التراث وعذاب الموهبة

 قراءة في إحدى رعويّات عفيفي مطر 

                       

                    

 

التطابق الأيقونيّ

تكاد شخصية محمد عفيفي مطر أن تكون من جنس شعره تماماً، هيئةً ممهورةً بأصالةٍ مصريةٍ حقيقية، وانتماءً الى الأرض وما تضجّ به من حكاياتٍ ضاربةٍ في القدم، وبساطةٍ عميقة، حتى يبدو وكأنه واحدٌ من المصريين القدامى، يهبط من كتب التاريخ تواً، وقد أنضجه الذكاءُ وأنحله عذابُ الموهبة .

كان محمد عفيفي مطر ابن الأرض، والريح الحرة، والطبيعة الصريحة.وكانت حياته وقصيدته كلتاهما تنبثقان من الأرض وتغوصان في طمْي أنهارها. وتتوجهان كلاهما أيضاً، بعمقٍ ولوعةٍ، نحو سماءٍ من المعاني الرفيعة، والحنين الدافيء المعذّب الى المطلق والقصيّ والمترفّع عن مرذول القول .

ولم يكن شعره عامةً إلّا سجلاً باهراً لهذا لتطابق الفذ بين الواقعة والمخيلة، فلم يكن الحاجز صلداً بين حياته الشخصية المتعيّنة ومادة شعره. كان الحضور الواقعيّ كبيراً لعناصر ماثلةٍ من حياته: كان فلاحاً بأشد المعاني واقعيةً وبأكثرها رمزيةً أيضاً.

  ويمثل ديوان محمد عفيفي مطر الأخير “ملكوت عبد الله”، الصادر عن ثقافية الشارقة، 2016، سيرةً شعريةً ناصعةً له، فهي قصائد سيرذاتية بكل ما لهذه الكلمة من حميميةٍ ونبل. إذ يقتلع الشاعر حجارة هذه القصائد وماءها الفوار من انهماكاته في الأرض، واللغة، والموقف الشعريّ والفكريّ، وما ألحقه ذلك كله بروحه وجسده من كدمات.

تحاول هذه الورقة الالتفات الى استثمار محمد عفيفي مطر للقصص القرآنيّ متخذا من قصيدته ” رعوية الفتى الغريق” نموذجاً لهذا الاستخدام. ومع أن الشاعر  لم يتعامل مع قصة يوسف كتلةً واحدةً، إلاّ أنه أستطاع أن يتلاعب بوحداتها وأن يستخلص منها مادةً  تتكيء على الإطار الأساسيّ للقصة دون التقيد بمطاردة التفاصيل وتشعبات الأحداث ومآلاتها المختلفة .

غير أن ما أبقاه محمد عفيفي مطر من تفاصيل هذه القصة القرآنية، كان كافياً للوفاء بهدفه الجماليّ والفكريّ، وكان ينبئء عن عقليةٍ شعريةٍ شديدة الذكاء، وقدرةٍ عاليةٍ على تكييف الموروث الدينيّ للتعبير عن انخراط الشاعر في دوامة اللحظة الراهنة وشهادته عليها.

 يتخذ الشاعر من شخصية “عبد الله”، في القسم الأول من الديوان، وشخصية “الفتى” في القسم الثاني وجهين لقناع واحد  تتداخل ملامحه ومكابداته الى حد بعيد، وتتناهى  الينا أصداؤه من قصائد كثيرة.

أراد الشاعر، أولاً، أن يشد قصائد ديوانه الأخير الى ذاته ويؤكد انتماءها اليه بمجموعة من الروابط، ولعل كتابة قصائده بيده، وبهذا المستوى من الاتقان والأناقة يكشف عن نية الشاعر في طباعة ديوانه بهذه الطريقة، ويكشف بالنتيجة، عن رغبته في تعميق صلتها الذاتية به، باعطائها هذا المنحى الجسديّ الكثيف.

أما العلامة الأخرى التي تؤكد ارتباطها بحياة الشاعر فهي علامةٌ مكانيةٌ ذات دلالةٍ شخصيةٍ بالغة. كان عفيفي مطر دائم الحرص على تذييل قصائده  بما يدلّ على ارتباطه بالمكان: “رملة الأنجب”، أو”كفر الشيخ”، حتى غدا هذان المكانان وكأنهما توقيعان من تواقيع الشاعر، أواسمان من أسمائه الفنية. وهما، في الحقيقة، يشتملان على قدرٍ عالٍ من الدلالة والإيحاء. فمن جهةٍ يجسدان غزارة المكان وملموسيته، ومن جهةٍ أخرى، يمثلان تلك البطانة الروحية والنفسية والشعبية التي ميّزتْ قصائد عفيفي وشكّلتْ تموّجها الداخليّ المشوب بأوجاع الناس وبساطتهم البليغة، ولم تخلُ قصيدةٌ من قصائد هذا الديوان من هذا الختم الأرضيّ الحافل بالمعاني.

  تقع هذه المجموعة في مهبّ طفولةٍ خضراءَ عاصفة، و فيها أيضاً كهولةٌ كانت تتعرض الى القهر حيناً والإهمال حيناً آخر. وتنتشر تفاصيل هذه الحياة، كبطانةٍ وجدانيةٍ وسيرذاتية في أرجاء المجموعة وفي مختلف موضوعاتها. ويتجلى هذا الحرص على المعنى في أمورٍ عدة، كان في طليعتها ربما حرص الشاعر على بناء النصّ بناءً تتضافر على النهوض به عناصر الايقاع والصورة وبناء الجملة وتوفير قدرٍ معقولٍ من الترابط بين هذه العناصر وبين وظائفها الدلالية والجمالية. يضاف الى ذلك تقشفُ النصّ الى حدٍ واضحٍ في ذلك الانثيال اللغوي الكثيف، وتزاحم الصور الذي يؤدي في الغالب الى دفع المعنى الى طبقاتٍ من المياه الجوفية الهادرة التي لا قِبَـل للقاريء بمصارعتها بحثاً عن ياقوتة المعنى في ذلك الخضمّ اللغويّ الهائج ..

عنوان القصيدة

يمثل عنوان القصيدة، عادة، مصدر إيحاء دلاليّ وجماليّ. كما يمثل في أحيان أخرى صلة القصيدة بتدافع دلالات الديوان وتشابكها جميعاً. وقصيدة محمد عفيفي مطر” رعوية الفتى الغريق” لا تبتعد كثيراً عن هذين المستويين: قدرة العنوان على الإيحاء من جهة، وصلة القصيدة بالمجموع الشعريّ في الديوان كله من جهةٍ أخرى.

ينقسم الديوان الى قسمين أو فضاءين :

1- طرديات عبد الله،

2- رعويات عبد الله

وهذه القصيدة، أعني “رعوية الفتى الغريق” واحدة من قصائد الفضاء الثاني من الديوان. وبما أن هذين الفضاءين  متداخلان الى حد كبير، فإن هذه القصيدة تتمدد في ثنايا الديوان كله بحكم التداخل والتنافذ بين قصائده. إن أجواء القصائد جميعها، تقريباً، تخلق هذا المناخ الفياض بالنشوة الصافية، وتلهف الرعاة، وأنين القصب العاري، وامتثال القطعان لأجسادها، وتلقائية البراري المديدة، وتناهي كائناتها في اللطف أوالتوحش..

يتكون عنوان القصيدة من ثلاث وحدات : رعوية. الفتى . الغريق.

لكننا لوتفحصنا نصّ القصيدة جيداً لتكشف لنا أنها، ربما، أقل القصائد ارتباطاً بمناخات الفضاء الثاني، من حيث الرعوية الموغلة في البراءة العذبة وسخاء الطبيعة العميم. بل حملت أكثر العلامات دلالةً على  تجهم الطبيعة ومزاجها القاسي.

أما عن صلة القصيدة بشخصية الفتى، أوالوحدة الثانية من العنوان، فإنها صلةٌ بالغة الوضوح والانتشار في معظم قصائد الديوان، فيمكن رصده، في الجزء الأول، من خلال شخصية عبد الله، الذي يرد في القصائد التالية: “مفتتح مواسم الصيد”، “أبو الطيور”، “منادمة الكروان”  و” آخر الصيد أوله”. أي أن شخصية “الفتى” وشخصية “عبد الله”، كلتيهما، تمثلان وجهين لشخصيةٍ واحدة.

 كما يتجلى حضور الفتى في القسم الثاني من الديوان أيضاً في قصيدتين أخريين، هما :”رعوية تتويج الصبي” و” رعوية الدخول الى إرم”. وكلتا القصيدتين، على التوالي، تمهد للقصيدة موضوع البحث أوتليها، وكأنهما، على التوالي أيضاً، سببُ القصيدة ونتيجتُها.

وحين نقارب الجزء الثالث من العنوان،”الغريق”، صفةً للفتى، فلا يمكننا الهرب من دلالة الماء، إلاّ بالكثير من التمحّل، فهو الفضاء المثاليّ للغرق ومكانه الحتميّ، في لغة النصّ وخارجه. الماءُ  أساسُ كلّ شيءٍ حيّ، لكنه قد يكون أيضاَ وسطاً واضحاً للدمار تارة، وللعصيان والتمرد تارة أخرى، كما في المخيال الأسطوريّ، والدينيّ، والشعريّ. ويوميء عنوان القصيدة، بوحداته الثلاث، إيماءً حاذقاً ومتخفيّاً الى قصة يوسف، دون أن تتبنى تفاصيلها كاملة.

الشاعر وتراثه

لقد بات واضحاً أن التعامل مع التراث، وما يشتمل عليه من شخصياتٍ ومقولاتٍ وحكاياتٍ، لا يتخذ صيغةً واحدةً، معدةً سلفاً. بل متروكٌ للشاعر، لوعْـيهِ اللحظةَ التاريخيةَ الضاغطة من جهة، ولموهبته من جهةٍ أخرى.

ولأن عفيفي صانعٌ ماهرٌ وعميقُ المعرفة بتراثه، ولأنه شديدُ الوعي بضغوطات عصره، فإنّ قصةً كهذه لا تحتفظ بهيئتها الموروثة كما هي، لا بد أن تكون ملتقىً  لنداءات النفس وتداعيات العصر معاً. أي أنها محصلةٌ لعددٍ من التغييرات بغرض تحيينها وتكييفها لوظيفةٍ عصريةٍ مُلِحّة.

والملاحظة الأولى هنا انّ القصيدة تكاد تخلو من أية إضاءةٍ مباشرةٍ تحدد انتماءها الى قصة يوسف، فهي، من هذا الجانب، تصلحً مثالاً بالغ البراعة على الاستخدام  الشعريّ الناضج للمعطى التراثيّ المنتزع من تربةٍ تراثية صريحة. إن الشاعر لم يستخدم اسماً مباشراً من أسماء الشخصيات في هذه القصة. لكنه استثمر بعضاً دالاً من أفعالها أو سلوكها. وهكذا يسعى الشاعر، وهنا يكمن الملمح الأول من ملامح الاكتمال الشعريّ، الى التكتّم على صلة القصيدة بالتراث، لتأتي في النهاية، كما أراد لها الشاعر،على شيءٍ من التخفّي الشفيف.

أما الملمح الثاني، الذي يبلور لنا مستوى النضج في هذه القصيدة، فيتعلق بحجم المتروك من هذه القصة والمأخوذ منها. لقد اختار الشاعر برهافةِ العارف وحنكة المقتصد، مفصلاً حاسماً من مفاصل القصة. رأى فيه ما يكفي للتعبير عن مطلبه الفكريّ والجماليّ. إن جزءاً محدداً وذا دلالة من نار الموقد فقط هو ما اقترضه محمد عفيفي مطر، أما ما بقيَ من تلك النار فقد وجده فائضاً عن حاجة النصّ  الشعريّ.

أكثر من علامةٍ في هذه القصيدة تغرينا بالالتفات الى التراث الدينيّ، والقرآنيّ تحديدأ. إنّ وحدات العنوان الثلاث” رعوية. الفتى. الغريق” تبعث بإيماءاتٍ دالةٍ على بيئة الحدث وفاعله وطبيعته : الرعي، الفتى، الغرق. إضافة الى ذلك، فإن البئر والإخوة وحسدهم المهلك، يسهم في تضييق المسافة الفاصلة بين القصة الأصل ومآلاتها الراهنة الى حدٍ كبير.

وهكذا تبثّ قصة يوسف أصداءها في أوصال هذه القصيدة بطريقةٍ شديدة التخفّي، فالشاعر لا يسعى الى المطابقة التامة بين يوسف القصيدة ويوسف القصة الأصل. لقد مارس حقه الشعريّ والثقافيّ في أن يكون لقصيدته يوسفها الخاصّ الذي يفارق يوسف الحكاية الأولى. وهو لا يوظف أفعالها السردية كما وردت في سياقاتها الأصلية، وبالترتيب ذاته، أو النوايا ذاتها.

بنية الحدث الشعريّ :

يتكون حدث القصيدة من أربع حركاتٍ، يبدأ أولها من مشهدٍ طبيعيٍّ بالغ القسوة. أمعن الشاعر فيه في تجريد الطبيعة من حنوّها الوفير من جهة، ومن حضور معظم كائناتها، وما تشيعه في المحيط من حركةٍ ودلالاتٍ من جهةٍ أخرى:

ريحٌ مقلاعٌ،

والشمسُ حصى جمرٍ

   والأرضُ ترابٌ مشتعلُ

وثلاثةُ صبيانٍ تتّسعُ دوائرُ ملحٍ أبيضَ

   في القمصان إذا اتّسعَ البللُ

وتشفّ عن الجسد المشويّ،

وقطعانٌ تجترّ الصمتَ الحارقَ .

إنّ ما يذهب اليه هذا المقطع، وما تساعد على استنتاجه حركةُ النصً، كما سنرى لاحقاً، أن الشاعر يمهّد، من خلال هذا المفتتح الأجرد القاسي، لحدثٍ ما، أو دلالةٍ ما من جنس هذه البيئة الخرساء الهامدة .

ليس في هذه المقدمة من حركةٍ حسيةٍ ملموسة: صمتٌ تجتره الحيواناتُ كالقشّ، وسماءٌ من حصىً، وترابٌ مشتعل. ثلاثُ جملٍ اسميةٍ تشكّل مفتتح القصيدة. ولم يكن وجود الصبيان الثلاثة والقطعان تلطيفاً لقسوة البيئة أو تخفيفاً منها، بل إمعاناً في تكثيفها، فليس من فعلٍ ماديٍّ يتمّ إسناده الى الصِبْية أو القطعان، ليس هناك إلاّ الملح الذي تتّسع دوائره في قمصانهم كلما ” اتسع البللُ”. ولو تأملنا الفعل (تتسع) لوجدناه فعلاً فاقداً للكثير من شحنته بحكم ارتباطه بجملة الشرط، أي أنه فعلٌ لا يستمد قوة تأثيره من ذاته بل من ظروفٍ لغويةٍ معينة. أما القطعان فهي لا تجترّ إلا الصمت، كما أن تقنية السرد الموضوعيّ توفّـر مسافةً كافيةً تحول دون انخراط الذات الساردة في مجرى الأحداث. وبذلك يكون هذا المدخل تجسيداً باهراً لبيئةٍ مخنوقةٍ حد الانفجار.

ومن هذه البيئة الحجريّة المشتعلة تنبثق الحركة الثانية في القصيدة. وهي حركةٌ شديدة الارتباط بمقدمتها القاسية:

قال الأكبرُ:

سوف أفرُّ الى بئرِ الساقيةِ المهجورةِ

أنزل فوق سلالمها الطينيةِ حتى الماء،

أبتردُ وأطفىءُ جمرَ دمي.

يدخل الفعل الانسانيُّ الى المشهد، للمرة الأولى، فيصعّد من توتره. ومع أن الفعل هنا حـوارٌ لغـويٌّ وليس فعلاً خارجياً، إلاّ أنه حـوارٌ كاشفٌ و مفعـمٌ بالإحالات والنوايا :

دلالة البئر:

يركز محمد عفيفي مطر، في قصيدة “رعوية الفتى الغريق”، اختياره المكانيّ على البئر باعتبارها، في أصل القصة، بيئة الحدث القصصيّ، و منطلق الفعلة الأولى  وتشظياتها الدلالية والمكانية، لكنه مع ذلك يُدخل على البئر ما يتطلبه الراهنُ الذاتيّ والموضوعيّ من تغييرات.

  والبئر شديدة الدلالة فهي وسط مائيّ، وإن كانت بالغة الضيق، وليست خالصة الدلالة على معنىً واحدٍ، فهي مصدرٌ للحياة وهي موردٌ للتهلكة أيضاً. وهكذا فإن الشاعر يبدأ في  مفارقة الصيغة الأولى للقصة، ويدخل تعديلاته عليها، أفعالاً ودوافع، بما يتلاءم مع غرضها الجديد. إن الأخ الأكبر، وهو يوسف القصيدة هنا، يتخذ، وحيداً، قرارالفرار الى البئر من وطأة هذه البيئة الملتهبة، تاركاً للقطعان، والرمز واضحٌ هنا، أن “تجترّ الصمت الحارق”. فلماذا يخوض مغامرة الفرار الى البئر منفرداً مع أن الأخوة الثلاثة جميعهم يكابدون قسوة البيئة ذاتها ؟

ولاشك في أن السبب يكمن في كونه أسبقهم إدراكاً لوعي المحنة التي يرزحون تحت وطأتها جميعاً، وبما أن وعي الحالة وحده لا يكفي إن لم يتحوّلْ الى فعلٍ مغير، فإن الأخ الأكبر يقوم بارتكاب هذه المغامرة.

لم يأبه باستسلام أخويه لهذا الواقع الذي يشوي الأجساد، والصمت الذي تجتره القطعان، رافضاً تحذيراتهما. إن فراره الى البئر لا يمثل إقبالاً على مغنمٍ محضٍ، ولا مهلكةٍ مؤكدةٍ، لكنه شارةُ الرفض الأولى. لأن البئر، مع أنها سطٌ مائيٌّ واضحٌ، فإنّ لها مغزى الهاوية وإغراء الماء في الوقت ذاته. وباعتبارها هذا فإنها تشهد،في هذه القصيدة، ما شهدته الأوساطُ المائيةُ الأخرى، من تمردٍ على النواهي ومجافاةٍ للوصايا.

يحفر الشاعر مساراً خاصاً ليوسف القصيدة يغاير فيه يوسف القصة الأولى، فالبئر هنا هدفه ومجد  مغامرته، التي اختارها  ببسالةٍ واعية. خيار المعارضة للسلطة،  بينما كان خيار الأخوين، وهو معاكسٌ لدور الأخوة في الصيغة الأولى أيضاً، كما نلاحظ في الحركة الثالثة، هو التثبيط من همة الأخ الأكبر:

  قال الأوسطُ:

تحت الماءِ استوطنتِ الجنّيةُ بين

صغارٍ في هيئةِ سمكٍ وثعابينَ

                فلا تذهبْ.

إنه موقف المثبط بدافع الخوف من مغامرة الذهاب الى البئر، وما ينتظر الأخ الأكبر جراءها من مخلوقاتٍ مرعبةٍ كالجنيات والثعابين.

أما التثبيط الثاني، الذي يظهر في الحركة الثالثة أيضاً، فبدافعٍ أكثر لؤماً، يتمثل في وشاية الأخ بأخيه:

قال الأصغرُ:

سوف ابلّغُ أمك وأباكَ

فلا تنجو من عضّ أوضربٍ أو

توشيحةِ رجمٍ باللعناتِ

فلا تذهبْ .

تبدو سلطة الأبوين، هنا، وكأنها حاضنة الاستبداد الممكن، أوالممهد الأول ربما لسلطاتٍ كثيرة، والتي يكتمل تتويجها الأقسى والأكثر بطشاً بسلطة الدولة. وطالما تجسدَ هاجسُ السلطة هذا في شعر محمد عفيفي مطر وحياته على السواء.

التحذير يجيء في كلام الأخوين، هنا، مشوباً بالحرص على الأخ الأكبر، أو بقدرٍ محسوبٍ منه على الأقل: الخوف من خطورة المغامرة أو سلطة الأبوين،  لكن نية التحذير ستُخلي مكانها لنيةٍ أكثر إيذاءً كما يتجلّى في الحركة الرابعة:

ذهبَ الأكبرُ

وتبعناهُ نكاد نولولُ من حسدٍ

وضغينةِ عجزٍ وفضولْ

ووقفنا ننعقُ – مثل غرابِ البينِ –

كأنّا نغريهِ ونرعبهُ حتى نزلَ

– بطيئاً- أربعَ درجاتٍ

وانهارَ السلّمُ تحت خطاهُ

ينفتح المقطع على حقلٍ مثقلٍ بالمشاعر المظلمة: الحسد، والضغينة، والعجز، والتخويف. وينفرد بما يميزه عن المقاطع الأخرى، فهو أشـدّ مقاطع القصيدة كثافةً. إنه مزدحمُ بحشدٍ من الأفعال والتفاصيل التي تتضافر جميعاً لتحفّ بالحدث الأساس، وهو،ذهابُ الأخِ الأكبرِ الى البئر، حتى تصل به الى اكتماله الفاجع: ذهب، تبعناه، نولول، وقفنا، ننعق، نغريه، نرعبه، نزل، انهار. وهي أفعال مشحونة بدلالات الأسى والنهاية الوشيكة والمشاعر السلبية: الولولة، النعيق، الإغراء، الرعب، الانهيار، النزول..

وما يثير الانتباه هنا أيضاً أن عملية السرد يتولاها السارد الذاتيّ، وليس السارد الموضوعيّ كما جرى في المقاطع السابقة. أي أن تدافع الحدث السرديّ منقوعاً  بما يتخلله من انفعالات السارد الذاتي ونواياه. يندفع الأخَوان كلاهما في سردِ  الواقعة، بضمير النحن، والإفصاحِ عن إسهامهما في دفع الحدث الى الاكتمال، وتحمّل نصيبهما من قسوته.

ومع ذلك، وهذا ملمحٌ شديد الدلالة، فإن الإشارة الى الأخ الأكبر تتمّ بحياديةٍ وبرودٍ تامين. فهو ” الأكبر” فقط، مجرّداً من أية صفةٍ حميمةٍ وخالياً من ضميرٍ الإضافة الى السارد الذاتي الذي يهيمن على المقطع كله. هو ليس ” أخونا الأكبر” وليس ” الأخ االأكبر” أيضاً.

والملاحظ أن في مشاعر الأخوين، إزاء أخيهما الأكبر، ما يذكر بمشاعر الأخوة في قصة يوسف، فليس فيها إجماعٌ على الكراهة المطلقة، ولا عاطفة الحنان الخالص أيضاً. إنها الخضمّ المتلاطم من المشاعر الملتبسة، الحسد والضغينة، وما يكمن أو يتراءى بينهما من مشاعر إيجابيةٍ مضببة قابلةٍ للنمو.

إن احتشاد نفسيهما بكل هذه المشاعر المتضادة يكشف قدراً من الإعجاب الكامن في أغوار النفس بشجاعة الأخ الأكبر، أو يوسف القصيدة. لكنّ العجز يشعل في نفسيهما الحسد والفضول والضغينة والعجز حد العويل. ثم أليس الحسد، تحديداً، ملتقى النزعات المتضادة قبل أن تذهب الى اختمارها النهائيّ محبةً خالصةً أو كراهةً محضة ؟

وفي المقطع السابق أبياتٌ كاشفة، لابد من التريث أمامها، ففيها إضاءةٌ لالتباس العواطف وتضارب الدوافع:

ووقفنا ننعقُ – مثل غراب البينِ –

كأنّا نغريهِ ونرعبهُ حتى نزلَ

– بطيئاً- أربعَ درجاتٍ

وانهار السلّمُ تحت خطاهُ

في هذا الجزء من المقطع الأخير تتقدم المشاعر الملتبسة في اتجاه وضوحها القاسي، هاهم الأخوة يدفعون الأخ الأكبر، بالإغراء والنعيق والتخويف، الى البئر.

ومن أعماقهما المحتشدة بالضغينة يصعد الغراب القديم شاهداً على الأخوة الجدد، وهم ينجزون فعلةً مشابهةً لتلك التي كان شاهدها الوحيد.

يحضر الغراب في البيت الأول بكثافةٍ  تؤكدها الحال المؤّلةُ من الفعل و أداة التشبيه والمشبه به “ننعق مثل غراب البين”. وهكذا فإن تشبيهَ نفسيهما بغراب البين، واستخدامَ الفعلين” نغريه ونرعبه “، إضافةً الى حرف الغاية “حتى”، يفتح أمامنا متسعاً للتأويل.

لماذا حضر الغراب في هذه اللحظة تحديداً؟ لقد غلبهما الإحساس بفداحة دورهما في دفع أخيهما يوسف القصيدة الى نهايته وهما يسلّطان عليه، بدافع الحسد والضغينة المرّة، وابلاً من النعيق والاغراء والترهيب. وثمة فضولٌ، مثل فرحٍ وحشيٍّ مكتومٍ، يدفعهما الى استعجال الأخ الذاهب الى مصيره.

 إنه الإحساس بدنو مقتل الأخ، يطيح بحذر النفس من البوح، ويضعف قدرتها على التمادي في التجبر والمكابرة والتكتم. فتضج في ظلمات الروح الأشباه والنظائر لقتل الأخ لأخيه. وهاهو غراب البين، يخرج من ظلمات الروح الى اللغة.

وبعد مشهد انهيار السلّم، تأتي الأبيات الثلاثة الأخيرة خاتمةً شديدة الكثيف:

        وانتشرَ الأهلُ ،

      وخرج الغواصونَ

      على أكتافهم الجسدُ العاري المبلولْ.

مشهدٌ جنائزيٌّ مختصرٌ ومكتوم. لا يشفّ إلاّ عن أقلّ التفاصيل في الحركات ومنتهى الإيجاز في علامات التفجّع. ورغم كثافة هذه الخاتمة، فإنها تؤكد بقوةٍ مشهد الظهور والانكشاف: بروزُ الأهل وانتشارهم، خروجُ الغواصين من الماء، وتجلّي الجسد العاري على أكتاف المشيّعين. هاهو يوسفُ القصيدة يكمل مغامرته، فيخرج من الماء ومن ثوبه المنقوع بالملح وصهد الظهيرة، ليغدو أكثر تجلّياً، وأوسع انتشاراً. ليصبح أشد تفلتاً من وصايا السلطة، وأكثر انتصاراً على هشاشة الذات المرعوبة والمتخاذلة.

إن شطراً مهماً من حياة محمد عفيفي مطر السياسية والفكرية يكاد أن يرتقي، بسبب شيوعه وثقله المرجعيّ، الى مستوى الدال الفكريّ أوالمكوّن الشعريّ. وربما كانت مواقفه الفكرية في ثمانينات القرن الماضي في مصر وخارجها قد دفعت به الى أن يعيش فترةً من المكابدة والإهمال القاسيين. وكأن هذه القصيدة تنبثق من ذلك المصهر القاسي الذي اكتوى بناره محمد عفيفي مطر وحمل ميسمه في روحه و في جسده على السواء.

 وكما يؤكد هذا الختامُ الجنائزيُّ مفارقةً مهمةً تكمن في العودة الى السارد الموضوعيّ بحياديته، واختفاء الأخوين، كساردٍ ذاتيّ، اختفاءً تاماً. وهكذا يستولي يوسفُ القصيدةِ هنا على المشهد كله، ويحظى بالبروز والتجلّي بكامل نصاعتهما، تاركاً  أخويه، خارج المشهد، يغرقان في نسيانٍ لا حدود له.

وحين نتأمل البيتين التاليين، وهما من المقطعين الأول والأخير من القصيدة، على التوالي :

– وتشفّ عن الجسد المشويّ

– على أكتافهم الجسدُ العاري المبلولْ

ندرك اكتمالَ مسار النصّ ووصولَهُ الى غايته الأخيرة. لقد ابترد الأخ الأكبر وعاد من مغامرة البئر المخيفة جسداً مبلولاً، عارياً من جسده المشويِّ وثيابه المالحة . هاهو محمولا على الأكتاف يؤكد نصاعته وانتصاره على الخوف والتردد.

وعودةً الى المشهد الأخير مرةً أخرى، فإن ثمة آصرةً، في هذا الديوان، يقيمها محمد عفيفي مطر بين موتين: موتُ يوسف وموتُ هابيل، بين أخـوةٍ هنا وأخوةٍ هناك، وأخيراً بين هذا المشهد والمشهد الختامي من قصيدة ” مراوغة الغراب” ، وكأنّ الشاعر يقدّم في ذلك المشهد تفصيلاً لما جاء به هنا مجملاً وخاطفاً، لكنه يسير بالقصة، مرةً أخرى، في مسارٍ مغايرٍ، الى حكمةٍ حاسمة:

قلتُ احتملْهُ على الأكتافِ واصطبرِ

عن سوأةِ الدفنِ في النسيانِ والحفرِ

وكأنه يريد القول إنّ ما عاد به الأخَوان، في النهاية، إقامةٌ في نسيانٍ أقسى في كثافته من الموت ذاته وأقلّ نبلاً منه. وهاهما يدفعان ثمن جريرتين لا تغتفران: سكوتهما عن جور السلطة، ومساعدتهما لها على إسكات صوت الرفض والتمرد.

  وهكذا يبترد يوسفُ القصيدةِ ويطفيء جمرة دمه، في حين يتردد فيه أخوته، وهم كثيرون، في سلوك هذا الدرب. وهاهو يكمل خاتمة القصيدة بموته الجسورالمدويّ في زمن الصمت الذي “تجتره القطعان” دون أن تحرك ساكناً. وهو المجد ذاته الذي أنجزه محمد عفيفي مطر حين طابق بين قصيدته، التي حرصت دائماً على كرامة المعنى ورفعته، وروحِهِ التي لم تنكسر أمام بطش السلطان أو لمعان خزائنه.