قبيلة من الأنهار 2008 

سيرة الـذات ـ سيرة الآخـر
بحثاً عن الجوهر الصعب والمشترك!
عبداللّطيف الوراري
ذاكـرة الشاعـر
بسخاء المحبّ وأريحيّته: لأربعة عقودٍ من زمن التحوُّلات الصعب والمتسارع الذي كان يعبره طوفانٌ سياسيٌّ وثقافيٌّ هائج، كان علي جعفر العـلاق يقف هنا والآن.
يضع حياته في القصيدة، ويتجاوب مع نداءاتها في ذاته، والأمكنة التي ارتحل إليها، والوجوه التي صادفها وصادقها. كانت القصيدة، في نظره، هي ما يؤسّس هويّته باستمرار، لتظلّ ترياقاً لعبوراته وملاذاً له من جُمّاع الدمامة والزُّور والاغتراب. بخصوصية شديدة، حدّد هذا الشاعر الواسطيّ علاقته بالقصيدة باعتبارها سماءً مبتلّة بالفضة، أو امرأةً تنبثق من جرح في الريح، فيما هو يرتفع بآلامه وآماله إلى مستوى الرؤيا خفيفاً، مُشعّاً، ومفتوناً بحزنه العظيم عبر دبيب اللغة البلّورية الصافية. وبالقدر الذي كان يحفل فيه بالإصغاء إلى ذاته في زمنها، كان يُلقي بالاً وارفاً على تجارب من شاركهم سحر البدايات وقلقها، أو من عاش معهم لحظات المرض أوالموت بنبرة تأسٍّ وتفجُّع مؤثِّرة.
في ‘ قبيلة من الأنهـار’: الذات، الآخر، النصّ’* يتحدث الشاعر والناقد علي جعفر العـلاق، المحسوب على جيل الستينيّات الشعري في العراق، وأحد أهمّ رُوّاده الفاعلين، عن شعراء وكتّاب كان عايشهم في بدايات تجربته الأولى، والْتَقاهم في محطّات من عمره في الحياة والكتابة والمنفى، ولا يفوته اليوم أن يتذكّرهم بسخاء المحبّ وأريحيّته. هكذا كانت تتقاطع سيرة الذات وسيرة الآخر، وتتصادى لغة الشاعر الحميمة المأخوذة بفتنة الشعريّ مع لغة الناقد العالمة بشكل تشفُّ فيه عن ضروب الوصف والتأمّل والمعرفة. يٍستبصر الشّاعر ولا يُفْصح عن ذاته، ناقداً عارفاً ومُحيطاً بالظُّروف، إلا في فترات محدّدة تعقب لحظة الاستغراق في الكتابة والتأمُّل في ، لا حول ، الشاعر ـ الناقـد: هذا التجاور الذي نعثر عليه، هو مبعثٌ للراحة والشعور بالانتشاء العارف، ولكن للأسئلة المقلقة. فاجتماع هاتين الملَكتين، في وجه من الوجوه، يعكس الصراع الداخلي بين الغريزة والعقل، بين العاطفة والواجب. إنّنا نجد أنفسنا معه في ملتقى حركتين متضادّتين ومثمرتين في آن: حركة تتّجه إلى الآخر، وحركة تتّجه إلى الذات، في فاعليّةٍ تحلم وتهيم وتُؤنْسن الكائنات والأشياء، وأخرى تحلّل وتستقصي، وهي في منتهى ابتهاجها الحسّي والمعرفي. الاستراتيجية التي اعتمدها علي جعفر العـلاق، إذن، وبنى الكتاب عليها، أنّه كان يقرأ ذاته في مرآة الآخرين، ويتأمّل سيرتها في سيرهم التي لم تكفّ عن الحنين والشهادة، ولم يكن يستطيع أن يمضي في ذلك ويتوهّج بعيداً عن ضوء أرواحهم الذي كان يضيء العتمة ويبدّد الدويّ الكاسر، فهو ‘ لا يكتفي بذاته، ولا ينغلق على مكوّناتها، بل ينتمي بعمق، أو يُشير بقوّة إلى تلك القبيلة من الأنهار التي ترفل بالماء، أو الضوء، أو الكوارث’  ص7 .
واجب الصـداقة: من ذاتٍ إلى ذات
من ذاتٍ إلى ذات بوصفها آخر، كان العـلاق يحكي سيرته بقدر ما يحكي سيرة الآخرين الذين انتسجت صداقاته معهم، بعد أن انبثقت إمّا من لقاء بالصدفة، أو من رغبة وحلم، أو من موقف طافح بالوفاء والمحبّة، أو سياقٍ محتدم بالحرج أو بالغيظ. كانت هذه الصداقات تغنم وفاء السرائر وصمتها وحياءها في أزمنةٍ من العمر الجميل والمُمضّ من الازدهار فالذبول والديكتاتورية، ثُمّ انتهاءً بالفاجعة التي فرّقت الأصدقاء ووزّعتهم بين منافي الوطن والذّات واللغة.
يهتمّ العـلاق، من مقالةٍ في الصداقة إلى أخرى، بكلّ ما هو إنساني حتّى وإنْ بدا بسيطاً وتافهاً. يتحدّث عن كلّ ذلك بلغةٍ متعدّدة فيها كثيرٌ من الشعر، وهو ما يظهر من عناوين الفصول ـ الشذرات الكاشفة، كأن يصف السياب بأنّه ‘ جديد كشجرةٍ موغلة في القدم’، ونازك الملائكة بأنّها ‘ اقتحمت البحر، وتقدَّمت جيلاً بأكمله’، ومحمد الماغوط بـ ‘ نسر شعري بمخالب منقوعة بالدموع’، ومحمد شكري بـ ‘ قمر يبزغ من أسمال طفولته’. وما نلمسه أيضاً في ثنايا الكتاب من جمل وعبارات وصفية تشبيهية وإيحائية كثيرة تنحو بالمجاز منحى تشخيصيّاً ومرئيّاً مؤثِّراً يمنح الملفوظات شحنة تعبيرية مضاعفة، كأن يُشبّه أدونيس بأنّه ‘ ملاك مثخنٌ بالضوء والطعنات، فأيقظ بلغته الجهنّمية ورؤياه المحرقة ماء اللغة’ ، ويصف يوسف الصائغ أثناء محنته، بقوله: ‘ كانت الريح تهبّ قبالة روحه، مثقلة بالدم والوحشة، وكان يجلس وحيداً على سريره البارد وليس معه ما يُضيء به سهره الطويل إلا مخيِّلة مكتظة بالكوابيس وجثّة امرأة لا تريد مفارقته’  .وبنفس النبرة الطافحة بالأسى والتفجُّع يتحدّث عن رشدي العامل بأنّ ما تبقّى له في أيامه الأخيرة لم يكن سوى ‘ نافذة بالغة الضيق، وسرير بارد، وعكّازة واهنة’  .ولمّا مات محمد الماغوط وصفه بالصادق الكبير الذي ‘ اجتاز ساعات الكذب الأولى من نيسان بقليل، تاركاً لموته أن يغمر هذا الشهر بالحزن والعشب والرغبات’ . كما ظهر في لغة العـلاق الكثير من مشاعر الحزن والاغتراب والفقد، وهو الذي يتحدّث عن أغلب أصدقائه بعد موتهم ومعاناتهم في ظروفٍ لا إنسانية صعبة، فجعل ذاكرة الكتاب تتوتّر بين الغياب والحضور، كأنّها قـوْسٌ نافرٌ في البراري. ولكم كانت مثل تلك اللغة بليغة قدر ما هي صادمة، ولا سيّما عند حديثه عن الشاعرين يوسف الصائغ ورشدي العامل والناقد محسن إطيمش وأستاذه في الجامعة جلال الخياط. كان العلاق يتحدّث عن زمنهم المنقوع بالخسارات في الحياة والكتابة، بقدر ما كان ينقل لنا تفجُّعه الصادق بموتهم الكتيم والصادم واحداً تلو الآخر، بلهجةٍ تشفُّ عمّا في مزاجه السمح الرقراق من محبّة ووفاء نادرين لأصدقاء من طينةٍ خاصّة قضوا في الجوع والغربة واليأس، وقال عنهم إنّهم ‘ يتناثرون على طرقات العالم ، أو تحت نجوم الله الخافتة ، ويأكلهم الحنين إلى وطنهم المعذَّب دون أن تظهر لهم في الأفق نجمة أو بشارة’.
ولا يخلو وصفه لملامح الذّوات وهيئاتها المتوتّرة، هنا، من مقصد بليغ يقرأ التحوّلات كما ارتسمت، قويّةً وحارّةً، على الأصوات والعيون والشفاه والأيدي والمشيات والقامات والأمزجة والأرواح، يتبيّنها وجهاً لوجه أو على أسلاك الهاتف أو من مرأى بعيد، وهو ما يصلح ليكون ( بورتريهات) حميمة وطريفة ونادرة في آن . يصف صوت الجواهري بأنّه ‘ المثخن بعذاب الواقع ودويّ التاريخ’، ويقول عن بلند الحيدري: ‘ كان صوته مثخناً بعذابٍ قديم’، وعن يوسف الصائغ: ‘ صوته المليء بالشروخ’، ولا يُخطىء ما ‘ في صوته من ثراء إنشادي ابتهالي’، وعن مظفر النواب: ‘ لم يكن صوت مظفر أقلّ تأثيراً غير أنّ الخدوش والتغضُّنات كانت باديةً عليه’، وعن فوزي كريم: ‘ صوتٌ مفعم بالعذوبة’، ثُمّ صار ‘ صوته يفوح من جدران القاعة محملاً بوعود الستينيات وأمطارها البعيدة’، فيما أحسّ في نبرة عبد العزيز المقالح ‘ تموُّجاً حميماً’ وزاد: ‘ لا تراه في أحاديثه إلا هامساً حتّى لو كان ينادي كوكباً نائياً أو غزالة ضائعة’. وأعجبه في جبرا إبراهيم جبرا ‘ عينان متأمّلتان وملامح شديدة الرهافة، وغليون لا يفارق يده أو شفتيه’، وشبّه عبدالوهاب البياتي بأنّه ‘ كان مثل شجرة برّية: شائكاً، ومهيباً، وقادراً على الإيذاء’، ورأى في سعدي يوسف أنّه ‘ وجه مكدود ترابيّ متغضِّن..وعينان متعبتان، وشفتان مزمومتان على الدوام’، وفي مؤنس الرزاز ‘ قامة فارعة تملأ العين، وجسد كجسد الرياضيين يطفح وسامة وعافية وشباباً’، وكانت تأسره في محمد شكري ‘ رقّة لا تخلو من عنف، وقسوة بيضاء كالطفولة، وكأنّه الأضداد مجتمعة في حوار عجيب’.
في مقالات الكتاب العشرين ونيّف، نجد بالفعل احتفاءً بالصداقة وقيمها الإنسانية الرفيعة بشكل يتداخل فيه الذّاتي والموضوعي بصدقٍ ودون حرج، وهو يُلقي بضوئه الحنيّ الرقراق على شاعرٍ هنا وكاتبٍ هناك، بما يكشف عن خصوصيّة كلٍّ منهما في الكتابة ومعاناة الحياة على حوافّ العمر المثخنة بخيبة الأمل والشعور بالانحدار المرتطم بشجون الذات ووعي التاريخ.
 وكثيراً من المرّات، يتّخذ الحديث عن هذا أو ذاك صفة الذّريعة لكشف المزاج الخاص أو الاتجاه الشعري أو الموقف الفكري والأيديولوجي الذي يُنْتسب إليه، وبالتالي، نجد أنفسنا أمام (ريبرتوار) غنيّ بالمعرفة ونقد الظواهر النصّية، في حديثه عن الرؤيا وعلاقتها بالأسطورة في شعر السياب ، وعن مشروع نازك الملائكة الشعري والنقدي الذي كان يقف عند منتصف الطريق دائماً  ، عن النزعة الدرامية لدى بلند الحيدري ، وشهوة السرد لدى يوسف الصائغ ، والصورة الشعرية الغريبة والتشبيهات المتشابكة لدى محمد الماغوط. وشعريّة المنفى لدى سعدي يوسف ، والغنائية في شعر درويش، وتعايش المثقف والمسؤول في شخصية عبد العزيز المقالح, الموقف النقدي من الحداثة الشعرية وموضوعاتها لدى فوزي كريم ، والسخرية في روايات مؤنس الرزاز.
في سياق تلك التحليلات والآراء الخاطفة والكاشفة بلغةٍ تسترسل في البوح وتبتهج بالمعرفة، لم يكن العلاق يخفي شعوره بالإعجاب والاعتراف بفضْلٍ لهؤلاء وأولئك من أصدقائه الشعراء والكتّاب المنذورين لعراء الكتابة ومنفى اللغة،  ويدلي بعبارة أو رأي لا يخلو من صرامة الناقد وقسوته، وأحياناً يمسح الأذى ويرفع كلفة الحرج. من هذا الفيض الإنساني السمح مثلاً، يُعجب العلاق بالطريقة الفذّة التي كان يُنْشد بها الجواهري شعره، وبمحسن إطيمش في دراسته البارعة للإيقاع وعلاقته بالشحنة النفسية للنص الشعري، وتتملّكه الدهشة عندما كان يتأمّل برنامج أدونيس الشعري والثقافي، ويعترف بالحيف النقدي الذي ألحق الأذى بمنجز بلند الحيدري الشعري،  وبمثل ذلك عانى نزار قباني من إهمالٍ نقديٍّ كبير. كما يشير إلى أنّ السياب في سنواته الأخيرة كانت حياته، وليس شعره فقط، تجسيداً للانحدار إلى الهاوية، كما يُشير إلى أنّ البياتي، رغم طبعه الحادّ ولسانه الجارح، كان ‘ شاعراً يصعب تكراره في شعرنا العربيّ: أعني نبرته المميزة، ولغته الخاصّة، ورؤاه المفعمة بالأمل والعذاب’ ، كما نجد نقداً ضمنيّاً لاذعاً، في خضمّ المعترك الذي اجتازه الجميع، لأولئك من أدعياء الحداثة الذين ملأوا المشهد وصدعوا بالموضة والإرهاب اللفظي وانتفاخات الذات التي لا حدود لها.
كان علي جعفر العلاق، بذاكرةٍ نشطة ومشتعلة، يتذكّر الجميع بحبٍّ  ، ويترك كلامه، مسترسلاً بتلقائية وحذراً في آن، يعبر عشرات عناوين الأعمال الشعرية والسردية والنقدية التي رجع إليها، وعشرات أسماء الأعلام من شعراء وكتّاب وأساتذة جامعيّين كان صادقهم أوالتقى بهم في الأمسيات الشعرية والجلسات الحميمة ببيت أو مطعم أو مقهى، أو داخل أجواء المحاضرات، ومكاتب العمل، والمطارات، وردهات الفنادق، والمنافي، في أكثر من عاصمة ومدينة عربية أو أوروبية ( بغداد، صنعاء، عَمّان، طنجة، لندن، بيروت، دمشق وسواها).
 بموازاةٍ مع ذلك، كان يسرد ذاته منذ أن كان طالباً نبيهاً يكتب الشعر ، ويلقى الاحترام من أساتذته في المدرسة أو الجامعة، ويفرح بأوّل قصائده ومقالاته تنشر في مجلتي ‘ العاملون في النفط’ و’ الأديب’، ثمّ وهو طالب باحث في جامعة إكستر البريطانية يحضّر أطروحته حول ‘ المشكلات الفنّية في شعر البياتي’ تحت إشراف المستشرق الاسكتلندي جاك سمارت، ويعود إلى بغداد ليعمل محاضراً في جامعتي بغداد والمستنصرية بين أعوام 1985- 1990م، ويترأس تحرير مجلة ‘ الأقلام’ الأدبية المؤثّرة وذائعة الصيت من 1984 وحتّى 1990م، ثمّ يجد نفسه في معترك الطوفان السياسي والثقافي الذي كان يجتازه العراق. وبعد الحرب على بلده في عام 1991م، وعدوى الديكتاتورية التي أصابت الجميع بالتلف والعماء، يغادر العلاق إلى اليمن للتدريس في جامعة صنعاء حتى عام 1997م، ثمّ في جامعة الإمارات أستاذاً محاضراً للأدب الحديث والنقد منذ ذلك الوقت إلى الآن.
في خضمٍّ متلاطم كهذا، كان العلاق يحرص على تجنب الطرق العامة والابتعاد عن أصوات الآخرين أو تقليد تجاربهم، مسكوناً بهاجس كتابة قصيدته الخاصّة التي لا يشاركه فيها أحد، واستثمارها لغة وبنية وإيقاعاً، في مشهدٍ بدا كاسحاً يموج بالأصوات المتشابهة، والنصوص التي لا تصدر عن حيرة الروح وتصدّعاتها أوتشهيّاتها.
قبيلـة من الأنهـار هو، إذن، كتابٌ بوليفونيٌّ، متعدّد الأصوات والأهواء والأمزجة والأساليب: أوتوبيوغرافي، شعري، نقدي وإنساني. تتداخل فيه ضروب الشجن، والسحر، والتأمل، والمعرفة، والاعترافات الحميمة التي لا تخلو من صدق ومزاج بالغي التأثير. ينقل أجواء الطوفان السياسي والثقافي الهائج، ويفسح لمختلف أشكال الشعر العمودي والتفعيلي والنثري، الفصيح والشعبي، أن تعبّر عن نفسها وعصرها بدرجات متفاوتة القيمة. وهو، أيضاً، كتابٌ توثيقيٌّ مثقل بجمله الشعرية والإيحائيّة المثقّفة التي تتفتّق في كلِّ زاويـةٍ عِلْمـاً وحِلْمـاً، وتفجؤنا ببالغ إنسانيّتها الحييّة ، فيما هي تتحـدّث بأمانـة عن عصر غشته سحب الحزن والعماء والادّعاء ورائحـة الموت..
عـلي جعـفـر العــلاق
وقبـيلـة أنهـاره
ياسين طـه حافـظ
مشكلة الشاعر حينما يضيف الى امتيازه الشعريّ امتياز الناقد، ويضيف للشاعر الناقد أستاذية الأدب. إنه يجد لزاما ً عليه أن يقول رأياً في ما يقرأ من إبداع وبحث، وأن يكشف ما في طيات المنجز من مضمَرٍ يستحق الكشف، أو أن يشير الى ما يخشى على جمال الأدب من تهافت أو عيوب. هذا الانشغال الدائم بالأدب وقضاياه صار لصديقنا علي جعفر العلاق حياة أخرى داخل الحياة.
هنيئا ً لشاعرنا الناقد بامتلاكه حياتين: إحداهما غاية في الثراء، ولكن ما يشعِر ״ شغيل ״ الأدب هذا بالحزن قليلا ً، أنه يهتم ّبكتابات الآخرين وإنجازاتهم، بل وحتى ببعض ٍ من حياتهم مما له صلة بالكتابة من دون أن يجد من يهبه نصف ما يهب. لذلك فإن ما حظيت به مجموعاته الشعرية المرهفة المتميزة، روحاً ولغة ً وأجواءً، من اهتمام نقديّ لا يوازي ما يستحقه أبدا، ولا يوازي ما كتب هذا الرجل عن الآخرين. فما من شاعر مهمّ إلا وأخذ من العلاق حصة من اهتمامه ومحبته..
واقع قد لا يكون مقبولاً، الناقد يعلن اهتمامه بشعر الشاعر، والشاعر يحتفظ برأيه عما يقرأ من نقد. معادلة لا تبدو عادلة ولكن هكذا هو الأدب…
مرة واحدة تسلمت من أبي وصال ثلاثة أعمال: منجزين شعريين وكتاباً نقدياً يجمع بين نقد الشعر والنظرات النافذة للناس والحياة.
قراء الشعر، العارفون، يعرفون شعر عليّ جعفر العلاق، ويعرفون أجواءه، حيث خفقات الحياة المظللة بالغيم، وحيث الغزلان ليست بعيدة عن الظمأ أو الخناجر. نعرف أكثر تلك اللغة البلورية الصافية التي لا أدري كيف صانها من التلوّث وهو في معمعان اليوميّ، والطاريء، وهجوم النشازات التي تصمّ، وتخرق الآذان، وكما يقول القرآن: تعمي القلوب.
أما الكتاب الثالث فهو ذو غلاف أسود مع استطالات ٍ بيض، وحروف ٍ من شذر، وبقاع ِ وهج ٍ صغيرات تصر على الحضور في ذلك المهاد الأسود.
الحقيقة أنني وجدت في تصميم الغلاف كشفاً لما سأقرأ من وجع وفقد وإيذاء وأخطاء. وهي بقع، لولا براعة الكاتب الشاعر لألغت رقة الحرير ونعومته.
لقد تحدث عن جملة شعراء التقاهم أو تذكرهم، فرأى من التماسّ مع صغائر حياتهم: من الصبوات، ومن النزق، ومن الحكمة واللاحكمة، ومن الشعر واللاشعر ما يجب أن يتحدث بأمانة عنه. وهذا يعني أن يذكر كل ذلك ما دام قد أوكل لنفسه التصدّي والكشف.
لكن كيف يذكر كل ذلك ناقد شاعر قاريء مثل علي جعفر العلاق، الودود ّ والعاطفيّ، وأيضاً الطامع بالرضا والمحبة.
لقد أنقذتني كلمة قبيلة في عنوان الكتاب؛ إذ رأيت العلاق يقدم حكمة ً، ويوصي بالمحبة، ويشير بأدب وحنوّ الى الخطأ، يسبغ على كل ذلك اهتماماً حميماً، ورضا ناعماً..
حكمة ״ الشيخ ״ هنا أن خيط الرضا والمحبة، هذا هو الذي يبقي حياة ً نستطيع استساغتها. لذلك نتلمس واضحاً وراء نظر الدارس المتخصص، ووراء المراس النقديّ احتفاء بالصبوة، أو اللقطة، أو النادرة التي تبعث بهجة ً وتلطف يباس مزاج.
 هو في أكثر فصول هذا الكتاب النبيل، المفرط بالشجى والمحبة، بين إدراك الناقد لا يفوته الخلل والرصف الذي لا جدوى منه وبين محبته التي تأبى إلاّ أن تكون رحيبة.. وأنا أقرؤه، تتضح أمامي لحظات الحرج، تتضح أمامي حالة: ترتعش شفتاه أكثر من مرّة قبل أن يشير الى هِنة ٍ، وقبل أن يشير، كان قد هيّأ عذراً لصاحبها يعفيه من أن يدافع عن نفسه، فقد قام هو بالمهمة بدلا ً منه.
هكذا هو في العديد من صفحات الكتاب: يمسح الأذى عن صاحبه، إذ لم يستطع تجاوز ما رأى فيه؛ فهو يوجعه ويقبّله، (قد يكون هذا سلوك أب، ولكنه قد يكون تعلمه من تعامله مع الجنس الآخر، أقول ربما..)
 على أية حال، أسأل:
كم عانى إذن هذا الذي ” رأى كل شيء ” فتكتم على ما أدرك من عيوب في الناس وفي الأشعار، أو أشار بحذر، وراح يغطي تلك المعايب ما يستطيع بمحبته. شيخ القبلة ظل حكيماً طيلة الكتاب، ظل محبّاً وهو يدين، ويشير بإصبع العارف المجرب الى ما لا يرضي.
ما كان عليّ يصطنع ذلك، ولكنه السخاء الروحيّ، ذلك الذي يفتقده الكثيرون، فيسهل عليهم الكلام الضدّ وتصعب، بل تستحيل عليهم المحبة، أحياناً..