نهايات سيابية

                                                            

 مقطع من دراسة طويلة

   تمثل لي قصيدة “المعـول الحجـريّ” بـدايـة رحلـة السياب صوب النهايات.لا تجاـنس في تربة النصّ. وثمـة تزاحـمٌ واضح بين الانفعال المباشر بالحياة ونزوع القصيدة الى التخفي، حين تستقبل العديد من الاختراقات الإنسانية والفكرية، التي تخلخل الكثير من كثافتها الشعرية. تبدأ القصيدة بدايةً تحفل بالأسى الغامض والهدير الأسطوريّ البعيد الذي يتصادى في جنبات النصّ كله:

رنينُ المعول الحجريّ في المرتجّ من نبضي

يدمرُ في خيالي صورة الارضِ

ويهدم برجَ بابلَ يقلع الابوابَ, يخلع كلّ آجـرّةْ

ويحرق من جنائنها المعلقةِ الذي فيها

فلا ماءٌ ولا ظلّ ولا زهرةْ

وينبذني طريداً عند كهفٍ ليس تحمي بابَه صخرةْ

ولا تدمي سوادَ الليل نارٌ فيه تحييني وأحييها

تعالَيْ يا كواسرُ يا اسودُ ويا نمورُ ومزّقي الانسانْ

اذا اخذته رجفةُ ما يبث الليلُ من رعـبٍ

فضجّي بالزئيرِ وزلزلي قبـرهْ

يندفع هـذا المقطع وسط كثافةٍ أسطورةٍ مدوية: أحجار بابل المنهارة، وأبوابها المخلّعة، حيث يقف الشاعر أعزل طريداً عند كهفٍ مهجور، وليس هناك إلاّ رنين المعول الحجريّ يدمر صورة الأرض في مخيلته المرتبكة.

هذه البداية يرتفع فيها نبض القول الشعريّ الى أقصى درجاته، وتضفي عليها نبرة السارد الذاتي حميميةً موجعة. خمسةُ أفعالٍ في ثلاثة سطورٍ فقط, وقد زادت حروف النفي والحروف المشددة جميعها من توتر النصّ: الحجريّ، يدمّر آجـرّه، المعلّقة، والمرتجّ، وظل، وتنوين الفتح في الحال: طريداً. وهو توترٌ وصل به فعل الذروة ينبذني الى  مدى كبير من  العنف والحيرة.

كان من الممكن أن ترتفع هذه الكثافة الأسطورية بالمقطع الى دلالةٍ كونيةٍ وجوديةٍ شاملة, محنة الانسان وعجزه حين يتجسـدان  حـدّ الاستغاثة بقاتليه. لكن ما يحدث أنّ اللحظة الواقعية، أو ذات الكائن المبتلى، لا الذات الشعرية، تطلّ على المشهد بصراخها العاري. لا رداءءَ شعريّاً أو أسطوريّاً يخفف من نبرتها المباشرة. وبذلك تؤسس هذه الذات الواقعية لانشطارٍ مزاجيّ ونفسيّ، تكون فيه القصيدةُ ترنّحاً بين لحظتين ضاغطتين، لحظة الواقع ولحظة الحلم:

إذا نطق الطبيبُ فأسكتوا العرافَ والفوّالْ

رنينُ المعول الحجريّ يزحف نحو أطرافي

ساعجز بعد حينٍ عن كتابة بيت شعرٍ في خيالي جالْ

القصيدة،الآن، تغترف مادتها من حقلٍ واقعيّ لا أسطوريّ. لقد تراجعت المخيلة، وانتبذت مكاناً قصياً، خارج المشهد، مفسحةً المجال للواقعة الحقيقية وبراهينها الصادمة، أعني تآكل الجسد وتهالك الروح، لتحكم هيمنتها على هذه اللوحة.

وهكذا يكشف النصّ، بمزاجٍ نثريّ مباشر، عن مخبآته المرعبة: الخوف من الشلل والعجز عن الكتابة، فيندفع الشاعر بعد ذلك طالباً العون من خياله المهيض :

لأكتب قبل موتي أو جنوني أو ضمور يدي من الإعياءْ

خوالجَ كل نفسي، ذكرياتي، كل أحلامي

وأوهامي

وأسفح نفسي الثكلى على الورقِ

سيقرأها شقيّ بعـد أعوامٍ وأعوامِ

ليعلم أن أشقى منه عاشَ بهذه الدنيا

وآلى رغــم وحش الداءِ والآلامِ والأرقِ

ورغــم الفقرِ أن يحيا

 لقد عطل هـذا الانثيالُ الواقعيّ دور المخيلة الى حدٍ كبير، فأخذ النصّ يتّكىء على الـذاكـرة وخبرة الجسد، لاعلى الخزين الروحيّ والمعرفيّ، أوتجليات الأداء الحافل بالمواربة والمفاجآت ..

ومع أن الشـاعـر، في ختــام قصيدتــه، لا يذهـب بعيــداً عـن أفــق النــدب العائليّ، فإنه يحرص على إنهائها بطريقةٍ أقلّ انشداداً الى حادثة المرض وثقلها الواقعيّ، فيستعيد الى حدٍّ ما حضوره ثانيةً، ليلتئم جرح القصيدة في النهاية ويضيق:

فأين أبي وأمّي….. أين جدّي.. أين آبائي

لقد كتبوا أساميهم على الماءِ

ولستُ براغـبٍ حتى بخطّ اسمي على الماءِ

وداعـاً يا صحابي، يا أحبّائي

إذا ما شـئتمُ أن تذكروني فاذكروني ذات قمراءِ

وإلاّ فهو محضُ اســمٍ تبددَ بين أسماءِ

وداعـاً يا أحبّائي ..