عبير علي
لا يخفي د. علي جعفر العلاق فرحته بالفوز بجائزة الشيخ زايد للكتاب: “لا شك في أن الفوز بجائزة بهذا الحجم مبعث فرح كبير، فجائزة الشيخ زايد يتطلع إلى الحصول عليها الكثيرون. وحين تقدّمت بكتابي ’إلى أين أيتها القصيدة؟’ كنت أدرك طبيعة هذا العمل وما ينطوي عليه من خصائص بنائية وجمالية، إضافة إلى كتلة الحياة الضخمة التي تجسدها هذه السيرة”. ويوضح: “كنت أعرف جيدا أن كتابا بهذه السمات الجمالية لا بد أن يحظى بانتباه لجان التحكيم، وأن ينال فرصته في الوصول إلى نتيجة مرضية، خاصة وأن لجائزة الشيخ زايد للكتاب تاريخا محترما من النزاهة والنظر الرصين والإصغاء بعمق إلى ما تقوله النصوص بلغتها الخاصة ووفق معايير لا يطالها الشك أو الانحياز لغير الجمال والحقيقة. لهذا كله كانت ثقتي عالية في أن كتابي سيحصل على ما يستحقه من ثناء”.
“السيرة الذاتية، بمعنى من المعاني، حياةٌ مستعادة. ولا يمكن لكاتبها أن يقول كل ما لديه، لأسباب عديدة منها الاستحالة العملية، ومنها النسيان الذي قد ينهش أو يشوّه الكثير مما تختزنه الذاكرة”
حياة مستعادة
قرر علي جعفر العلاق هذه المرة، وبعد تجربته الثرية مع الإبداع، أن يصدر سيرته الذاتية في كتاب “إلى أين أيتها القصيدة”، وعن الأسباب التي تقف وراء اتخاذ هذا القرار الجريء، يؤكد أنها “هي الأسباب ذاتها التي تقف عادة وراء لذة البوح عن مباهج الذات الكاتبة أو انكساراتها، والحاجة إلى ضرورة الإفصاح عما شهدته من انهيار البلاد على أهلها، ومن شتات مريع عشته بعمق مرير، وعاشها مثلي معظم العراقيين، وإن بطريقة مختلفة ربما”. ويذكر: “كنت أحس أن نفسي محتشدة، حتى حافاتها الأخيرة، بالكثير من الكلام الجميل، والقاسي أو الذي لا يزال دفينا، وكان هناك الكثير ربما من الغيظ، أو التوتر، أو محبة الجمال أو نبل الأصدقاء، وهناك أيضا ما صادفني من صداقاتٍ نيئةٍ، أو تحاسد أخوة يوسف أحيانا. لقد عشت متنقلا مع هذه السيرة، سنواتٍ ليست قليلة، بين جمال الذكرى ومشقة العيش، وبين فرح الكتابة ومجد الدفاع عنها”.
لكن السير الذاتية لا بدّ أن تترك وراءها العديد من إشارات الاستفهام، منها هل حقا قال كل كُتابها والشاعر العلاق واحد منهم كل ما يريدون قوله، أم سقطت أحداث منها في هاوية النسيان أو التجاهل. يفسر: “السيرة الذاتية، بمعنى من المعاني، حياةٌ مستعادة. ولا يمكن لكاتبها أن يقول كل ما لديه، لأسباب عديدة منها الاستحالة العملية، ومنها النسيان الذي قد ينهش أو يشوه الكثير مما تختزنه الذاكرة، وهناك الروادع الذاتية أو العامة، كما أن للخيارات الجمالية أو الدلالية تأثيرا كبيرا على ما نختار أو ما نهمل في الكتابة. وبذلك، فليس كل ما عاشه الكاتب يصلح ليكون جزءا في بناء سيرته الذاتية”.
ولكن هل حقا كما يشاع قد يضيف الكاتب بعض المشاعر التي ربما لم تحدث. يبين العلاق: “المشاعر أو الانفعالات، لا تضاف من قبل الكاتب إلى الحدث، بطريقة اللصق، لكنها جزءٌ من الواقعة، يتصل ببنيتها السردية، وينضح من لغتها الواصفة. والكاتب الموهوب يكون ذا ذاكرة انفعالية شديدة الحيوية، لا تختزن المعلومات أو الحركات، أو الهيئات والملامح وحدها، بل تختزن أيضا الكثير مما يرتبط بالحدث السردي من شحنات وجدانية، أو صراخ مكتوم وعويل صادم وكأنه يحدث الآن، في لحظة الكتابة”.
أنمو وحيدا
اختار العلاق اختار لبناء سيرته أسلوبا خاصا حيث ربط الحاضر بالماضي، من خلال الإشارة إلى تأسيس المدن في زمن الحجاج وما أنتجه حكمه، وكأنه يؤكد أن التاريخ يعيد نفسه، لهذا يجيب عن سؤال: هل تذكّر الناس لماضيهم واستسلامهم له يكرسه في حياتهم فيعاد بألف طريقة؟ فيقول: “ليس التذكّر وحده هو ما يكرّس الماضي في النفس، بل الإحساس المصاحب للذكرى هو المهم، لأن ذلك هو ما يمهد للاستسلام له. فنحن قد نتذكر الماضي لنعمق رفضنا لما فيه من ظلم أو تفاهة، والعكس صحيح بالطبع، فتذكر الجميل أو الإيجابي منه يزيد من تسربه داخل النفس”. ويضيف: “كنت قد وظفت المشهد السردي للحجاج بن يوسف الثقفي، ولغته القاسية في مخاطبة الجموع المذعورة، لتأكيد أن الطغاة كانوا يتكاثرون عبر التاريخ كالكمأة، ومهما اختلفت ملامحهم، سيظل لكل طاغية ضحاياه التي لا تعد ودوافعه التي لا تحصى، كما هو حاضرنا الذي نعيشه اليوم تماما”.
“كل مقاربة نقدية لا تكون فعالة إلا في جانب بذاته من جوانب النص الشعريّ، وليس هناك مقاربة أو منهج نقدي واحد، جامع مانع، يمكنه استثارة كل ما في القصيدة”.
لم يكتفِ العلاق بالتحليق في عوالم الشعر بل أصدر الكثير من الكتب النقدية التي تناول فيها قضايا شعرية مختلفة، عن دوافعه وهو الشاعر إلى الدخول إلى عالم النقد من أوسع أبوابه يوضح: “ظاهرة الشعراء النقاد، الذين يمارسون كتابة القصيدة والكتابة عنها، ظاهرة عرفتها معظم آداب العالم، قديما وحديثا. فما يفيض عن كتابة النص الشعري أو التعامل معه، قد يرقى إلى فضاء التأمل الرفيع في النصوص الأخرى، أو المعرفة بها، أو القدرة المميزة على تحليلها. وفي حالات كهذه قد لا يقل الشاعر الناقد عن مهارة الناقد المحترف، وقد يفوقه في أحيان أخرى، إذا جمع إلى موهبة الكتابة الشعرية، موهبة المعرفة بالنقد، أو مقاربة تحليل النص، والإحساس العميق باللغة. وهذه الدوافع وسواها دفعتني كما دفعت غيري من الشعراء الى الجمع بين هاتين الملكتين”. ويتابع: “لقد كان للشعراء النقاد دور لا ينكر في تليين لغة النقد، والخروج بها الى فضاءات أكثر إثارة وجاذبية. حتى صار لبعضهم لغة نقدية أدبية عالية، فيها من الابتكار والجمال والمغامرة ما يرتفع بها إلى مستوى الأعمال الخلاقة القائمة بذاتها”. ويبين: “أما لماذا كتبت عن أشياء دون سواها، فهو أمر يعود إلى شغف الكاتب وطبيعة اهتماماته، وأنا أعجب من ناقد لا تنتمي كتاباته إلى فضاء بعينه رغم تنوعها، ولا أميل إلى الناقد المقاول، الذي يكتب في كل ما يطلب منه، فهو أقرب إلى الآلة الكاتبة، وقد يتحول، مع الأيام، الى لغة جافة وقلب يعلوه الصدأ”.
ومن بين كل شعراء العصور القديمة والحديثة، جاء اسم “الشريف الرضي” عنوانا لأحد كتبه النقدية. يقول: “الشريف الرضي شاعرٌ ينتمي بعمق إلى نخبةٍ من شعراء العذوبة واللوعة الصافية اللتين تضيئان القصيدة وتصعدان بلغتها إلى ذرى نفسية وعاطفية عالية. وكان يلامس آفاقا لغوية فيها من عزة النفس المجروحة، قدر ما فيها من تذلل المحبّ المنبهر بمن يحب. له الكثير من المقدمات الطللية، وقصائد الحنين أو الغزل الحييّ، وكان الشريف الرضيّ ذا قلب تتنازعه نداءات الجمال الأنثوي من جهة، وروادع الورع الممتحن بالغواية من جهة ثانية. إن كل ذلك جعل منه شاعرا أصيلا لا يتكرر”.
———————————————————————
حوار اجرته الكاتبة والصحفية عبير علي, ونشر في مجلة المجلة اللندنية بتاريخ 19 مايو 2023 .