عائلة من الكتب والمحبين 

على جعفر العلاق

التفتُّ، على غير قصد مني، إلى التلفزيون، الذي كان يثرثر دون أن ينتبه إليه أحد. كانت التفاتةً سريعة. اصطدمت بوجه أنثويّ معافى يملأ الشاشة. كانت المذيعة جميلة جمالا لا شائبة فيه، وكانت تحمل بين يديها كتابا جديدا، تبدو متحمسة للتعريف به. كانت تقول شيئا، بينما طريقة حملها للكتاب تقول شيئا مغايرا تماما. مشهد كان ينم عن تناقض واضح جدا. عينان جميلتان إلا أنهما أمّيتان تماما. ويدان رغم شبابهما الطريّ تمسكان بالكتاب بفظاظة واضحة.
تخيلت للحظة أن ما أراه شيء بالغ القسوة. أمّ شابة تحمل رضيعا ناعما وطريا، بطريقة تفتقر إلى الأمومة. كانت تثني إحدى يديه بقوة وراء ظهره، فيعلو صراخ الكتاب وهو يرفس بقدميه الورقيتين تلك المذيعة المعافاة، التي لم تُعدّ نفسها كما ينبغي لأمومة ستداهمها حتما ذات يوم.
ومع أنها كانت تبذل جهداً كبيراً لتبدو، قدر استطاعتها، طلقة في الحديث وخفيفة الظل، إلاّ أنها ورغم ذلك لم تبذل ما يكفي من العناية لتخفّف من جهلها باللغة العربية، الذي حاولت تغطيته بطبقات من مكياجها الكثيف. عينان تائهتان وشفتان لا تربطهما بما تقولان رابطة من أي نوع.
كنت أتابعها مشفقا عليها مما تعانيه من انفصام في شخصيتها تلك اللحظة. بدا جسدها الطافح بالشباب مفرغا من أيّ إيحاء جمالي أو ثقافي. ضجة زاعقة، وجمال خارجي وفوضى تفتقر إلى المعنى.
كان نطقها للكلمات يوحي بتربية متواضعة عاشتها تلك السيدة الشابة. شفتان جاهلتان بما تقولان، ولسان يحاول أن يكون ذربا دون أن يحتفظ بوقع نظيف مريح السمع. كان جسدها كله مزدحما بحركات فائضة عن الحاجة أحيانا أوعديمة الدلالة في أحيان أخرى.
إن طريقة شخص ما في الإمساك بكتاب أو مجلة، أو طريقته في تقليب صفحاتها تعبير بليغ عن شخصيته، ومعيار لطريقته في التعامل مع أحد حوامل الثقافة أو مصادرها. الكتاب، مثلا، ليس حزمة من أوراق تائهة عن مصيرها المرتقب، بل هو كائن ثقافيّ حيّ قابل للنمو أو للتلاشي، قابل للتأثير أو التأثر.
ليس أجمل من رفقة الكتاب في خلوة حميمة، أو رحلة ممتعة. ليس أجمل منه حين يكون في صدارة بيت عامر بالمحبة والأمل وفي عائلة يربطها بالقراءة رباط من الشغف الجميل. وليس أضيع من الكتاب حين تجود به صدفة عابرة، أو إهداء فرضته لحظة مجاملة لا تعمر طويلا.
لذلك كله لا يكون الكتاب الذي تحمله ذا دلالة واحدة على الدوام. هل تتركه يتدلى من أطراف أصابعك الضجرة دون اهتمام؟ هل تضمه في راحة يدك المرخاة على امتداد جسدك، أم المندّاة والمشدودة إلى صدرك من جهة القلب؟ وكيف تحتفي بكتابك لحظة القراءة؟ أتطوي غلافه الأماميّ إلى الخلف بقسوة، أم تمدده على الطاولة، مثل جثة، ثم تضغط بكلتا يديك على وجهه المفتوح؟ يحدث أن تعود من مناسبةٍ ما، ثقافية في الغالب، من مؤتمر أو سفر إلى الخارج، تسارع إلى فك رباط الذاكرة، وفتح حقائبك. خشيتك الكبرى من غضونٍ تلحق بكتاب عزيزٍ عليك. أو بصورةٍ جمعتك بأصدقاء ذهب بهم المكان أو الزمان بعيدا عنك.
تنتشر محتويات الذاكرة وتتثاءب الحقائب عن تعب ما يزال دافئا، وكتب جديدة عن ذكريات تتلذذ بإطلاع أسرتك عليها، وحنينٍ بدأ يتشكل من جديد. وقد تقاسمك أسرتك أو بعض من أفرادها هذا الفضول لاستعراض ما جلبت. وكثيرا ما تكون لهذا البعض حصصهم مما اقتنيت، حسب أعمارهم، حسب ميولهم، وقد تستمر هذه الفترة. ستتريث الكتب بعض الوقت، قبل أن تستقر على الرفوف.
وهكذا يكون الكتاب في البيت، كائنا عاطفيا، حسّاسا وخفيف الروح، واحدا من أسرة واعية ومتحابة، يدلي، بين آونة وأخرى، بمكنونات نفسه لكل من يشاركه تلك اللحظة، فإذا بالبيت كله ممسوس بهاجس الجمال، ومسكون بالمحبة والوعي والتحضر.