الشعر و التلقي 2013 

جيل الستينات و تفجر الأشكال والرؤى  
ومن الواضح تماماً أن هذا الجيل كان يمثل ردة فعل جمالية وفكرية على الأجيال الشعرية السابقة، ولا سيما جيل الرواد الذي كان يغلّب، في أحيان كثيرة، مضامين القصيدة ودلالتها الاجتماعية أو السياسية على ثراء الشكل الشعريّ. لذلك كان شعر الستينات، في نماذجه المتقدمة، تمرداً على سيادة الموضوع، وهيمنة الدلالة.
لقد كان هذا الشعر متقداً ، إلى حد كبير، بالخيبة والشك والرفض، ولم يكن للشاعر الستيني يقين فكريّ أو سياسيّ يطمئن إليه، بل كان شاعراً تعرض يقينه الشعريّ والجماليّ إلى هزة كبيرة. وهكذا جاء شعر الستينات ليشكل، قياساً إلى اطمئنان شعراء الخمسينات إلى خياراتهم الجمالية، بحثاً وقلقاً وتجريباً. ولم يكن التجريب الستيني شكلياً مجرداً، بل كان أكثر عمقاً وشمولاً: البحث عن أفق أغنى في الشعر والسياسة والفكر والعلاقات الإنسانية. كان ممارسة شعرية، كما يقول سركون بولص، تتماشي:
“مع مجريات التجريب الاجتماعية والتاريخية في تلك الفترة، الحاصلة في صلب المجتمع لا على قشرته الخارجية”.
و كان الهاجس التجريبي، لشعراء الستينات، شديد التنوع:
“لا يكف حتى يجد الشكل الأمثل للتعبير عن موقع الكاتب في عالمه وزمانه. فهو كرمز عملي يشير إلى قلق أساسي عند الكاتب، إلى ثراء روحي لا يتسرع في تبني الخيارات، يدفعه إلى البحث عن بدائل لما هو سائد، وبالتالي إلى التمرد على كل نمطية”.
إنه البحث القلق، والمستريب من كل شيء، فمن العبث”البحث عن حقيقة ثابتة ضمن الزمان والمكان”.
ويرى الشاعر الستيني أن القصيدة ليست حديثاً (عن) موضوع ما، أو فكرة ما، بل هي رؤيا يمتزج فيها النص والموقف، وتتماهى فيها اللغة بالدلالة والشكل بالمضمون. كما أن الدافع، لكتابة القصيدة، ما عاد كما كان في معظم شعر الخمسينات، الإصلاح أو الوعظ، أو التغني بلغة مباشرة. إن الدافع الأعمق للكتابة الشعرية هو “صبوة الروح للتماس مع الحقيقة التي تعذب كياننا”.
لقد انطلق الشاعر الستيني من هوس داخليّ واحتفاء بالفرد وانكساراته الروحية والسياسية، لأن هذا الفرد هو الحقيقة الثابتة التي لا يكتب الشعر إلا بوحي منها.
وإذا كانت قراءة الفكر اليساري والوجودي والفرويدي قد شكلت الأساس الفكري لموجة الشعر الستيني، فإن السوريالية، شعراً وبيانات، وتجربة أدونيس الشعرية تشكل رافداً عميقاً للرؤيا الشعرية لهذا الجيل، إضافة إلى ما ترجم في مجلة شعر فرنسي وتعريف بتياراته الحديثه.
كان هذا الجيل، كما أشرنا ، أبناء الخيبة السياسية وانكسار الأحلام الكبيرة، وكان شعراؤه قد تفتحوا شعراً ومفاهيم في فترة شهدت خمول النظام السياسي في العراق، وضعف مؤسساته. كانت الدولة دونما هيبة أو جبروت. وكان النظام الحاكم كما يقول فاضل العزاوي نظاماً بلا ادعاءات”، الأمر الذي منعه من الوصول إلى مفاصل الحياة وظلالها الدقيقة، أو الهيمنة على حركتها هيمنة صارمة. إنها مفارقة حقاً، أن يكون في هزال الدولة وخمولها، فرصة لازدهار المشروع الستينيّ ازدهاراً استثنائياً.
لم يكن جيل الستينات، رغم الكثير من الخصائص المشتركة بينهم، جيلاً دون تمايزات. وربما يمثل “البيان” الشعري نموذجاً لذلك التباين الصارخ؛ فالبيان، لغة ورؤىً ومفاهيم، يظل أقرب إلى فاضل العزاوي منه إلى أي من الشعراء الثلاثة الآخرين الذين وقعوا عليه إلى جانب العزاوي”.
ويمكن القول دونما مبالغة إن فاضل العزاوي أكثر شعراء الستينات وضوحاً، خاصة في اندفاعتهم الجياشة الأولى. كان صوتاً تجريبياً محرضا ساهمت قصائده، مساهمة عميقة، في تشكيل مناخ القصيدة الستينية إلى جانب أصوات متفجرة ومشاكسة أخرى مثل: سركون بولص، صادق الصائغ، جليل حيدر، صلاح فائق، مؤيد الراوي، عبد الرحمن مجيد الربيعي (في مرحلته الأولى خاصة).
إلى جانب هذا النفس التجريبي القائم على التمرد والمغامرة، وتعكير تجانس الشعر بالفوضى وماء الإيقاع بوعورة النثر، كان هناك موجة أخرى في ذلك النهر الستينيّ الحي: حسب الشيخ جعفر، فوزي كريم، سامي مهدي، خالد علي مصطفى، عبد الرحمن طهمازي، ياسين طه حافظ، حميد سعيد، محسن إطميش. إن القصيدة، لدى هذا الاتجاه، لا تستمد نشاطها من هاجس التضاد والتنافر بل من استيعاب للتراث القريب والبعيد وتمثلّ له، ومن رؤيا شعرية تستمد لهبها الفاتن من العصر وقوة الماضي معاً. رؤياً ترتبط بالحياة ارتباطاً ممضاً وترتفع بها إلى مستوى الحلم وتوهج البصيرة.
في هذا المنحى لا تكون القصيدة طفرة أو انقطاعاً، بل هي تطور عضويّ: يستند على المنجز الشعريّ دون أن يتطابق معه، ويبتعد عنه دون أن يلغيه. والقصيدة، هنا، ليست شكلاً محضاً، أو لعباً مجانياً، بل هي، أحد مقومات الرؤيا وقوام عجينتها الحارقة. إنها تجسيد لعذاب النفس وضغوط الحياة في شكل شعريّ تتحول فيه الأشياء والأفكار والموضوعات إلى طينة تشع بالدفء والتجانس. ويحاول شعراء هذا الاتجاه أن تستمد القصيدة إيقاعها لا من مهارات عروضية مجردة، بل من حركة الذات وهي تمتزج بكيان النص وتموجات نموه.
ومن الضروري القول مفهوم الجيل، هنا، ليس مفهوماً زمنياً. إن جيل الستينات ليس انتماء للتاريخ، أو الزمن في تعاقبه سنواتٍ وأجيالاً، بل هو انتماء للرؤيا الواحدة التي تجمع هذه المجموعة من الشعراء في نظرتهم إلى الشعر واللغة والحياة.
وبهذا المفهوم فإن شاعراً كيوسف الصائغ، وهو شاعر خمسينيّ، لم يكتب شعراً حقيقياً إلا في ظل المناخ الذي فجره شعراء الستينات. إن قصائده الطويلة مثل (رياح بني مازن) و(اعترافات مالك بن الريب) و (انتظريني عند تخوم البحر) تشكل علامات مميزة في الشعر العراقي الحديث لما تحتشد به من براعة في البناء، وتعدد في الأصوات، وما تكشف عنه من تنمية للحدث الشعريّ وإحالات إلى نصوص غائبة دينية وأسطورية وفولكلورية. أما قصائده القصيرة التي ضمتها مجموعتاه (سيدة التفاحات الأربع) و (المعلم) فهي نبرة أخرى لهذا الشاعر، تعتمد الايجاز الشعريّ، والاضمار، والسرد القائم على التشكيل والمفارقة.
كما أن شاعراً خمسينيا آخر مثل عبد الرزاق عبد الواحد، استثمر بعض الرؤى الستينية وما أشاعه شعراء الستينات من مفاهيم جديدة حول القصيدة وعناصر البناء فيها. وقد كتب بعض القصائد الجديدة مثل (مقاضاة رجل أضاع ذاكرته) و (الصوت) و (من أين هدوؤك هذي الساعة) في ذلك المزاج الستيني الملتهب، قبل أن ينعطف، ثانية، إلى القصيدة التقليدية.
إضافة إلى ذلك فإن شاعراً متجدداً كعبد الوهاب البياتي لا يمكن فهم تحولاته العميقة، في الصياغة والرؤى، بمعزل عن تلك النار الشعرية التي أشعل غيومها الزرقاء هذا الجيل المهووس بالشعر والحلم والحياة.
أثارت قصائد النثر، التي كتبها أدونيس وتوفيق صائغ وأنسي الحاج ومحمد الماغوط، الانتباه إلى ما في النثر من امكانات جمالية وخصائص تقترب به من الأداء الشعريّ العالي. وقد كان شعراء الستينات أول من أعاد الاعتبار للنثر في الشعر العراقي، فباستثناء “النثر المركز” الذي كان يكتبه حسين مردان لم يكن شعراء القصيدة الحديثة، في العراق، قد التفتوا إلى طاقة النثر وخصائصه الشعرية. كان اهتمامهم بالنثر والكشف عن شعريته جزءاً من موقفهم من الشعر، ومفاهيمه المستقرة في الذهن والذائقة، وجزءاً من إحساسهم بمعضلة الإيقاع وضرورة الخروج به إلى مديات أوسع وأكثر غنىً.
وعلى الرغم من أهمية قصائده الموزونة، يمكن القول إن سركون بولص من أهم الشعراء العراقيين الذين كشفوا عما في النثر من تفجرات خفية، وقدرة ممتازة على التعبير، المكتنز، الخاطف.
تأخذ الصورة في قصيدة النثر، لدى سركون بولص، مداها الأقصى. حيث يعوض الشاعر عن جمالية القصيدة الموزونة باشعال طاقة النثر، وإيقاع الكلمة، وقوة التضاد الخفيّ بين الأفكار والايحاءات:
1- كلما خطوت خطوة
انفتح باب في وادٍ بعيد
أجلس لأستريح
فيصعد إلى الأفق رجلٌ ملثم
يشقه باظافره كأنه حذاء قديم
2-بين هياكل جرارات تقطر صدأ
وبقايا أمتعة وقناني
تفترش التلّة:-
بسطالٌ
من دون سيور، مسمارٌ
لا يصلح حتى للصلب، وغربانٌ متخمةٌ
تنعق بين حطام مراكب لم تنجُ من الطوفان
3-حلّق طائر
من أحضان شجرةٍ
ظلّ غصنها المهجور يوميء في الهواء
زاد السكون
حتى سمع الزمان ينسلّ على أطراف بستان
يابس الأشجار بخفة الثعلبِ أو القطاة
واهتزّ أديم الماء عندما انحنى
ليشرب، ظامئاً، عليه
ليس من أثر، في هذه المقاطع، للصراخ أو الشكوى. وليس هناك من لغة مباشرة تتحدث، أو تدين. إننا لا نجد غير الصورة ريانة باهرة: تضيء لنا لغة الشاعر وتراكيبه، فعذاب المنفى ومكابداته المتجددة، وبقايا الخراب المريعة، ودبيب الزمن من الثيمات الأساسية في شعر سركون بولص التي يكررها في سياق متنوع، يتفجر بشجن عميق، وحس رثائيّ كونيّ. إن ذلك كله يداهمنا عبر لغة ثرية قاسية لا تنبثق من براعة أو ذكاء مجرد بل من تجربة كيانية لا تهدأ.
في قصائده النثرية وشعره القائم على التفعيلة، لا يغفل فاضل العزاوي عنصر الصورة، غير أن ما يميزه عن شعراء جيله نبرته التحريضية. إن قصيدته لا تفصح عن صوته الغاضب المستفز عن طريق الاستخدام المنطقي تلك المفاجأة السوريالية، واللغة الجريئة الصارخة التي تفجر تأثيرها من صور التضاد والخلخلة:
اعطونا علفاً يكفي كل خنازير العالم
اعطونا أوطاناً دون عيوبْ
أعطونا أسئلة وحروبْ
لم نربحها،
اعطونا رباً لا يؤكلْ
اعطونا برسيماً لا يصهرْ
اعطونا خلاً في جردل
اعطونا أحذية أوسعَ منا
اعطونا جدرياً للزينه
أعطونا أسواقاً كاسدةٌ في الجنه
اعطونا جلادين جميلين كليل عربي
اعطونا شهداء
بهذه النبرة المستثارة يغني فاضل العزاوي حرمان الإنسان العربي الواقف خارج الجنة متفرجاً على مصيره تصوغه الأنظمة على هواها. إن شعر العزاوي مسكون، أبداً، بتلك النار المكدرة وقد اصطبغت بعذاب الإنسان في فرديته المهددة وطريقه المؤدي دائماً صوب المجهول.
يعكس المقطع السابق، أسلوبياً ، خمول الإنسان وإحساسه باللاجدوى؛ فهو لم يكن فاعلاً، في هذه المقطوعة، بل كان مفعولاً به باستمرار، ولم يرد اسماً ظاهراً بل ضميراً متصلاً بالفعل. كما أن نهايات الأبيات تعكس، عبر سكونها، عجز الإنسان العربي، وصمته القاتل؛ فالمقطع كله يؤكد الانتظار، والسلبية، والتلقي.
لم تكن قصيدة النثر وحدها تجسيداً لإحساس الشاعر الستيني بمأزق الوزن في القصيدة الحديثة. فقد اندفع الكثير من شعراء هذا الجيل يحاولون توسيع الايقاع الشعريّ وتعميق مدياته.
وقد كانت القصيدة المدورة من أكثر هذه المحاولات خطورة، وإذا كان التدوير قد عرف طريقه، بكثافة، في الستينات على يدي حسب الشيخ جعفر، فقد شهدت القصيدة العربية الحديثة محاولات مدورة في فترة مبكرة قام بها يوسف الخطيب، وخليل الخوري. غير أن تأثير أدونيس، في قصيدته (هذا هو اسمي) لا يمكن اخفاؤه. لقد كانت هذه القصيدة نقلة واضحة في بناء القصيدة العربية الحديثة كما أنها تركت تأثيرها التقنيّ بارزاً على التجارب اللاحقة في مجال القصيدة المدورة.
استطاع حسب الشيخ جعفر أن يستثمر طاقة التدوير استثماراً بارعاً، وكانت قصائده المدورة شديدة الرهافة ولعل أبرزها: الرباعية الأولى، الرباعية الثانية، قارة سابعة، هبوط أورفيوس، هبوط أبي نواس. لقد تحررت أبيات القصيدة المدورة من القافية المحتومة، وترك البيت الشعري حراً في الإندماج في البيت الذي يليه ليتشكل، من خلال تدفق الأبيات واتصالها ببعضها بعضاً، نمو القصيدة، ايقاعياً وتركيبياً ودلالياً.
في قصيدته (قارة سابعة) لا يستسلم الشاعر إلى إغواء التدوير طوال القصيدة، بل يستخدم جملة من التقنيات مثل: استخدام مجموعة من الأبيات المتفاوتة الطول والقافية. بهذه الطريقة، وكما فعل أدونيس في (هذا هو اسمي) يفتح الشاعر مساحات من الطراوة الغنائية تخلخل كتلة التدوير وتبعث فيها نسمة مرفرفة، وتحول دون وقوعها في التكرار والنمطية:
الزمنُ اليابسً، يا حبيتي، كالقشّ في اصابعي،
ارتجفتُ مثل الوتر المشدود في انتظار لونِ
الثوبِ، وامتلكت في وجهكِ خفقَ النورس الغريقِ،
وارتحلتُ في انزلاقة اليدين حتى العروة الأخيرةِ،
اتكأتُ في الظلّ على انحناءة الشفاه (هل أتركهُ
ينصبّ كالجدولِ؟) فرّ الشَّعَرُ الثقيل كالنهر، ارتمى كالبجع
التعبانِ،
وانهمرتِ في همومه المنهمرةُ
في شهرك الثامن مثل الثمرةْ
أنضجها صيفٌ جنوبيَّ، ومثل الثمرة
صافيةٌ منتظرهْ
على يديَّ انطرحي ثقيلةُ كدمعة ٍ، على فمي
مرّي ، اشربي حبي، اطبقي عينيكِ واستريحي
في خجلي الفسيحِ
وهكذا تشكل هذه الأبيات المقفاة وسطاً غنائياً مائياً يصب فيه التدوير السابق، وتنبثق منه كتلة التدوير القادمة . لكن التدوير، عند حسب الشيخ جعفر، قد يتحول أحياناً إلى شكل جاهز يلبسه الشاعر كل قصيدة يكتبها، وكل تجربة يعالجها دون مراعاة لتموج التجربة وتفردها كما حدث في بعض قصائده في مجموعتيه (زيارة السيدة السومرية) و (عبر الحائط في المرآة).
لقد استطاع الشاعر أن يبني، بدأب، وعمق، ملامحه الخاصة، وأجواءه المتميزة. إن مناخ القصيدة، لدى حسب الشيخ جعفر، لا يمكن إرجاعه إلى عنصر بذاته، فهو يتولد عن مكونات متشابكة قد تكون أسطورية، أو فولكلورية، أو واقعية، كما أن الشاعر كثيراً ما يجسد حركة قصيدته عبر الذكرى أو المناجاة أو الحوار، أو عبر هذه المكونات مجتمعة. وتنمو شخوص الواقعة الشعرية، لديه، من خلال مجموعة من التحولات الموحية.
ويشكل شعر سامي مهدي، بين شعراء الستينات، تجربة شديدة الخصوصية، على الرغم من أن هذه الشخصية لم تكتسب ملامحها إلا بعد مكابدة  طويلة. فبعد تأثراته الأولى، في مجموعتيه (رماد الفجيعة) و (أسفار الملك العاشق) تحديداً يبدأ تميز سامي مهدي منذ ديوان (الأسئلة) تحديداً .
تبدأ القصيدة، لدى سامي مهدي، من واقعة ، أو حدث ما، يكون الشاعر فيه راوياً أو بطلاً أو ضحية . ورغم لغته المقتصدة، تشتمل فإن قصيدته تشتمل على متن سرديّ يتخفى تحت معجم شعريّ لا زوائد فيه. فهي لا تستمد شعريتها من توهج مجازي، أو انحراف عن سنن القول الشعري، ولا تستمد طاقتها من لغة يستفزها لهب الاستعارة أو غرابة الصورة؛ لأن شعرية القصيدة، كما يرى سامي مهدي نفسه، لا تكمن “في لغتها بل في تكوينها الكامل” إن معالجة الفكرة، عبر السرد والمفارقة، يكشف عن مكنون القصيدة وما يعتمل داخل نسيجها من حلم أو صراع.
وسامي مهدي مهووس بالتعبير عن فكرة الزوال في كل شيء: في الفكر، والناس، والأشياء. كما يعني شعره بالإفصاح عما ينتج عن ذلك كله: إحساس الإنسان بالعزلة والذبول، ضمور الأفكار ودفء القلب.
ورغم ما يبدو على نسيجها الظاهريّ من تجانس، فإن قصيدته لا تنشغل بالسطح الهادئ أو اليومي للأشياء، بل تتجاوزه إلى دلالته الخفية. ربما ينتمي حدث القصيدة، بتفاصيله أو مظاهره إلى الظرفي أو الطارئ، غير أن شرارة المغزى الذي يعبر عن العام والشامل، ويجسد خيبة الإنسان ومعضلاته هو ما يحتل بؤرة القصيدة:
لم نكن وجلينِ من الحبَّ
أو خجلينُ،
ولكننا حين داهمنا بغتةً
واستبدت بنا نارهُ
أدركتنا مواعيدنا فافترقنا
وكنا، كما قيل عن غيرنا، عجلينْ.
إن وراء هذا السطح اليوميّ للقصيدة مغزىً أبعد من تفاصيله المألوفة: فالحياة الراهنة أبعدت الإنسان عن ذاته وغربته عن لذائذه المتقدة، إن نداءات الرغبة، وهي تصعد من آبار الجسد ، سرعان ما تطفئها ضجة الحياة، وغبار العادة والألفة: لتغدو نداءات تفتقر إلى الحرية والاكتمال.
والملاحظ أن صياغة القصيدة ذاتها تفصح، أسلوبياً، عن هذا القمع لتفتّح الذات ومباهجهاا. لقد استخدم الشاعر قافية النون في الكلمات: وجلين، خجلين، عجلين، وهي قافية التزم فيها الشاعر، إذا استبعدنا صيغة التثنية، حرفين لا حرفاً واحداً: الجيم واللام في (وجل، عجل، خجل) أي أنها قافية تعبر عن القسر والإلزام؛ لأن الشاعر لزم فيها ما لا يلزم حين جعل القافية حرفين اثنين ، إنها مضاهاة أسلوبية لإكراهات الخارج وضغوطه . وإذا تأملنا البيت الأخير من القصيدة لوجدنا أن هناك جملة اعتراضية: (كما قيل عن غيرنا) تفصل بين اسم كان وخبرها:
وكنّا ، كما قيل عن غيرنا ، عجلينْ
وهذا الفصل بين مكونات الجملة يجسد، أسلوبيا، انفصال الإنسان عن ذاته، كما أن الجملة المعترضة ذاتها تكشف عن مقياس خارجي قسري يتوجب على الإنسان أن يتطابق معه.
اشاعت موجة الشعر الستيني، ضمن ما أشاعت ، الشك بالمسلمات وزحزحت في هبوبها العاصف، نعمة اليقين التي يبشر بها وينطلق منها الكثير من شعرنا العربي، وشعر الخمسينات تحديداً.
ولاشك أن نبرة كهذه سبق لها أن سكنت شعر أدونيس وأنسى الحاج والماغوط، غير أن الشعر العراقي لم يعرفها، تقريباً، إلا في قصائد البعض من شعراء الستينات مثل: فاضل العزاوي، صادق الصائغ، جليل حيدر تحديداً. خلخلة لليقين السياسيّ والفكريّ، وتكدير للنفس المطمئنة. ولكن هذه الخلخلة تنطلق أحياناً، لا من حيرة النفس العزلاء، بل من دوافع ومحرضات تجعل منها، هي الأخرى ، خلخلة ايدلوجية.
ويمثل فوزي كريم، بين شعراء الستينات، صوتاً خاصاً. إن قصيدته لا تزدحم بصخب الجماعة ولا تثقلها الوعود الكبيرة، بل هي أصغاء شديد الرهافة لعذاب الفرد وتمجيد لعزلته الموجعة، لذلك يرى الشاعر أن وظيفة الشعر :
 هي الاحتفاء بلحظة التماس بين “محدود نسمع لهاثه، ومطلق نصغى قلقين إلى كليته”. وقصائد الشاعر محاولة للارتفاع بهذا الأسى إلى مشارف مرتفع يطل على محيط الكليات”.
إن هذا الإنسان الأعزل المهجور، في قصائد فوزي كريم، قد يحتجّ، ويغتاظ، لكنه احتجاج، أو غيظ مقموع؛ لأنه احتجاج “أبناء اليأس” الذين يحتجون بدافع الخجل ويرفضون بدافع الذنب.
نلمح في عالم فوزي كريم، إنساناً مملوءاً بالشك والحيرة: يقتاده الذعر والريبة وتنهشه المنافي، لكن هذا الإنسان قد يجد عزاءه وندمه معاً في ذاكرة مزحومة بالإنهيارات:
1- في “ايرلس كورت” رأيت نديماً أعرفُه
مطعوناً بالشبهاتْ
-“من يتبعُ ظلي حتى هذا الحدْ؟”
“من يُطلق كل يتامى الطيرِ من القفصِ الأسودْ؟”
من خوفي لم أبرأ بعدْ
2-ما الذي استعيد من الأمسِ؟
لا شيءَ
هذي سنينّ تمرّ على حافة الكأسِ
اني مدينٌ لصمتي
وحاشيتي قنواتٌ ركدنَ،
وأسيجةٌ تتآكل تحتَ المطرْ
وأنا معتمٌ كلحاء الشجرْ
وعميقْ…
3-وكان وقعُ تساقطِ الأغصانِ
والثمر المجفف في الوحولْ
أصداء من سبقوا خطايْ !
ارتاد حاناً لا يحلّ به سوايْ
أيامه متخثرات في الكؤوس ودونه تمضي الفصولْ
اخليتُ مائدتي لمدعوين ما عادوا لمائدتي الفقيرةْ
ذهبوا مع الوعد الجميل إلى مدافنه الأخيرة
تتجمع أجواء فوزي كريم وتتوزع على بؤر تكتظ بخضة الشك أو العزلة أو لذعة الذكرى. وهذه الأجواء لا تنتهي إلينا عبر قصائد مفتوحة لكل عابر، بل تتناهى إلينا عبر هذا البلل الشفيف، واللغة الظليلة المرتابة التي يثقلها الأنين البشري المكتوم والمعاني الخفية.
إن شكل القصيدة، لدى فوزي كريم، ينبثق مما تكتظ به من دلالة؛ فهو لا يأتي حلية أو إغراباً. كما أن غموض القصيدة لا يتأتى من تفكك النص أو عجز الشاعر عن الإحاطة بموضوعه، بل يتأتى من حيرة الموقف وتعقيد الوضع الإنساني.
ربما امكننا القول أن معظم قصائد حميد سعيد تبدو مسكونة بالثقة ومكرسة للحلم العام، لا في انكساراته بل في انتصاره النهائيّ. ويشكل شعره، في الغالب، صورة مثيرة لليقين الراسخ؛ فهو في ذلك قد يشكل النقيض لشعر سامي مهدي، وفوزي كريم، وياسين طه حافظ.
تبدو الشخصية الشعرية لحميد سعيد، في مجموعاته الأولى خاصة، شديدة التماسك، لا مجال فيهان تقريباً، لفجوات التردد أو التساؤل، حتى كأن الإنسان لا الشاعر والمؤمن لا الحالم هما المهيمنان على مخيلة الشاعر في الكثير من نصوصه الشعرية. كان هذا منهج حميد سعيد منذ ديوانه الأول (شواطئ لا تعرف الدفء). ومع (ديوان الأغاني الغجرية) لم يحتفظ هذا المنهج بكل عناصره، لقد صارت قصائد الشاعر، بعد هذه المجموعة، أكثر تخفياً، فهو لا يلقي بنفسه على موضوعه دفعة واحدة، بل يلامسه ، في أحيان كثيرة، ملامسة يخفف من حدتها اجتهادات في الأداء المرن، والإيماءات الذكية إلى النصوص الأخرى.
وربما كان حميد سعيد أكثر شعراء جيله اتكاء على التراث شعراً أو مرويات أو أحداثاً. وقد منح ذلك قصيدته دفئاً كانت تفتقر إليه. لقد صرنا نحس همهمة الماضين، وحركة نفوسهم تنتشر في شرايين النص وتخفف من خشونته.
كما أن لغة الشاعر تحررت، في مجموعاته الأخيرة، من اقمطتها، أن نسمة المجاز أخذت تحرك أحشاء القصيدة، وتهز شجرة النص هزاً شيقاً:
كان شوك اسمه وحرير الكلامْ
يسهران معاً..
ويقيمان عرس المواجد للشيبِ
تحنو قصائدهُ
وتدير الكؤوس لأترابه في الغيابْ
فإن غضب النادلُ البخيلُ
وطالبها بالحسابْ
شاكسته والقت له حجراً في الشرابْ
منزل في الهجير.. ومنزلة بين منزلتين
جمر الغضا وتفاحة الزمهريرْ
الأمير الفقير
لقد بدأت قصيدة حميد سعيد تفتح فضاءها لتموجٍ عذب في اللغة والمعالجة، كما أن نبرة من القلق الشخصيّ المرتاب أخذت تتسرب إلى ثنايا النص، وهي قوام كل أفق شعريّ يسعى إلى أن يكون مزحوماً بالدلالة والرؤى.
تختلف الشخصية الشعرية لياسين طه حافظ اختلافاً بيناً عن الشخصية الشعرية لفوزي كريم، رغم أن الشاعرين ينوءان تحت عبء من القلق وضياع اليقين. وقد حمل شعر ياسين طه حافظ منذ مجموعته الأولى (الوحش والذاكرة) خوفاً طفولياً ظل يتنامى تنامياً محزناً عبر مجاميعه اللاحقة، باستثناء تلك الطمأنينة الحذرة في قصيدته الطويلة (النشيد). وقد بلغ هذا الخوف والحيرة ذروتهما في مجموعاته الأخيرة.
يمثل ياسين طه حافظ، لغة وموضوعات، صوتاً ستينياً مسكوناً بالوجل والآمال المرتابة؛ فلغته، في معظم دواوينه، لغة يومية شديدة التوتر، لا تعول كثيراً على هاجس المجاز، ولا يستهويها جمال المفردة؛ كما أن إيقاعات قصائده ليست إيقاعات راجفة، يستخفها الطرب أو الشكوى، بل تعكس ما في إيقاع المدينة من “كدر وبعثرة وجفاف”.
وشهدت قصيدته، في مراحله اللاحقة ، طراوة ودفئاً داخليين في اللغة والمناخات الوجدانية، ويقظة حزينة في الإيقاع. وربما كان السبب في ذلك كله هو الانكسار المدوي في الروح وتلك الالتفاتة المفجعة إلى الماضي:
وحين الوجه في الشباك يبحث عن عزيزٍ،
لذةِ ، فرحِ
ويبحث عن ندىّ في الريحِ
عن صوت يخاطب روحه،
عن رونق الدنيا..،
يرى سحباً
وأفواجاً من البشرِ
يرى جثثاً معبأةً
واحداقاً تلاصف رثة النظرِ
يرى، ماذا يرى!
يا أيها الحَـبٌ،
اتقِ الدود الذي يجري
من الجدران والشجرِ!
لقد ساهم شعراء الستينات، رغم تمايزهم، في إرساء مناخ شعريّ جديد، ونظرة مختلفة إلى الشعر، طبيعة ووظيفة ومفهوماً. ولا يمكن الاقتراب من صورة منصفة لهذا الجيل دون الوقوف على انجازات الشعراء المؤثرين منهم في تلك الفترة.
إن شاعراً كصادق الصائغ لا يمكن إلا التنويه بتجربته الصادمة ولغته الشرسة المتفجرة بالرؤى والدلالات العميقة التي كانت تخضّ القصيدة وتستفز حيويتها بعنف، وكذلك الأمر بالنسبة لجليل حيدر، فهو شاعر يمتلك لغة حادة ومزاجاً نافراً، الأمر الذي منح قصائده تلك النكهة الملتهبة. ويظل لصلاح فائق احتفاؤه بقصيدة الصورة، واللقطة المثقلة بعزلة الروح وترقبها الحذر. شاعر ينتزع من صخرة النثر أزهاراً مترفة وحنيناً لا يهدأ. كما أن عبد الرحمن طهمازي يجسد نموذجاً للشاعر الحديث وهو يلهب القصيدة بنار وعيه وثراء روحه معاً. إن قصيدته، رغم مظهرها الخالي من الترف اللفظي، وليدة وعي عال ٍ وعناء روحي عميق؛ فهي قصيدة التأمل والشجن الحكيم يتدفقان دونما تهور. أما خالد علي مصطفى  فقصيدته مثقلة بلغة مجازية كثيفة، ورؤى متشابكة، حتى أن نصوصه تكاد تنحني تحت ثمار روحه وفيض ذاكرته. لغة مكثفة، وولع بالصور لا يهدأ، ودلالات لا تكاد تفصح عن ذاتها لشدةتدافعها وتعقيدها.