الدلالة المرئية 2002 – 2013 

قراءة في قصيدة “طردية” لحجازي
ما عاد الشاعر كائناَ يتفصّد بغناء الذات واستغاثاتها، بل أخذ يعرض و يقص ويروي(6). وهكذا، قد تتدخل في النص الشعريّ عناصر ليست شعرية تماماً، شريطة أن تتسامى لغاية شعرية خالصة(7). لقد صار في مقدور القصيدة، كما تقول سوزان برنار أن تستخدم العناصر السردية على أن يتم تشغيل هذه العناصر في مجموع و الأغراضٍ شعرية محضة(8). وهذا ما تم تحقيقه ببراعة شعرية مدهشة، في قصيدة “طردية”(9) للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي. وأنا، هنا، أحاول الاقتراب من خيوط لعبته الشعرية والكشف عن عناصرها التي تضافرت جميعاً في كل شعري متماسك.
ولابد من الإشارة، كما يبدو، إلى أن هذه القصيدة المحكمة لا تستمدّ ثراءها الدلاليّ أو الفنيّ من لغتها فقط؛ فاللغة، هنا، لا تطفح بالكثير من الانزياحات، ولا تتأجج بالمفاجآت والانعطافات بطريقة استثنائية. إن براعة هذه القصيدة وتأثرها يكمنان، وبشكل مدهش، في تضامن النص بمجمله للإفصاح عن دلالته، إفصاحاً حسياً، يقوم السرد، في الغالب، بالعبء الأكبر منه. وشرارة الشعر، في هذه القصيدة، لا تندلع من لغتها وحدها، بل من بنيتها السردية أيضاً. إن الشعر كلما تحرك صوب السرد قلَّت أهمية لغته الخاصة، كما يقول شولز(10)، وعلى العكس من ذلك، فإن لغة القصة تزداد دقة وأهمية بقدر اقترابها من شرط الشعر.
لا شك أن النص الشعري المحكم لا يبوح بدلالته بيسر دائماً؛ فلابد إذن من ملامسة تفاصيله واكتشاف ما يشد عناصره من علاقات ووشائج تساعد، مجتمعه، على الكشف تركيبياً وإيقاعياً وأسلوبياً عن دلالته. أعني أن دلالة القصيدة، هنا، لا تنفصل عن جسد النص ولا تقع خارجه ، أو بعيدة عنه، بل هي دلالة مرئية أحياناً، تتجسد من خلال الشكل الفيزيائيّ للنص: ترشح من مائه، وتفوح من التحام مكوناته وتشابكها. أي أن هذه الدلاله لاتنبثق إلاّ من خلال “علاقة التجسيد المتبادلة بين رؤيا النص وبين بنيته اللغوية”(11). وهذه العلاقة قد تمضي إلى نهايتها القصوى حين تتبادل الكلمة والدلالة ما بينهما من تأثر تضيفه كل منها إلى الأخرى. وهكذا تصبح الصورة الحسية للكلمة أو وجودها الفيزيائي، بما فيه من بعثرة أو اكتظاظ، أو استطالة صورة مرئية لما نريد التعبير عنه(12).
إن قصيدة “طـرديـة” ترينـا، مـن خلال حركتها وشكلها الحسِّي، بنية دلاليـة تتضافـر عناصر النص وتكوينـاته السـردية والتركيبيـة جميعـاً للإفصاح عنها على شكل مظاهر حسية تندفع من نسيج القصيدة، صورا وأبنية وإيقاعاً.
تحكم حركة القصيدة، وتتخفى في تفاصيلها، بنية دلالية مهيمنة هي بنية النفي، أو الإبعاد، أو الإنفصال، التي تتحرك تحت سطح النص، بعمق وتوتر شديدين، وتنتشر في أعماقه المائية المضببة، تاركة آثارها طافية على تموجات هذا النص ووجوده المادي.
شحنـة العـنـوان
أول ما يلفت النظر، في هذه القصيدة، أنها تعلن منذ عنوانها عن قرابتها التجنيسية. أي أن شكلها السردي يفصح عن طبيعته عبر شحنة العنوان وما يشتمل عليه من تداعيات دلالية صارت، بحكم الزمن وتراكم الموروث، متجذرة في الذاكرة الشعرية.
إن قصيدة “طردية ” تطلق خيطاً نحيلاً من الضوء يقودنا عكس نهر الزمن، إلى سالفات هذه القصيدة من الطرديات، أي ذلك النوع الشعري الذي يصف الولع بالصيد، والخروج إليه في مواكب حافلة(13). إنها، كما توحي التسمية للوهلة الأولى، سليلة نسب شعري ما عاد يشكل، ضمن الفاعلية الشعرية الحديثة، نمطاً شائعاً. وواضح أن تجربة الصيد، سواء في الطرديات أو في شعرنا القديم عموما(14)، تحفل بالترقّب والحركة. إنها الطراد ولذة الفوز، أو العودة المخفقة. وهي الطبيعة المبتلة بالخضرة، والدم، وعويل الطرائد. أي أن القصيدة التي تنهمك في تجربة الصيد لابدَّ لها من أن تستند إلى السرد، أن تروي قصة، وأن تقدم موضوعها متحركاً نامياً، بعيداً، إلى حد ما، عن الانشغال باللغة أو الافتتان بهياجها المجازي.
وليس العنوان وحده هو ما يكشف عن طبيعة هذه القصيدة أو نسبها الشعريّ ؛ فالبيت الأول منها يسهم، هو الآخر، في الإعلان، تركيبياً هذه المرة، عن ذلك النسب أو تلك الطبيعة:
هوَ الربيعُ كانَ، واليومُ أحدْ
إن الابتداء بضمير الشأن “هو” ذو دلاله كبيرة هنا. وما كان في مقدور هذا البيت لو جاء في تركيبة أخرى أن يحدث الأثر ذاته. إن تركيباُ أخر للبيت السابق يمكن أن يكون، على سبيل المثال: “فصل الربيع كان، واليوم أحد”. لكنه سيخفف، إلى حد كبير، من شحنة المفتتح الشعري بتركيبته الأولى، ويسقط عنه الكثير مما يشتمل عليه من تميز في الصياغة. إن بداية القصيدة بإيجازها الجميل وإيحائها الشديد بجنس النص مفتاح فعّال للقصيدة ومنطوياتها الدلالية والتركيبية. إن الضمير “هو” في السياق البنائي للبيت الأول جاء، كما أشرنا، في موقع ضمير الشأن.
 وقد حجز النحويون القدامى لهذا الضمير تسمية أخرى: إنه ضمير القصة، أو ضمير الحكاية. وهكذا نرى أن الجملة الشعرية الأولى تختزن، ومنذ البداية، شحنة ضمنية للدلالة على طبيعة هذه القصيدة التي تستند، استناداً كبيراً، على عنصر السرد، وبنية الحكاية.
ومنذ العنوان تبدأ القصيدة في إرسال ومضاتها التي ستقودنا، بحركة استباقية، إلى ما سيكون عليه مسار النص وهو يتجه صوب بؤرة دلالية تهيمن على تشكله، وتسهم، بعمق، في توجيه حركته السردية والتركيبية والإيقاعية من جهة، والانبثاق منها من جهة أخرى. إن هذا العنوان يتكشف عن غنى إيحائي شديد؛ فكلمة “طردية” تشتمل على ذخيرة وجدانية، واشتقاقية، ودلالية، لا تتجه إلى الماضي فقط، من خلال إشارتها إلى نسب القصيدة، بل إلى الحاضر والمستقبل أيضاً. إن تفتيت كلمة “طردية” يظهر لنا ما تنطوي عليه، صرفياً، من تداعيات واشتقاقات، وبدائل تنمّي جميعها، بالاتساق أو المخالفة، دلالة النص الكبرى: النفي، أو الإقصاء أو الانفصال، وتمهد للمسار المقبل لهذه الدلالة.
إن عنوان هذه القصيدة، بنية ومفهوماً، يمكن أن يقدم لنا حزمة من الدوال التي تحوم حول حقل دلاليّ واحد ذي هيمنة واضحة على النص. إن الحروف الأساسية لهذه الكلمة، كما يشير لسان العرب(15)، تقدم مجموعة من الكلمات والأفعال التي تفجر، بتجلياتها الصرفية والنحوية المختلفة، دلالة الطرد والنفي: طرد، طريدة، طرّاد. يقال إن الليل والنهار طريدان، أي أن كل واحد منهما طريد صاحبه. ويقال أيضاً: مرَّ بنا يوم طريد أو طرّاد أي طويل، وهذه القصيدة تبدأ وتنتهي بهذا المعنى ؛ اليوم أو النهار الذي استهلكته مطارة القطا دون طائل. ويقولون كذلك: بلد طرّاد، واسع يطّرد فيه السراب، وقصيدة “طردية” تبدأ وتنتهي بالإشارة إلى البلد أيضاً، الذي ينفصل عنه الراوي ويكابد عناء النفي عنه وعناء الحنين إليه معاً. ويقال: جدول مطرد أي سريع الجيران. وفي القصيدة يرتبط القطا بمسارب المياه كالزبد، والتراث يقول: إنه أدل من قطاة(16)، ذلك لأن القطاة ترد الماء ليلاً من الفلاة البعيدة. انفصال عن الفلاة وتوق إلى الماء. والمطاردة في القتال: أن يطرد الفرسان بعضهم بعضاً، والقصيدة تجسد، بطريقة صارخة، هذا الطراد بين القطا والراوي بما فيه من توثب، ومباهاة، وانكسار وانفصال الأجساد عن الرؤوس.
إن التوسع في تفتيت عنوان القصيدة يكشف لنا عن كلمات أخرى ترتبط بوشيجة ما مع الدلالة السابقة: إن الفعل (ردّ) يتصل بدلالة الإبعاد والطرد بعلاقة هي علاقة التضاد. كما أن كلمة (ديّة) لا تبتعد كثيراً عن هذا الحقل الدلالي؛ كما هو معروف، تعني، عبر سياق حضاري معين، مايُدفع لأهل القتيل، وكأنها تُدفع لقاء حرمانه من الحياة، أو مقابل إقصائه أو نفيه عنها
ويمضي العنوان خطوة أبعد حين يقف هو، في حضوره الحسَّي المرئي، تجسيداً آخر لهذا العنقود من الدلالات؛ فكلمة “طريدة” تظهر عائمة في بياض الصفحة لتشكل دليلاً جديداً على الطرد أو الإبعاد الذي سنجد ، في مستويات القصيدة الأخرى، تعزيزاً له. كما أن هذه الكلمة تقف وحيدة عارية، لا تستند إلى سياق تعبيري يشدها إليه. أي أنها لم تدخل في نسيج لغوي ما: عبارة، أو جملة، ولم تندغم في سياق من الفاعلية، أو المفعولية أو الإضافة. لقد ظلت مطرودة خارج أي جوار لفظيّ. كما أن تنكيرها يضعها في السياق الدلالي ذاته؛ أعني خارج التعريف والعهدية منفيةً عن علاقات الانتساب، عاريةّ من التحديد والتعيين والألفة.
وهكذا ينهض عنوان القصيدة، ومنذ البداية، بوظيفة مهمة، تستبق مسار النص وتوحي بدلالته التي يتمركز حولها، ويحشد كيانه كله، صوراً وتركيباً وإيقاعاً، ليكشف عن تلك الدلالة وهي تتبرعم على جسد النصّ لا بوصفها معني أو مفاهيم منفصلة عن الملفوظ، بل باعتبارها مظهراً من مظاهر النص، وحضوره الفيزيائي على الورق .
صـور الـدلالـة
ولا يتوقف هذا الحشد من دلالات النفي أو الطرد أو الإقصاء على ما يشتمل عليه عنوان القصيدة من مخزون دلالي؛ فإنَّ النص، بمجمله، يتكشف عن هذه البنية الدلالية المهيمنة. كما أن الكثير من صيغه التعبيرية، وصوره البلاغية تتضافر لتحقيق هذا الإفصاح عن دلالة النفي.
إن القصيدة تتنامى، تنامياً أخاذاً، كاشفة بنيتها الدلالية وهي تتشكل وتنتشر في نسيج النص وتجلياته الصورية والرمزية المختلفة. الصور، في هذه القصيدة، ليست فضاءات تغذي نار الذاكرة بالتوهج، بل هي تجليات نصيِّة ترتبط بجسد القصيدة وتنبثق منه تلاحماً وانفصالا:
هو الربيعُ كان، واليومُ أحدْ
وليس في المدينةِ التي خلتْ
وفاحَ عطرها سوايَ،
 قلتُ أصطادُ القطا
كان القطا يتبعني من بلدٍ إلى بلدْ
يحطّ في حلْميْ ويشدو
فإذا قمتُ شردْ
إن صورة المدينة التي خلت تشتمل على دلالة الطرد والإبعاد، فهي ليست آهلة، بل مدينة غادرها سكانها (في هذا اليوم من أيام الربيع على الأقل). كما أن عبارة “فاح عطرها” تشي هي الأخرى بدلالة النبذ أو الدفع إلى الخارج. ولو تأملنا صورة الذات الفاعلة في القصيدة من خلاْل أداة الاستثناء ” سواي” لا كتشفنا أنها تختزن دلالة الإقصاء والعزلة أيضا.
 إن السارد يقف  وحيدا، وليس هناك من أحد سواه، مبعدا عن محيطه الإنساني الذي كان منخرطاً فيه. أما صورة القطا فتعكس، بطريقة شديدة الحيوية، دلالة الانفصال والناي والإبعاد من بلد إلى آخر. وكذلك الأمر بالنسبة إلى البيتين الأخيرين من المقطع السابق؛ فالقطا الذي كان يحطّ في حلم الراوي يمثل صورة منفصلة عن منطق الحياة وحقائقها، مثلها في ذلك مثل الحلم الذي يشتمل على دلالة الانقطاع عن الواقع والانفصال عن وهج الوعي. إنها صورة للعبور من الحسِّي إلى المجرد، وبذلك ترتبط بدلالة الانفصال بواقع التناقض؛ فالعبور صلة بين منفصلين أو أكثر، لكنه يظل ضمن الحقل الدلالي للقطيعة.
وتمضي صور القصيدة في تناميها لتؤكد تلك الدلالة المهيمنة على نسيج الصور وفضاءاتها. إن صورة الراوي وهو يحمل قوسه متوغلاً “بعيداً في النهار المبتعد” صورة شديدة التأثير في تعميق البؤرة الدلالية للقصيدة: الراوي يتوغل بعيداً في بحثه عن القطا، في نهار مبتعد هو الآخر، انفصال عن الزمان والمكان معاً: الراوي ينفصل عن المكان في اندفاعه صوب المجهول، كما أن النهار يقطع صلته بذاته متجهاً إلى القصّي البعيد، وحين نتأمل المقطع التالي :
حتى تشمّمتُ احتراقَ الوقتِ في العشبِ،
ولاحَ لي بريقٌ يرتعدْ.
نلمح، مرة أخرى، صورة التفتّت والانفصال والتنافر، لا على مستوى الخارج المحيط بالراوي فقط، بل في كيان الراوي نفسه. إنه يتمزق بين قطبين: أرضيّ وسماويّ. بين وقت يحترق في العشب وبرق يرتعد. إنه مخترق حتى على مستوى الوعي بما يحيطه، فهو يتشمم (بأنفه) رائحة الوقت المحترق، بينما يلوح (لعينيه) برق مقبلاً كالرعد: حاسة على الأرض وحاسة على السماء
والقصيدة لا تكتفي، في تأكيد بنيتها الدلالية، بصورة النفي والنبذ والإزاحة فقط، بل تزيدها توتراً ونضارة بالصور المضادة. الدلالة لا تنبثق، إذن، من صور تزيينية بيانية تتجه اتجاهاً خطياً صوب معنى ما. بل تتشكل من ضفيرة من التضادات في نسيج الحركة الواحدة صعوداً وهبوطاً، جيئة وذهاباً، دون أن تطمئن إلى وجهة بذاتها
وربما كانت حزمة الصور الخاصة بالمواجهة بين الراوي والقطا دليلاً شديد البروز للبرهنة على عنصر التضاد والتنافر في حركة الانفصال أو التباعد ذاتها؛ فالقطا لا يستسلم إلى الانحلال كما ينحل اللؤلؤ، بل ينحل ثم ينعقد. وهو حين يقترب لا يكون اقترابه اتجاهاً إلى ملاذ نهائي بل ليسترجع “صورته من البدد”. أي أن حركة الاقتراب تضمر، في ثناياها، حركة نقيضة هي حركة العودة، والالتئام بعد التشتت. كما أن حركة السقوط “مسّاقطاً كأنما على يدي” ليست سقوطاً محضاً. إنها تتجه من الأعلى إلى الأدنى، لكنها لا تكتمل أو تتوازن إلاّ بالحركة النقيضة “وصاعداً بلا جسد”، بالانفصال المتجه اتجاهاً معاكساً: من الأدنى إلى الأعلى هذه المرّة. وهكذا تكون حركة القطا ذبذبة معذبة بين “الهنُا” الأرضي، و “الهنُاك” السماوي .
واللافت للنظر أن أسم الفاعل جاء على شكل يخالف الصياغة الشائعة: “مسّاقطاً” لا “متساقطاً”، بإسقاط حرف التاء ونفيه عن بنية الكلمة لتكون معادلاً مرئياً للدلالة المبتغاة: النبذ والقطيعة. من ناحية أخرى، فإن حركة السقوط لا تصل إلى نهايتها تماماً؛ فهي ليست اتجاهاً صارخاً بين علوّ محض وهاوية تامة، بل سقوط ينثلم قبل الوصول إلى نهايته “كأنما على يدي”، كذلك الأمر بالنسبة إلى الصعود، فهو غير مكتمل أيضاً. إنه صعود مبتور؛ فالقطا صاعد “بلا جسد .”
وتصل صورة هذه الحركة المتنافرة أقصى مداها في المقطع الأخير؛ فالتصويب الذي استغرق النهار كله لم يسفر عن شئ. كما أن عدْو الراوي يتم في حيز لا يمكن إنجاز هذا الفعل خلاله :
عدوتُ بين الماءِ والغيمةِ،
بين الحلمِ واليقظةِ
إن الذات الفاعلة هنا هي ذات مسلوبة “الرشد”. والشيء الذي تجدر ملاحظته أن صورة الراوي الذي كان عرضة للإنشطار والتفتت صارت هنا قادرة على فعل ما لا يمكن فعله، والدخول في ما لا يمكن الدخول في ثناياه. إنها الآن مصدر للخارق من الأفعال والأنشطة، لكن هذه الأفعال، وانسجاماً مع جوهر التضاد، تظل مقموعة بقوة ما، ونتيجة لذلك لا تصل إلاّ إلى خاتمة محبطة:
ومُذ خرجتُ من بلاديْ
لم أعـدْ
مثيرة أفقاً من الالتباس اللذين بين الحلم والواقع، بين صلادة المرجع وخفة المجاز.
حـركـة النـص
تتوزع قصيدة “طردية” على سبع حركات تتضافر، جميعاً، لتصل، في النهاية، إلى تجسيد دلالة النص، على مستوى أخر هو المستوى التركيبيّ : ترتيب الوحدات أو الجمل ابتداء من حدها الأدبي وصولاً إلى مستواها المركب.
وأنا هنا لا اقسم هذا النص إلى حركات محتكماً إلى المفهوم النحويّ للجملة؛ أي اشتمالها على كلمتين أو أكثر ودلالتها على معنى مفيد. أن التقسيم يستند، عوضاً عن ذلك، إلى ما تسعى الجملة الواحدة، أو الجمل متعاضدة، إلى تجسيده في وحدة دلالية أو نفسية أو بيانية، فالحركة قد تكون جملة بسيطة أو مركبة، وقد تكون مجموعة من الجمل، شريطة أن تفلح هذه الجمل في رسم مفصل من مفاصل النص، يشكل في حركته أو بنائه، موجة تمهد لتموجات النص الأخرى أو تنبثق منها في نسيج مائج بالدلالة.
تجسد الحركة الأولى في القصيدة بعداً زمنياً صارما :
هو الربيعُ كان، واليوم أحدْ
وليس في المدينةِ التي خلت
وفاح عطرها سوايَ
من خلال تحديدها للفصل واليوم وزمن الحدث، هذا أولاً. أما ثانياً فإن القصيدة تشير إلى المكان بطريقة حادة: إنه المدينة. مفتتح النص، إذن، يحدد ومنذ البدء طريقاً ينساب فيه، كأنه يحدد، ومنذ البداية أيضاً، نسب القصيدة أو قرابتها السردية حيث يشكل المكان والزمان (الماضي تحديداً) جزءاً من عناصر النص السردي عموماً، وفضاء تحتدم فيه الاحداث أو الأهواء أو الأفكار وتتصادم. إضافة إلى ذلك، هذه الحركة تشتمل على فعلين يشيران إشارة واضحة إلى دلالة القصيدة في اتجاهها الكلي؛ أعني الفعل “خلت” والفعل “فاح”، وكلاهما يتضمن معني الإقصاء والنبذ والابتعاد كما أشرت :
ليس هناك في المدينة الخالية غير الراوي وحده، منفياً خارج الكل البشري الذي كان يملأ المدينة، ويسد شرايينها بالدفء والضجيج. أما الفعل “فاح” فيتضمن، هو الآخر، حركة الطرد أو الإقصاء. وبهذين الفعلين يختار النص مجراه الدلالي القائم على دلالة النفي وتشظياتها. ومع أن هذه الحركة تشتمل على فعلين إلاّ أنهما فعلان يخلوان من العنف أو الفاعلية الشديدة، كما أن الأسمية هي التي تطغي على جملتها الافتتاحية.
في الحركة الثانية من القصيدة لا نجد غير بيت واحد:
” قلتُ أصطادُ القطا “.
وأول ما نلاحظه على هذه الجملة /البيت/ الحركة أن الفعل فيها ليس حركياً، بل لساني، لكنه يكشف عن حركة الداخل ومخزون النوايا؛ فهو يعلن عن نية الراوي في الخروج إلى الصيد، وهو فعل لا يتوجه إلى أحد خارجي. أنه لا يخاطب أحداً، بل هو نشاط ينطلق من الذات ويتوجه إليها، ليشكل نقطة تحوُّل من السكون الخارجي، الذي يكاد يكون تاماً في الحركة الأولى، إلى موجة داخلية تندلع في إطار اللغة لا في الخارج المكاني. بذلك تنجح هذه الحركة في الربط بين الحركة الأولى، حيث سكون الخارج وترتيب ميدان الأفعال السردية المقبلة، وبين إعلان الراوي عن طبيعة ما سيفعله والذي يشكل، كما سنرى، الحركة المهيمنة دلالياً وسردياً على مبنى القصيدة وتركيبها. من جهة أخرى، فإن القطا سيظهر، منذ الآن، محلقاً في فضاء النص.
وإذا كان القطا يظهر، في الحركة السابقة، هدفاً للصيد، ومتلقياً لتأثير الفعل، فإنه يسيطر على مساحة الحركة الثالثة من القصيدة
كان القطا يتبعني من بلدٍ إلى بلدْ
يحطّ في حلْميْ ويشدو
فإذا قمتُ شردْ
إن القطا، هنا، لا يبدو، من خلال فاعليته، قطاً حقيقياً، بل هو قطا رمزي، يندفع محلقاً من غيم المخيلة إلى نهار الورق، وإلاَّ كيف يتجانس، فعلياً ودلالياً، خروج الراوي إلى اصطياد القطا وملاحقة القطا له، في اللحظة ذاتها. من الواضح، هنا، أن القطا يحوم في فضاء رمزيّ تسهم في نسجه صورة القطا وهو يحط ويشدو في حلم الراوي، وشروده منه لحظة أن يقوم: شبكة من الأفعال التي لا يحكمها إلاّ منطق الحلم والشعر والتوهم الجميل. إن هذه الحركة تضع بين يدي المتلقي إشارات واضحة تنحرف بقراءته من مسارها الحرفي، المثقل بركام العرف والعادة، لتطلقها في فضاء أشد ثراء، هو فضاء الرمز:
أما الحركة الرابعة، فتفصح عن فاعليتها بطريقة أشد نصاعة من خلال مجموعة من الأفعال التي تنطوي على شحنة حركية عميقة:
حملتُ قوسيّ، وتوغّلتُ بعيداً في النهارِ المبتعِدْ
أبحثُ عن طيرِ القطا
حتى تشمّمتُ احتراقَ الوقتِ في العشبِ،
ولاح لي بريقٌ يرتعدْ
الراوي، في هذه الأبيات، متضمَّن داخل النص، وجزء من حركته. وهو يسند إلى ذاته فاعلية هذا المقطع كله. إن الأفعال جميعها مسندة إلى الراوي: حلمتُ، توغلتُ، أبحثُ، تشممتُ. وحتى الفعل “لاح”، وعلى الرغم من عودته نحوياً إلى البرق، فإنه ينتمي نفسياً ومنطقياً إلى الراوي بترجيح نصي هو شبه الجملة “لي”، فالراوي هو الذي رأى البرق، وهو، إضافة إلى ذلك، عنصر أساسيّ من عناصر السرد وشخصية من شخصياته؛ لأن السرد، هنا ليس سرداً موضوعياً بل هو سرد ذاتي يندرج الراوي في مكوناته السردية. وقد يُخيل إلينا، للوهلة الأولى، أن فاعلية الراوي، في هذا المقطع، سترشحه لاحقاً ليكون فاعل هذه القصيدة أو بطلها، لكننا سرعان ما نكتشف أن ذلك بعض من إيهامات النص التي تطفو متألقة على سطحه.
وتتسم هذه الحركة، أيضاً، بعنف فاعليتها. إن معظم الأفعال وأسماء الفعل فيها تنتمي إلى حقل الأفعال المزيدة أو المشددة: توغلت، تشممت، يرتعد، وكذلك أسم الفاعل (المبتعد) والمصدر (احتراق) فإنهما مشتقان، على التوالي، من فعلين مزيدين هما(إبتعد، احترق). وما يعيق إحساسنا، أكثر، بقوة الحركة وشدتها في هذا المقطع ليس تضعيف الأفعال أو زيادتها فقط، بل استخدام الحرف “حتى” الذي يفيد الغاية في الزيادة أو النقص كما يقول النحويون: لقد طال البحث عن طير القطا، بكثافة موجعة، إلى أن فاحت رائحة الوقت وهو يحترق في ثنايا العشب. ويتميز هذا المقطع / الحركة، فيزيائياً باحتلاله فضاء ورقياً أوسع من المقاطع السابقة؛ أي أن نموه لا يتم على المستوى الدلالي والتركيبي فقط بل على مستوى الإتساع والتمدد، فيزيائياً، في فضاء النص.
إضافة إلى ذلك، فإن كثافة هذا المقطع على مستوى أخر، فلو تأملنا البيت الأول منه،مثلاً، لوجدنا أن دلالة الناي أو الابتعاد لا يعكسها الفعل المضعف “توغلت” فقط بل اسم المصدر “بعيداً”، واسم الفاعل “المبتعد” أيضاً: ثلاثة تجلِّيات صرفية تتعاضد لإبراز دلالة هذا المقطع بطريقة أخاذة
وما إن تبدأ الحركة الخامسة حتى يهيمن القطا على فضاء المقطع هيمنة كاملة.
كان القطا ينحلُّ كاللؤلؤِ في السماءِ ثم ينعقـدْ
مقترباً، مسترجعاً صورتَهُ من البدَدْ
مسّاقطاً كأنّما على يَدِيْ
مرفرفاً على مساربِ المياهِ كالزبدْ
وصاعداً بلا جسد
وعلى الرغم من أن هذا المقطع يبدأ بجملة إسمية، وأن عدد الأفعال فيه محدود؛ إذ لا يتجاوز الفعلين (ينحل، ينعقد) إلاّ أنه يكتظ بحركة ضاجة حتى الكلمة الأخيرة. ويقف القطا، وليس الراوي، مصدراُ لكل مافي هذه الأبيات من فاعلية.
وقد أسهم الاستخدام الكثيف لاسم الفاعل في شحن المقطع بالحركة والرفيف : مقترباً، مسترجعاً، مرفرفاً وصاعداً. إن هذه الأسماء، عدا الأخير منها، مشتقة من أفعال مزيدة أو مضعَّفة، كما أن اسم الفاعل، كما هو معروف، يعمل عمل فعله ويحمل، بالتالي، ما فيه من قوة
والملاحظ، في هذا المقطع، أن حركة القطا ليست حركة منسابة، رخية، متجانسة أو في اتجاه واحد. بل تشتمل، ضمناً وبشكل عنيف، على عنصر التضاد: الانحلال والانعقاد، الصعود والترسب، التشتت والالتئام. وواضح أن فاعلية القطا تتسع، هنا، اتساعاً كبيراً يعكس هيمنة القطا، فيزيائياً وسردياً ودلالياً، على فضاء النص وتركيبه.
تتشكل الحركة السادسة، في هذه القصيدة ، من فضاء أبيض بين البيتين (16، 17)، هو الوحيد في النص كله؛ فقد كان نص القصيدة، حتى هذه اللحظة، مترابطاً ومتصلاً ببعضة. كان مطرداً  (قرابة أخرى تربط طبيعة النص بعنوانه) ليس من ملفوظ لساني هنا، بل مساحة من الكلام المغيّب، أو المسكوت عنه. دلالة ما، ذائبة في بياض غامر، ودوافع تتخفى وراء البياض هذا وتدفع به إلى الانبثاق من هذا الموضع بالذات.
لاحظنا، في المقطع الذي يسبق فسحة البياض، أن الحركة انتهت بصعود القطا دونما جسد، وهي إشارة يصعب فهمها فهماً واقعياً يستند إلى منطق العالم ومعرفتنا بالحياة. إنها شحنة من الثراء الرمزيّ الذي يتطلب منا الانغمار في النص ومطاردة منطوياته البعيدة. فسحة البياض، هنا، إذاً هي فاصل بين حركتين تتميزان، تميزاً شديداً، وهي بياض النهار العاري الذي انقضى في مطاردة القطا دون جدوى.
في المقطع الأخير، الذي يشكل الحركة السابعة من هذه القصيدة، ينقشع غيم النص عن خاتمة شعرية تظل، رغم وضوح تركيبها، حافلة بالحيرة والتعدد اللذيذين :
صوّبتً نحوهً نهاريْ كلّهُ
ولم أصِدْ
عدوتُ بين الماءِ والغيمةِ،
بين الحلمِ واليقظةِ، مسلوبَ الرشدْ
ومذ خرجتُ من بلادي
لم أعـد
يبدأ المقطع بجملة فعلية تنبثق من بياض الحركة السابقة، وكأنها تجسد لنا الزمن القاحل الذي يفصل بين صعود القطا دونما جسد، وانقضاء النهار كله في المطاردة المخفقة. ورغم أن هذا المقطع يشتمل على خمسة أفعال تُسند كلها إلى ذات واحدة، هي الراوي، إلاّ أن الراوي يظل، دلالياً ونفسياً، هو ضحية تلك المطاردة. أما طائر القطا فقد فرّ من نسيج النص باستثناء إشارة واحدة إليه تتمثل في الضمير العائد إلى القطا في كلمة (نحوه). وتتعالى قوة الإحساس بالخيبة عبر عناصر التضاد الأخرى: صوبت: لم أصد، الحلم: اليقظة، العدْو: فقدان الرشد. كذلك فإن ما يكثف من مناخ الإخفاق هذا اشتمال النص، وللمرة الأولى، على فعلين منفيين مجزومين: لم أصد، لم أعد .
البنيـة الإيقـاعـية
تحتفظ هذه القصيدة بما يشدها، عروضياً، إلى الطرديات القديمة؛ أعني البحر الشعريّ، فهي شأنها شأن القصائد الطردية عموماً تستند إلى تفعيلة الرجز: مستفعلن(17)، ويتفاوت ورود هذه التفعيلة في أسطر القصيدة تفاوتاً كبيراً، من مرة واحدة، كما في البيتين الثامن عشر والثاني والعشرين، إلى إحدى عشر مرة كما في الجملة الثانية التي تتدفق بفعل التدوير، مستغرقة أربعة أسطر من القصيدة.
وهذا التباين في تكرار التفعيلة لا يأتي اعتباطاً، بل هو تجسيد لكثافة الدلالة، وفيض الداخل. إنه إفصاح فيزيائيّ مرئيّ عن شحنة داخلية؛ أي أن الفضاء الذي يملؤه البيت أو السطر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بطبيعة تلك الفورة الداخلية التي تستدعي فضاء يلائم ما فيها من امتداد، وبتر وتشظيات. إن البيت: “ولم أصدْ ” مثلاً، لم يستغرق إلاّ تفعيلة واحدة؛ لأن دلالته لا تتطلب الامتداد أو التراخي، بل القطع، والبتر. لذلك لم يشغل أكثر من هذا الفضاء المحدد.
ومما يلفت النظر أيضاً أن البيت “وصاعداً بلا جسدْ” يعكس، تركيبياً وموسيقياً، شحنته الدلالية: إي انفصال القطا عن جسده؛ فالتفعيلتان لا تخترقان جسد البيت، أو تشتبكان بكلماته اشتباكاً عشوائياً، وإنما تستقل كل واحدة منهما بجزء من البيت؛ أنهما تشطران بنيته إلى نصفين (وصاعداً – مستفعلن، بلا جسد – مستفعلن) وكأنهما تَحكيان انشطار القطا وهو يتجه إلى الأعالي، مخلفاً كيانه المادي يتهاوى على الأرض.
أما المقطع الثاني فيتكشف عن دلالة مغايرة إلى حد ما، تقوم لا على الإنشطار والبتر كما في البيت السابق، بل على الاتساع والخلوّ والتباعد. وقد تجسدت هذه الدلالة، حسياً، في فضاء ممتد، يغمر أربعة أسطر تمثل، إيقاعياً، تكرار مستفعلن إحدى عشرة مرة؛ أي أن دلالة الامتداد والفراغ – التي تتجسد في خلو المدينة من الناس، وفوح العطر، وانتقال القطا من بلد إلى آخر – تطلبت معادلاً تركيبياً وإيقاعياً يفسح لتلك الدلالة فضاء مكانيا مناسباً.
وقد لعب نظام التقفية دوراً في التعبير، ايقاعياً، عن دلالة القصيدة التي تقوم، كما أشرت أكثر من مرة، على بنية النبذ، والطرد، والإقصاء. لكننا، حين نتأمل هذا النظام التقفويّ، سيتكشف لنا جانب آخر من جوانب القصيدة يعاكس، إيقاعياً، بنية الدلالة ويعارضها. إن نظام القافية المفيدة الذي يتعارض، ظاهريا وللوهلة الأولى على الأقل، مع تركيب هذه القصيدة سيعمق وبطريقة فذة دلالة النص حين يجعل منها دلالة ديناميكية، تقول على السلب والإيجاب، والتشبث والابتعاد. وهكذا، فإن قصيدة “طردية” لا تقول دلالتها، بليونة ويسر، بل تنطوي، وبخفاء محبب، على دلالة مركبة: تندفع وتتراجع، تنفصل وتتشبث، دون أن تسلم أمرها إلى أفق بعينه، أو تسعى إلى بلوغه باتجاه خطيّ مباشر تماماً.
ومع أن أبيات القصيدة تتفاوت في الطول تفاوتاً شديداً، إلاّ أنها محكومة بقافية واحدة هي قافية الدال الساكنة. ومن الواضح تماماً أن السكون يترك في النفس إحساساً بالتراخي والافتقار إلى الفاعلية. إلاّ أنّ حرف الدال، كبنية صوتية، يحتشد بمعنى الانحباس والتفجّر معاً، فهو صوت انفجاري لا يتم النطق به إلاّ بالتصاق مقدمة اللسان باللثة والأسنان العليا التصاقاً يكبح مرور الهواء، كما يقول علماء الصوتيات، ويظل نطق هذا الحرف ناقصاً إلى أن يندفع الهواء المحبوس إلى الخارج، أي أنه حرف يحكي، بشحنته الصوتية، بنية التضاد: الغلق والانفتاح، الانحباس والتفجر.
وهكذا نرى أن هذه القافية قد أحاطت القصيدة بسياج صوتيّ، ومنعت دلالتها من الاندفاع في اتجاه واحد؛ أي أنها شكلت حاجزاً ايقاعياً ترتطم به حركة الدلالة في تموجها العنيف المتشظي لتهدأ، ثم تواصل تصاعدها مرة أخرى.
من جانب آخر، تسهم حركة الحرف السابق لحرف الدال، أو ما يسميه العروضيون حركة التوجيه، في توزيع كتلة النص الشعري إلى مجموعات أربع، تتشكل كأنساق حيث يندغم حرف الروي والحرف السابق له ليشكلا دفقة صوتية تكثف من حضور القافية، هذا أولاً. ويختص كل نسق، ثانياً، في احتضان مجموعة من الأبيات ليغلفها بشغاف صوتيّ يمنع انكسارها إلى الخارج، ويحول دون تشتيت دلالتها المحتبسة القلقة والشديدة التوتر.
تمتد المجموعة الأولى من البيت الأول إلى السابع، ويحكمها الحرف المفتوح قبل القافية أو حرف الروي : (أحد – شرد)، أما المجموعة الثانية فمن البيت الثامن إلى البيت الثاني عشر وتتغير فيها حركة التوجيه إلى الكسر: (المبتعد – ينعقد). وتعود حركة الفتح ثانية في المجموعة الثالثة؛ من البيت الثالث عشر إلى البيت السادس عشر: (البدد – جسدَ)، وكأن هذه العودة إلى حركة البداية إشارة إلى أحكام الدائرة التقفوية وعودتها إلى النقطة الأولى، لتحضن التموج الدالي والتركيبي للقصيدة تاركة المجموعة الرابعة، أو المقطع الأخير خارج هذه الدائرة المقفلة.
في المجموعات الثلاث السابقة من أبيات القصيدة شكلت حركة حرف الدال وحركة التوجية، أي الحرف السابق للقافية، كلتاهما نسقاً ايقاعياً كان يعزل تلك المجموعات، ويوشيها بزركشة إيقاعية متجانسة. ولم يشذ عن هذه الخاصية غير المقطع الأخير، أي المجموعة الرابعة، فقد ظل هذا المقطع عائماً خارج أي نسق من الأنساق التي حكمت، ايقاعياً، حركة المقاطع الأخرى. لقد تذبذبت حركة الحرف الذي يسبق الدال، والذي يتكرر ثلاث مرات في هذا المقطع، بين الكسر، والفتح، والضم، الأمر الذي خلخل الكثافة الصوتية للدال ودفع بها إلى الوهن والذبول، وبذلك فإن المقطع الأخير من القصيدة تجسيد أيقوني لنهايتها المحكومة بالإخفاق.
تـوتـر الدلالـة :
تفصح هذه القصيدة، كما تكشف عن ذلك مستوياتها السردية والإيقاعية والتركيبية، عن بنية النفي والنبذ والإبعاد، وهي بنية دلالية مهيمنة، تتضافر عناصر النص جميعاً للكشف عنها؛ أي أن دلالة القصيدة، هنا، لا ترتبط بالملفوظ اللساني وحده، بل ترشح من خلال عناصر أخرى كالإيقاع، وكتلة النص، وبنية السرد، وفسح البياض أو شكله البصريّ.
إن هذه الدلالة، في اشتباكها بنسيج النص وإيقاعاته وفضاءاته، تتميز بتعقيدها وتقاطعها؛ فهي لا تتجه صوب أفق نهائي بذاته اتجاهاً أحادياً، دونماً التواءات، بل يتصف مسارها بالتعرج، والتشابك، والتضاد؛ أي أن دلالة النفي والإقصاء هنا ليست دلالة نهائية أو مؤكدة تماماً، رغم هيمنتها على هذا النص البارع. إنها دلالة تشتمل على الضد والنقيض، ويقوم جوهرها على التمزق الداخلي، ويستند إلى التضاد الذاتي. وبذلك فهي دلالة ديناميكية، فوارة بالتوتر والتشابك.
تتقاسم حركة القصيدة شخصيتان أساسيتان: القطا وسارد الحكاية، وهاتان الشخصيتان تجسدان أيضاً دلالة التمزق والإقصاء والتباعد؛ فأحدهما أرضي إنساني، والآخر فضائي علوي ومن الملاحظ أن القطا يحلق في فضاء النص وحيداً، إذ إن الإشارات إليه تتـم، دائماً باعتباره مفرداً، مع أن لفظ القطا لا يدل على المفرد بل على الجمع. وبذلك فإن استخدام القطا بدلالة الإفراد هو عزل له عن سربه، ونأي به عن مجتمعه(18). وهكذا يتجلى أمامنا، ثانية، تجسيد آخر من تجسيدات النفي، والنبذ، والإقصاء.
ومن ناحية أخري، فإننا حين نتأمل كلمة القطا نجد أنها مشحونة بالتداعيات والتفجرات الوجدانية. إن القطا وهو يلمس ماء الذاكرة فكأنما يندفع إلينا من رماد قراءاتنا المنسية ساحباً معه  الكثير من الظلال المشتعلة والإيماضات الملتاعة؛ فالقطا كلمة ذات غنىً سيميائيّ كبير(19). وشعرنا القديم يمدنا بذخيرة غنية من تداعيات هذه الكلمة، وأصدائها التي ترتبط بالمرأة والطمأنينة، وتكتنز بدلالات الحنين والانقطاع.
ما الذي يسعى هذا النص إلى تجسيده أو الكشف عنه؟
لا شك أنني لا أنقب، هنا، عن مجرى يتدفق بين النص ومرجع خارجي ما؛ إذ من السهل تماماً أن نبحث عن شظايا من حياة كاتب النص وهي تنعكس في ماء القصيدة أو مراياها الماكرة. لكن ذلك سيلقي بنا في أرض بعيدة عن النص، ليس فيها غير رائحة الوثيقة الحياتية، أو التاريخ الشخصي.
يبدو أن الطريق الأفضل للوصول إلى حقيقة نص ما، هو أن نسلم مع رودوَي(20) حين يشير إلى أن الكاتب يتخفى، دائماً، وراء قناع ما، وإلاّ وجدنا أنفسنا ننقب في بقعة، تقع خارج النقد، أو وراءه تماماً.
مًنْ يُطارد مَنْ في هذا النص؟
قد يكون الإنسان مطلقاً، أو المثقف تحديداً، أو الشاعر بشكل أخص وهو ينهمك في هذا الاشتباك الأزلي مع حلمه أو غوايته. ربما هو آدم، الكامن في كل منا، حين ينفلت من عبء الجنة منخرطاً في حرية وهمه أو ضياعه، مقترفاً لذة المعصية التي تقوده، أو يقودها، صوب تجربة كيانية حافلة بالتشتت والأحلام الموجعة، أو السعي الذي لا يُتَّوج، أبداً، إلاّ بالأسى وعدم الاكتمال.
طـرديـة
1-هو الربيعُ كانَ، واليومُ أحَدْ
2-وليس في المدينةِ التي خلت
3-وفاحَ عطرها سوايَ،
4-قلتُ أصطادُ القطا.
5-كان القطا يتبعني من بلدٍ إلى بلدْ.
6-يحطُّ في حُلْمي ويشدو
7-فإذا قمتُ شَردْ
8-حملتُ قوسيْ، وتوغّلت بعيداً في النهارِ المبتعِدْ
9-أبحث عن طيرِ القطا
10-حتى تشمّمتُ احتراقَ الوقتِ في العشبِ
11-ولاحَ لي بريقٌ يرتعدْ
12-كان القطا ينحلّ كاللؤلؤِ في السماءِ ثم ينعقدْ
13-مقترباً، مسترجعاً صورَتهُ من البَددْ
14-مسّاقِطاً كأنّما على يَديْ،
15-مرفرفاً على مساربِ المياهِ كالزبدْ
16-وصاعداً بلا جسدْ
17-صوّبتُ نحوه نهاريْ كلّهُ
18-ولم أصِدْ
19-عدوتُ بين الماءِ والغيمةِ،
20-بين الحلمِ واليقظةِ، مسلوبَ الرشَدْ
21-ومذ خرجتُ من بلاديْ
22-لم أعُـدْ !
الهوامش
___________________________________
7-محمد جمال باروت، الحداثة الأولى: دراسة، اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات، دبي، 1991، ص204.
8-سوزان برنار، قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا، ترجمة: زهير مجيد مغامس، دار المأمون، بغداد، 1993، 230.
9-اعتمدت نصاً لهذه القصيدة، بخط الشاعر، منشوراً في دورية اسبانية تُعنى بالشعر العربي هي: Tiempo De Poesia Arabe, No 33-34, 1994.
10-روبرت شولز، المصدر السابق، 189.
11-كمال ابو ديب، البنية والرؤية: التجسيد الأيقوني، الأقلام، العدد 4-5، 1978، ص5.
12-على جعفر العلاق، في حداثة النص الشعري، دراسات نقدية، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1990، ص 146.
13-مجدي وهبة، كامل المهندس، معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، مكتبة لبنان، بيروت، طب2، 1984، ص236.
14-لمزيد من التفاصيل عن قصيدة الصيد أو الطرديات، دلالة وتركيباً وإيقاعاً. أنظر: دراسة Jaroslav Stedevych عن الصيد في الشعر العربي، المنشورة في Tradition and Modernity in Arabic Language and Literature, ed. By. J. Smart, Cur son press, UK,1996
15-لسان العرب المحيط، تحقيق وتصنيف: يوسف خياط، دار لسان العرب، المجلد 2، بيروت، د. ت، مادة “طرد”.
16-لسان العرب المحيط، المجلد 2، مادة “قطا”.
17-أنظر:  Jaroslav Stedevych, P. 115.
18-يبدو أن العدوى الشعرية لهذا النص قد سرت إلىّ أنا أيضاً؛ فها أنا استخدم كلمة “القطا” في هذا البحث للدلالة على المفرد، كما فعل الشاعر في قصيدته تماماً، لا للدلالة على الجمع.
19-انظر: Jaroslav Stedevych, P. 112.
20-أنظر: Allan Rodway, The Craft of Criticism. Cambridge University, 1982, PP. 44-45.