فرصة لا تضيعُ/ أشَبابٌ يخيفكم؟ للزنازين يُـدفعُ/ أضميرٌ يهزكم؟ بالكراسي يُزعـزَعُ/ ألِسانٌ ينوشكم؟ بالدنانير يُقطعُ/ ما الذي يستطيعهُ، مستضامونَ جُـوَّعُ؟”.
كان شعر الجواهري تجسيدا، قلّ نظيره، لعذابات العراقيين، ومنازلاتهم للأنظمة المستبدة من أجل نظام سياسي يليق بهم. وفي ذات الوقت، كان الجواهري شاهدا على ما انتاب حياتهم أحيانا من هشاشة محيرة، فيقف منهم موقف اللائم أو الهجّاء، فيسلط عليهم سخريته اللاهبة، علها توقظ في عروقهم بقية من غضب أو تمرّد “نامي جموعَ الشعب نامي/ حرستكِ آلهةُ الطعامِ/ نامي فإنْ لم تشبعي من يقظةٍ، فمن المنامِ”.
وحين يطفح بالجواهري غيظه، وتستبدّ به ثورته على ما يراه من تهاون الناس أو تخاذلهم، ينطلق مثل بركان لا يعرف الرحمة، محرضا تارة، ناقما تارة أخرى “أطبقْ دجىً أطبقُ ضبابُ، أطبقْ جهاماً يا سحابُ/ أطبقْ على متبلدينَ شكا خمولهم الذبابُ/ لم يعرفوا لونَ السماء لفرطِ ما انحنتِ الرقابُ”.
ما أحوجنا اليوم إلى صوت الجواهري الكبير؛ إلى غضبه، أو حكمته، إلى طيشه، أو فوضاه، إلى نرجسيته المنتمية بعمق إلى الناس، وإلى تعاليه الأصيل على الظالمين من كل نوع. وأخيرا، ما أحوجنا إليه وهو يشعل غضب الناس وجنونهم ضدّ اللصوص والجهلة والمستبدين “أتعلمُ أم أنت لا تعلمُ؟/ بأنّ جراحَ الضحايا فـمُ/ يقولون من هـم أولاء ِالرعاع؟/ فأفهمْهمُ بدمٍ من هـمُ”.