كانت عيناه الوادعتان مشدودتين دائما إلى البعيد والقصيّ، وكأنه ينوء بميراث من أسى شفيف، أو طفولة مجروحة، يشوبها طيف من سخرية عميقة الغور. ورغم هذا المظهر الحافل بالوداعة والتأمل، كان عبدالوهاب البياتي شخصية شديدة الوعورة ومثيرة للجدل. لقد كان، كما قلتُ عنه ذات مرة “مثل شجرة برية، شائكا، ومهيبا، وقادرا على الإيذاء”.
لقد نجح البياتي في إنجاز ما نعدّه شخصية شعرية مميزة، تدل عليه وتشير إلى نصوصه، لقد امتلك لغة شعرية لا يمتلكها إلاّ القليل من شعرائنا الكبار. ولم يكن من هموم هذه اللغة، في بدايات البياتي خاصة، أن تكون مصقولة أو مصفاة، لكنها كانت حارة ومؤثرة. تتعاطى مع اليوميّ حدّ الألفة، ومع الصادم حدّ الشتيمة أحيانا «يالها من بنت كلبةْ – هذه الدنيا التي تشبعنا موتا وغربة}. ورغم البساطة المفرطة لتلك اللغة، استطاع البياتي أن يعقد قرانا راسخا وجذابا بينها وبين ضغوط الشأن العام، وقد تركت تلك اللغة اليومية تأثيرها الواضح على شعراء بارزين ومن أجيال مختلفة.
وكانت صورة الإنسان المهمش، الأعزل، الآبق، الرجيم، المنفيّ، جزءا من نبرة البياتيّ المحببة، التي لاقت رواجا واضحا في غمرة صعود اليسار العربيّ، خلال منتصف القرن الماضي، واستهوت الكثير من النقاد كانوا متابعيه آنذاك.
صحيح أن الكثير من قصائده الأولى كان يذهب إلى غرضه مباشرا وحادا، وعاريا من لذعة الجمال الخاطفة، غير أن البياتيّ تدارك هذا الخلل الفادح لاحقا، واستطاع بذكاء لافت، أن يقدم الكثير من الإنجازات المبكرة في مجال توظيف الأسطورة وتقنية القناع والتناصات الثقافية، ورغم استخدامه المتعجل لها أحيانا، فإنها صارت مكونا من مكونات شعريته التي كرّسـته اسما بارزا في تطور القصيدة الحديثة.
كان للبياتيّ أسلوبه الشعريّ الخاص، وهذا في حد ذاته فضيلة شعرية ليست هينة. تأخذ قصيدته طريقها إلى قلوب الناس وهمومهم الغزيرة، هكذا كأغنية بسيطة، أو هواء لا تصده الأسيجة ولا شباك الصيادين. كان يكتب قصيدته، غالبا، وكأنه يرتجلها ارتجالا، لا يتمحّل في استخدام اللغة ولا تهويمات تقتلعه من تربته الشعرية المملوكة له بشهادة محبيه وخصومه على حد سواء “أهكذا تمضي السنونْ- ويمزق القلبَ العذابْ- ونحن من منفى إلى منفى ومن بابٍ لبابْ- فقراءَ يا وطني نموتْ- وقطارنا أبداً يفوتْ..؟”. وكان للبياتي حضور طاغ، فهو رجل التناقضات، ومشعل النميمة الأدبية، وسارق النار، وهو حطاب الغابة العائد منها بالوفير من الطرائد، والشعر، والحكايات التي لا يصدقها أحـد.
لقد جسّـد عبدالوهاب البياتي صورة الشاعر النجم، ولم يكن شعره وحده وراء ذلك الحضور الكاسح، بل كان، إضافة إلى ذلك، يمتلك ويدير بمهارة نادرة، شبكة واسعة من العلاقات بالنقاد والصحافيين، والمستشرقين، وأصحاب دور النشر، والمشرفين على المؤسسات الثقافية.
وكانت حظوته الكبيرة لدى الكثير من النقاد، مثارا للحسد لا الغبطة. وأكاد أقول إن الكتابة عن المنجز الشعريّ لعبدالوهاب البياتيّ احتلّت الكثير من طاقة المطبخ النقديّ العربيّ، لسنوات طويلة. كما أن عرض دواوينه، ونشر حواراته، وأخباره، كان يشغلان مساحات بارزة من صحافتنا اليومية والأسبوعية.
وفجأة انطفأ كل اهتمام بالبياتيّ بشكل مثير للدهشة بعد موته. كيف يمكن حدوث هذا لشاعر كان، بجدارة شعرية أو من دونها، مالئا للدنيا وشاغلا للناس؟ كيف كان نجم المهرجانات والمؤتمرات الذي لا يضاهى؟ وأول المدعوين إليها، وأشدهم حضورا؟
ألا يحق لنا اليوم أن نتساءل؛ لماذا يسلط على البياتيّ إهمال بهذه الكثافة، حتى لم يعد جديرا بندوة، أو حلقة دراسية، أو أطروحة جامعية، في زمن عربيّ يصبح فيه الإنسان شاعرا في خمسة أيام؟
إن ما أدركه جيدا أن الإجحاف بحق المبدعين، أحياء وأمواتا، شيمة عربية بامتياز، وليس البياتيّ وحده الفريد في هذا المجال، فما إن نفرغ من دفن مبدع حتى نغسل ذاكرتنا منه إلى الأبد.
ومع ذلك أكاد أزعـم، هنا، إن الموقف من عبدالوهاب البياتيّ، حيا وميتا، يمثل نوعا من النفاق الثقافيّ والنقديّ في أبشع صوره. فإذا كان البياتي شاعرا مهما، وأنا أعتقد أنه كذلك، فلماذا هذا الصمت التام عنه وعن شعره، بعد موته؟ وإذا لم يكن أهلا لكل ذلك الحضور الشعريّ، فإننا أمام سؤال لا يقل وجاهة وإحراجا عن سابقه؛ لماذا كان الكثيرون، نقادا وصحافيين، يكتبون فيه المدائح النقدية المطولة؟ ولماذا كان المترجمون يسارعون إلى ترجمة شعره إلى جميع اللغات الحية والميتة؟
وعلى الرغم من شخصيته الجارحة أحيانا، وقدرته على خلق الخصومات وإدامتها، يظل عبدالوهاب البياتيّ شاعرا كبيرا دون شك، وتظل له أخطاء الشاعر الكبير دون شك أيضا.
وفي المقابل، يظل هؤلاء النقاد والصحافيون مجانبين للحقيقة في إحدى الحالتين؛ في حياته أو بعـد موته. ويظل موقفهم من البياتيّ مؤشرا، لا لبس فيه ربما،على خلل نقديّ وأخلاقيّ في حياتنا الثقافية عامة والشعرية بشكل خاص.