في حداثة النص الشعري 2013 – 1990 

العـــلاق ناقــــداً

في حداثة النص الشعـري

د. بشـرى البستاني

-1-

ظهرت أمثلة باهرة من الشعراء- النقاد في التاريخ.. دانتي وجوته وكوليردج، لكن رينيه ويلك لا يثق بصحة اتخاذهم مثالا على نجاح الاتحاد بين الشاعر والناقد فيهن، ويرى الصحيح هو قدرتهم على التقلب بين الشعر والنقد. وتتنوع أسئلة ويلك حول مدى قدرة أن يكون الشاعر ناقدا، وهل سيكون ناقدا جيدا أولا، وهل وجد في التاريخ مثل هذا الناقد، وإلى أي حد أغنى وجوده قضية النقد الأدبي..؟( )

وهكذا يظل السؤال حاضرا في هذا المجال: من هو الشاعر الناقد؟ أهو الشاعر الذي أتقن أدواته النقدية من أجل أن يخلق الشعر، أم أنه الذي توجه إلى النص الأدبي من أجل أن يكون ناقدا حقيقيا.. أي محترفا.. وما هي صفة الشاعر الناقد: الموضوعية، وأية موضوعية؟ أهو ذلك الناقد الشاعر الذي يحاول الدفاع عن نوعه الشعري الذي يكتبه هو(2) لأنه يكتب ما يؤمن به حول الشعر ونظريات الشعر.. (3) وهل يندرج هذا النقد الذي سماه أوسكار وايلد: النقد الخلاق في إطار الفن، أو أنه ضرب من المعرفة الفكرية؟ هذا ما ستحاول محاور هذه الدراسة أن تكشف عنه بإيجاز من خلال قراءة كتاب: (في حداثة النص الشعري) للشاعر العراقي الناقد الدكتور علي جعفر العلاق.

-2-

يوحي العنوان بأن العلاق سينطلق من رؤية داخلية للنص الأدبي، غير أنه في المباحث الأولى من الفصل الأول يحوم حول قضية سياقية، حينما يبدأ بما هو خارج النص وأعني المؤلف، ولاسيما فيما يتعلق برؤيته الشعرية؛ لأن حداثة النص الشعري لدى العلاق لا تبدأ بالنص بل بالمبدع أولا.. بتحديد ذائقته وثقافته وخبرته ورؤيته للحياة ومواقفه من الإنسان والأشياء. فالتحديث النصي تال للتحديث الرؤيوي ونتيجة طبيعية له في فكر المبدع.

في كتاب « في حداثة النص الشعري » يدور القارئ مع النص دورة جديدة متأنية حول جزيرة الشعر محاورا إياها في أهم تشكلاتها الحديثة، ومتأملا انبثاقاتها الرائدة برصد رصين، ولغة جمالية عالية، في خمسة فصول.

تصدر الفصل الأول.. (حداثة النص.. حداثة الرؤيا) محور مهم تناول الرؤيا شرطا للحداثة. مؤكدا أن أهم ما أنجز على مستوى حداثة القصيدة لا يكمن في الخروج على الأوزان والقوافي وإنما يكمن في أمر آخر يعد الجوهر ف

ي قضية التحديث في الشعر العربي والعالمي عموما، ذلك الجوهر هو الرؤيا الحديثة التي تجسد فعل التجديد حقا، وذلك ما يستدعي تجديد فكر الشاعر ورؤياه فمن دون ذلك لا يمكن تجديد القصيدة لأنها في النهاية « ليست إلا محصلة لجهد الشاعر وتجسيدا جماليا حسيا لمسلكه الثقافي والذوقي والنفسي في لحظة حياتية ما.. »(4) وهذا عكس ما طرحته المناهج البنيوية وما بعدها التي أعلنت موت المؤلف وقطع صلته بالنص وإبعاد كل المؤثرات الخارجية عن دائرته، لكن المواقف النقدية الحديثة، أعادت له هذا الاعتبار مؤكدة أن مثل هذا الادعاء يدخل في عداد الوهم، ذلك أن في النص وعيا هو وعي المؤلف، وفي النص حيوية روحية ونبضا إبداعيا وحركية متوهجة هي شيء من روح المؤلف ونبضه وتوهجه، فهل من حق النقد أن يقوم بعملية قمعية تستهدف كل ذلك..؟

إن الشاعر العربي، وهو يهتم بتجديد القصيدة، كان يصطدم بتخلف عام هو جزء منه، وعليه فإن التجديد حين يبدأ بالنص وحده فإنه لا يتجاوز السطح كثيرا، ولا يجعل من القصيدة كونا شعريا عامرا بالتوتر والرهافة، فالتجديد الحقيقي هو الذي يصنعه الشاعر الذي يمتلك رؤيا خاصة، إذ كيف يبدأ التجديد بالنص وحده إلا إذا كان تجديدا مفتعلا يفتقد الأصالة والصدق والإرادة الحقة، فتأخر حداثة الرؤيا عند الشعراء عن تحديد النموذج الشعري كان له أثره الواضح على حيوية الحركة الشعرية في بداياتها مما أدى إلى تشابه الكثير من نماذجها الشعرية(5) وهذا التشابه واحد من معضلات الشعر الحديث؛ حيث يغيب التميز والتفرد وتنكفئ البراعة الشخصية التي تعمل على تشكيل الأسلوب.

والعلاق لا يطرح للرؤية تعريفا واضحا ومركزا في البداية، لكنه يبذل جهدا واضحا من أجل تغريب دلالات هذه المفردة، معترفا في المبحث الثاني من الفصل أن هذه الكلمة شديدة الروغان، عصية على التحديد وواسعة سعة عجيبة.

وتتحلى براعة العلاق ونظرته النقدية الثاقبة في تشخيصه لمخاطر غياب الرؤية المتفردة لدى بعض الشعراء المحدثين؛ إذ نجم عن ذلك ضياع الحدود بين شاعر وآخر وفقدان النبرة الخاصة؛ لأن « تميز شاعر عن آخر في الرؤيا يقود بالضرورة إلى تميز كل منهما عن الآخر أسلوبا وطريقة بناء.. »(6).

وفي محور اللغة الشعرية يتبنى العلاق موقفا نظريا متقدما من لغة القصيدة إذ يقول.. «ففي الطريق إلى القصيدة لا نواجه في البداية إلا اللغة، إن معظم ما في القصيدة من مجد وجمال ومعنى وفاعلية لا يقيم إلا في لغتها الشعرية، ففي هذه اللغة وعبر بنائها الجليل الآسر يمكن العثور على جمر الروح وأحجار الدلالة الساطعة، والرؤيا(7).

وإذ يصر العلاق على تفرد لغة الشعر وإدهاشها فإنه يسير إلى حقيقة مهمة هي أن هذه اللغة لا يمكن أن تبتكر من فراغ فانتفاء المرجعية الخارجية تماما أو بشكل مطلق من لغة النص يكاد يكون وهما، فالشاعر يتمثل مرجعيته، لكنه يخفيها عبر مجريات الإبداع حتى ليبدو كلامه كأن لا مرجعية له، وقد سمى (أدورنو) هذه الفعالية بظاهرة الشعر المبهم أو الشعر المنغلق، وعدها نوعا من الخروج على الأيديولوجية السائدة وإضرابا عن التواصل الجماعي؛ إذ تتخذ القصيدة طابع التعددية في المعنى والتوليدية في التعبير واللامرجعية في الإحالة كي تنفصل عن لغة التواصل العادية، ومع ذلك لا يمكن الإفلات من التاريخية ولا من الاجتماعية كليا.. (8)

إن الشاعر الجاد، على الرغم من كونه يتقدم لخدمة المزيج الاجتماعي، وعلى الرغم من مشاركته عصره في اعتقاداته – أو مخالفته له – فإنه يبقى متفردا بفعل قدره، يقول الشيء الآخر حتى عندما يتحدث عن نفس الأشياء التي يتفوه بها الآخرون. لأن المفردة الشعرية له ولن تكون تاريخية بشكل كامل.. (9) فاللغة الشعرية تنمو في رأي العلاق لتشكل نفسها بالغة الكثافة، حارة ومتحركة ومتفردة كونها لغة شاعر بعينه، مبلورة لسمات خاصة به(10).

إن المقصود بالسمات الخاصة هو ما تشكله القيم الأسلوبية من تضافرات أو تناقضات ناتجة عن انبثاق نموذج لساني مقطوع بواسطة عنصر غير متوقع، والتناقض الناتج عن هذا التداخل يطلق عليه ريفاتير مصطلح (المنبه الأسلوبي) الذي يقوم بمهمة التغذية الأسلوبية نتيجة إدماج ذلك العنصر غير المتوقع ضمن نموذج سياقي ما(11) والعمل على تلمس هذه السمات والبحث عنها في الميدان التطبيقي هو بحث عن السمات التي بإمكانها العمل على تحويل المادة اللغوية للنص إلى واقعة أسلوبية، إذ يكون التحليل آخذا بأطراف البنى المكونة للسياق الإبداعي في مستوياته الصوتية والمقطعية والتركيبية والدلالية من أجل إحلال التعليل والاستدلال محل الانطباع والارتسام، بحثا عن المتقاربات في ائتلافها وجمعا للمتباعدات في اختلافها وتنافرها حتى يخلص من القرائن والمفارقات ما يحدد به الخصائص الفنية التي حولت المادة اللغوية من أداة إبلاغ وتواصل إلى وسيلة إبداع وتأثير وهذه هي أسلوبية الأثر(12).

ولا يقدم الفصل شيئا جديدا في قضية الشكل والمضمون لأنه يؤكد أن وحدة الشكل والمضمون مظهر حاسم من مظاهر الحداثة الشعرية، وكان ضعف الرؤيا أو تفككها قد انعكس عليها انعكاسا مؤذيا.. (13).

وفي محور حداثة الإحساس بالماضي يؤكد العلاق أن الماضي بالنسبة للشاعر الحديث ليس زمنا منقضيا أو ذكرى ميتة لا يمكن استعادتها، بل هو على العكس من ذلك حيوات متفردة وطاقة روحية جياشة، وهو زمن يكتظ بالدلالة والغنى والتوتر..(14). لكنه وهو يستشهد بأليوت وأدونيس في الحديث عن تراث الأمم لا يهتم بكيفية تشكل الماضي شعرا، فالماضي موضوع يقع خارج الشعر، إنه سلسلة الحوادث التي تقع على الأرض في أزمنة معينة، بينما الشعر فعل يتشكل في الذهن عبر عمليات غامضة، وإذ ينتقل التاريخ الماضي (التراث) من الواقع إلى الشعر فإنه ينتقل أو الأصح يتحول عبر فعالية لغوية لها قوانينها الخاصة.

-3-

لا يفصح الفصل الثاني (الشاعر الحديث ورموزه الشخصية) عن تعريف مفصل لمصطلح (الرمز) على الرغم من أهمية ذلك، بل يرد التعريف أقرب إلى الأسلوب الإنشائي منه إلى الخطاب النقدي، فالرمز الأدبي عنده ما هو إلا عبارة أو كلمة تعبر عن شيء أو حدث يعبر بدوره عن شيء ما أو يشتمل على مدى من الدلالات تتجاوز حدوده ذاتها، أو هو بكلمات أكثر بساطة، شيء محسوس يرتبط به عادة مغزى تجريدي وانفعالي.. (15).

ويشخص العلاق الرمز الشخصي بأنه ذلك الرمز الذي يبتكره الشاعر ابتكارا محضا ويقتلعه من حائطه الأول أو منبته الأساس، ليفرغه جزئيا أو كليا من شحنته الأولى أو ميراثه الأصلي من الدلالة، ثم يشحنه بشخصية أو مدلول ذاتي مستمد من تجربته الخاصة، وفي كلتا الحالتين يصبح الرمز ذا نكهة شخصية حميمة(16).

وقد أفاد الشاعر الحديث من توظيف الشخصيات التاريخية والمدن رموزا كما فعل البياتي مع عائشة، لارا، الحلاج، المعري، الخيام، المتنبي. وميزة البياتي عن غيره من الشعراء الذين يحاولون جعل الأساطير والرموز مادة شائعة في أشعارهم هي أن الرموز عنده قابلة للتحول فإذا كانت عشتار بطلة أساسية للدلالات الأسطورية في الخصب والنماء فإنها تتحول إلى عائشة، في قصائد أخر وإلى لارا وخزامى(17). ويقارن العلاق بين استعمال البياتي وأدونيس لرمز عائشة من خلال تحولاتها لدى الأول وثبوتها عند الثاني. فضلا عن توظيف الشعراء للرموز التاريخية باتخاذها أقنعة معبرة عن تجاربهم الذهنية والوجدانية، مؤكدا قضية تكرار الرمز لدى الشاعر الواحد، مشيرا إلى أن التكرار يساعد على شحن فضاءاته بثراء شخصي وحرارة داخلية دون أن يشرط هذا التكرار بالقدرة على الإضافة والتنوع والتعميق والانعطاف بدلالات جديدة؛ لأن الرمز من دون هذا الشرط سيظل يكرر نفسه، وسيفضي إلى الرتابة والسكونية وتقليد الذات أو تقليد النموذج الشعري، وهذا شرك جديد يمكن للشاعر السقوط فيه.

-4-

في الفصل الثالث (حدود البيت.. فضاء التدوير..) يتناول العلاق محاولات تحديث الإيقاع في القصيدة الحديثة، ويرى أن هذه القصيدة إذ اتسعت إيقاعيا فقد ضاقت عروضيا؛ لأنها اقتصرت على البحور الثمانية الصافية في حين خسرت البحور المركبة الأخرى أما محاولة بعض الشعراء توظيف البحور المركبة وفي مقدمتهم السياب في قصيدته (ها.. ها هو) فقد كانت المحاولة محدودة جدا لم تستطع أن تبدد الركود الذي ساد إيقاع القصيدة بسبب طبيعة البحور المركبة التي لا تتيح للشاعر مرونة كافية يستخدم فيها الوحدة الموسيقية بطلاقة ووفق ما تمليه عليه أجواء التعبير والكتابة؛ لأن هذه الوحدة لا تتشكل من تفعيلة واحدة كما هو الحال في البحور الصافية وإنما تتشكل من تفعيلتين اثنتين وذلك يتطلب تكرار التفعيلتين معا(18) وهذا ما يؤدي إلى عرقلة الإيقاع وصعوبة الانثيال الموسيقي. ويحاول أدونيس استخدام بحر البسيط في قصيدته (الصقر) التي يقر العلاق بأنها لا تنجو تماما مما تفرضه البحور المركبة من عنت وضيق إلا أنه يعود فيصفها بالتدفق الظاهري والجمالية العالية، لكن هذه الدراسة لا ترى في القصيدة – على الرغم من براعة أدونيس – أي نوع من أنواع التدفق سواء كان ظاهريا أم غير ظاهري، بل تجد فيها الكثير من العنت والوعورة، ولم يستطع الشاعر أن ينقذ محاولته التجريبية هذه لا بالتدوير ولا بطريقة توزيع الأسطر أو الأبيات على حد تعبير الباحث ونحن معه تماما إذ يصف هذه المحاولة أخيرا بأنها لا تبعد كثيرا عن أن تكون أبياتا عمودية مرسلة(19).

ويحاول العلاق أن يفرق بين التدوير والقصيدة المدورة مؤكدا على أهمية التدوير في إثراء إيقاع القصيدة، ويقرر أن قصيدة (هذا هو اسمي..) لأدونيس هي نقلة واضحة في البناء الإيقاعي للقصيدة العربية الحديثة دون استعراض لتجارب الشعراء الآخرين ومحاولتهم في هذا الميدان. وقصيدة أدونيس هذه تنتمي إلى التدوير دون أن تكون قصيدة مدورة تماما(20) وإذا علمنا أن التدوير نوعان: جزئي وكلي، وأن التدوير الجزئي قد لجأت إليه قصائد كثيرة لشعراء مختلفين منذ الرواد فإن العلاق يؤكد أن هذه القصيدة قد تركت آثارا تقنية على الكثير من تجارب التدوير عموما لكنه لا يذكر أمثلة لتلك التجارب مما يغيب علينا فرص المقارنة والتمثل.

ويسجل العلاق في محاور (التدوير المضلل والتدوير مأزقا) ومضات نقدية شعرية غاية في الرهافة، والحس الشعري والجمالي، بحيث يصبح للحركة دور في إثراء الإيقاع وتلوينه، وفي مثل هذه الإشارات الجمالية تتجلى قدرة الشاعر – ناقدا.

-5-

وفي الفصل الرابع (الشعر خارج النظم الشعر داخل اللغة) يبدأ العلاق وعلى عادته بمقدمة شعرية تبين ماضي النثر الخشن والمجرح الشفتين والعاري إلا من وضوحه، بينما كان الشعر يبتل بأنين الروح ويتماهى مع تشوفاتها الغامضة الحارة وقد ظل الوزن والقافية عاملين حاسمين في تحديد انتماء الشعر لوقت طويل.

يستعرض العلاق بإيجاز مفيد جهود نقادنا القدامى الذين لم يروا من الشعر غير دخانه العالي.

وفي محور شعرية الحلم والوجد والرؤيا يتحدث العلاق عن لغة النص الصوفي والسريالي لكنه لا يدخل إلى أعماق ذلك النص، بل يكتفي بالطواف حول توهجه وصفائه وغموضه دون الولوج إلى أسرار ذلك التوهج ولغته الإشراقية، كما يشير إلى تداخل الأجناس الأدبية وغياب الحدود الفاصلة بينها، ويطرح مصطلحات كثيرة: كالشعر المنثور مشيرا بإزائه إلى جرجي زيدان وجبران خليل جبران.. (21).

وفي محور قصيدة النثر والأنماط المحاورة يطرح الباحث مصطلحات لم نستطع أن نتبين حدودها الفاصلة ويعترف العلاق بذلك، إذ يقول: إن ما يواجهه من يتصدى لدراسة قصيدة النثر في العربية هو ضبابية الخطوط الفاصلة بينها وبين (الشعر المنثور) و (النثر الشعري) وبين (الشعر الحر) ويلجأ إلى رأي أدونيس للتفريق بين النثر الشعري وبين قصيدة النثر حيث يقرر أن النثر الشعري سردي وصفي، شرحي بينما قصيدة النثر إيحائية، حيث يطرح العلاق رأيه في قصيدة النثر بأنها نمط شعري « يقترض من الشعر الكثير من عناصره عدا الوزن والقافية كالتركيز والوحدة والدافع الإبداعي الحر وثراء الإيحاءات..» (22) كما يطرح التناقضات التي تتداخل في تشكيل هذا النمط: نثر – شعر، حرية – صراحة، فوضى – تنظيم، يجمع بين كل ذلك نوع من وحدة التضاد، لكن العلاق يعود، بعد حماسة واستشهاده بآراء وبراهين على فوقية عنصر الوزن، وكونه ليس الشرط الحاسم لتحديد شعرية الشعر ليعلن: أن خلو قصيدة النثر خلوا مطلقا من الوزن لم يكن في صالحها دائما، وليس من الحكمة في شيء كما يقول كمال أبو ديب بنكران هذا الارتباط بين الشعر وبين الإيقاع أو الوزن أو كليهما حتى أنه نرفض اعتبار الوزن شرطا كافيا للشعرية لأن للبنية الصوتية دورا عميقا في تجسيد التجربة والدلالة..(23) ولا يفصح العلاق إفصاحا واضحا عن المراد بهذا الرأي، وهل يدعو قصيدة النثر إلى العودة للأوزان، وكيف ستكون العودة هذه المرة والقصيدة قصيدة نثر..؟! وهل يعني التأكيد على شعرية الشعر أن يكون الوزن أحد شروطها، وليس الشرط الحاسم؟ وهل يعني ذلك أن على الموزون أن يتداخل بغير الموزون.. هل يحق لنا أن نستشرف هذا الفهم من مجمل كلام العلاق، لكننا في حال كهذه لن نكون أمام عنصر نثري، وليس ثمة من نثر أصلا حينما تتوافر عناصر الشعرية جميعا.. كثافة، وتصويرا وإيحاء وتركيزا وتداخلا بالوزن والإيقاعات، هذا ما لا يفصح عنه الباحث منهيا المبحث برأي أدونيس الذي يؤكد على توفر افتراضين لمبدع هذا الشكل الكتابي الجديد: الموهبة المقتدرة والمعرفة العالية بالموروث الشعري والثقافة الفنية(24) لكن هذه الافتراضات افتراضات عامة، وليس من شأنها أن تخصص مبدعا ما بإنتاج قصيدة من هذا النوع.

وتحت عنوان (الواقع أم الحلم) يعترف العلاق أن تجربة قصيدة النثر سرعان ما وصلت إلى طريق وعرة لم يتجاوز شعراؤها أفضل إنجازاتهم تقريبا وفي طليعة هؤلاء أدونيس ومحمد الماغوط وأنسي الحاج، وظلت آراء العلاق حول هذا النمط من الكتابة عرضة للقلق وعدم الاستقرار فمن الحديث عن المرجعية الفرنسية إلى الدعوة لمرجعية عربية (تنهل من ينابيعنا الأولى وتزدهر تحت أمطارنا كما يقول أدونيس..)وقد أدى واقع الااستقرار في هذا الميدان تنظيرا وتطبيقا إلى قلق التجربة وعدم قدرتها على التشكل ظاهرة فنية مؤثرة وفاعلة في المرحلة بل كانت كما يقول العلاق نفسه ريحا معاكسة للسياج الشعري الراسخ، كانت في أحيان كثيرة عدوانية متعالية وعابثة، وقد ساهم ذلك في إعاقة تطورها، ولم تصبح نتيجة لذلك حاجة ثقافية وجمالية للمتلقي، فضلا عن أنها لم تستطع أن تكون موضوعا للنظر النقدي الرصين، ولذلك فإن هذا النمط لم ينجح في تجاوز قصيدة التفعيلة، ولم يصبح بديلا عنها، فهو نوع شعري وليس جنسا أدبيا. نوع لا يستمد شعريته من مجرد الوزن والقافية، بل من توتر النص وعلاقاته الداخلية..

تتداخل في الفصل الخامس: (الشاعر والحلم والمدينة) الرؤيا بالتشكيل، حيث يرصد العلاق موقف شعر الحداثة من المدينة، مؤشرا موقف الشاعر الأوربي المباين منها، فمرة تكون هي التي استلبت نضارته وجرحت أحلامه فكانت في شعره تمثل الوحشية والعنف والخراب والتمزق، ومرة أخرى يأتلف معها ومع عمالها وأزقتها مانحا إياها ثقته.

والعلاق إذ يعود في هذا الفصل إلى ما بدأه في الفصل الأول من أهمية تشكل الرؤيا فإنه يعد التفات الشاعر العربي الحديث إلى المجتمع عموما وإلى مجتمع المدينة بشكل خاص هو من أبرز ظواهر رؤيته الحديثة.

إن التذمر من المدينة في شعرنا العربي على رأي العلاق كان يمثل إلى حد بعيد ردة فعل سياسة واجتماعية ضد ما ترمز إليه المدينة على هذه المستويات، لكن يظل من الصحيح القول إن بعض ما نراه من يأس أو نقمة على المدينة العربية يبدو وكأنه يأس جاهز يفتقد الأصالة والحرارة، ذلك أن المدينة العربية لم تصبح بعد كتلك المدينة الأوربية جهة غير إنسانية، وهي لم تصبح بعد قوة ضاغطة، أو كيانا ماديا يجثم على ضمير الشاعر العربي ووجدانه.

في كتاب العلاق سمة أسلوبية عامة هي سيادة اللغة الشعرية بجماليتها العالية على اللغة النقدية، وإذا كانت هذه السمة سلاحا ذا حدين في طرح أية قضية موضوعية، فإن شاعرية العلاق ولغته المتوهجة التي استطاعت أن تجمع إلى جمالها وظيفة الإفهام المطلوبة شفعت له بذلك.

إن سطوة الهاجس الذاتي هو واحد من المنزلقات التي تتربص بالشاعر – ناقدا، لكن هذا الهاجس لدى الدكتور العلاق استطاع أن يتجاوز أية شخصانية ليتحول إلى طموح عارم عام يتسم بالصدق والإخلاص والانحياز لقضية أكبر، هي قضية الحداثة والحضارة والثقافة الحقة، وهذا ما أكسب نصه ميزة تضاف إلى إيجابية طروحاته الأخرى، والذي يؤكد حكمنا في هذا المجال اندراج هذا الكتاب القيم ضمن طليعة كتب الحداثة، وإفادة الباحثين من المحاور المهمة التي طرحها في ميداني النقد الأكاديمي والإبداعي على السواء.

هـوامش

(*) هذه الدراسة جزء من بحث مطول.

(1) مفاهيم نقدية. رينيه ويلك، ت: د. محمد عصفور: 408، 409

(2) ينابع الرؤيا – جبرا إبراهيم جبرا: 127 – 131

(3) في حداثة النص الشعري – علي جعفر العلاق: 11

(4) المصدر نفسه: 11، 13

(5) المصدر نفسه: 23

(6) المصدر نفسه: 27

(7) مفهوم المرجعية وإشكالية التأويل في تحليل الخطاب الأدبي، د. محمد خرماش، مجلة الموقف الثقافي، 9/ 97، 42

(8) تأملات في القصيدة – اوكتافيو باث، ت: محمد الظاهر، مجلة آفاق عربية،

(9)1/ 91، 116

(10) في حداثة النص الشعري: 28 – 29

(11)معايير تحليل الأسلوب – ميكائيل ريفانير، ت: د. حميد الحمداني: 56

(12)النقد والحداثة، د. عبد السلام المسدي، 67 – 68

(13)في حداثة النص الشعري: 36

(14)المصدر نفسه: 41

(15)المصدر نفسه: 55

(16)المصدر نفسه: 57

(17)دير الملاك – د. محسن اطيمش: 145

(18) المصدر نفسه، 94، 96 – 97

(19)في حداثة النص الشعري: 101

(20) المصدر نفسه: 136 – 137

(21)المصدر نفسه: 140

(22)المصدر نفسه: 143

(23) المصدر نفسه: 151

(24) المصدر نفسه: 152 – 154