تـأمـلات فـي كتابـة القصيـدة 

-1-

 

أتساءل ، أحياناً : ألا يعد حديث الشاعر عن سلوكه الشعري نميمة من نوع خاص ، هتكاً للسر، أو وشاية بالقصيدة؟ ألا يعني ذلك أن الشاعر يفتح ورشته الشعرية للريح وفضول المارة ؟

ثم ألا يكشف حديث كهذا لعبة الشاعر التي حرص، دائماً، على أن تظلّ سرّية، وعصية على الفضح؟

حين يتصدى الشاعر لمهمة شاقة وشيقة كهذه لابد له من عدّة مميزة . أعني أن تكون له أسراره الخاصة فعلاً؛ فالحديث عن مخبّآت متوهمة، أو مدعاة ضرب من الوهم، أو دعوة للصيد في الظلام. هذا أولاً .

أما ثانياً. فإن في حديث الشاعر عن حركة القصيدة، أو تململها الأول، أو انبثاقها من شقوق الروح ، تكذيباً لسقراط، وإقلاقاً لقناعته التي لا تزال ، ربما، تسكن ما بقي من رماده العظيم. أما كان يرى، دائماً، أن الشعراء هم أقل الناس قدرة على الحديث عن قصائدهم؟

إن الشاعر لا يملك، على الدوام، لغة فضاحة أو نضّّاحة. أقصد اللغة/ الشبكة القادرة على الغوص إلى عوالمه السفلية وملاعبة كائناتها الخطرة. اللغة التي تجسد أقسى ما في النفس من عويل أخرس، أو نوايا تتوتر تارة وتتآكل تارة أخرى، وهي تحتدم ، هناك، بين قاع البئر وفراشة الضوء.

-2-

 

ما زالت ذاكرتي، حتى هذه اللحظة الموحشة، مبتلة بذلك الصباح الخريفي الذي كان يغمر طفولتي وجدران المدرسة وأشجارها بالبرد واللذة والفضول. في تلك اللحظة فقط، من يوم الدراسة الأول، عرفت أن للقصيدة قائلاً من لحم وحنين وقدمين تلامسان الأرض. لقد صادف أن أحد معلمي المدرسة كان شاعراً. وصادف أن أحد التلاميذ كان يقرأ قصيدة من قصائد ذلك المعلم، وكان الفصل خريفاً.

كانت تلك القصيدة تتناثر في ذلك الهواء الصباحي الطازج. وتبتل بأنفاس التلاميذ، وتلذع قلبي بطريقة لذيذة غامضة. قبل تلك اللحظة لم أكن أدرك، أنا القادم إلى المدينة من قرية مرشوشة بالماء والأسى والخرافة، أن الشاعر يمكن أن يكون إنساناً كباقي البشر: يمشي ويأكل ويتأوه. كنت أظن أن الشعر لغة فوق إنسانية، تهبط من غيب ما ، وتصوغها جوقة من المجانين أو الملائكة ، ربما.

هكذا كانت نظرتي إلى القصيدة: كلام يهطل، غامضاً، من سماء مبتلة بالفضة، أو امرأة تنبثق من جرح في الريح . وهكذا كانت نظرتي إلى الشاعر: إنسان أثيري يصعب الإمساك به. عصي على أن يكون عادياً. هل كان الأمر كذلك حقاً؟ كان الشاعر، بالنسبة لي، إنساناً كرسته الطبيعة لمهمة خارقة: أن ينطق الكون بالحلم ويملأ اليباس بالرأفة.

وكان ثمة سؤال يشتعل رنينه الرمادي في العظم والروح: هل يمكن أن يتجاور، في الشاعر نفسه الحلم والوشاية؟

طفولة اللغة والنوايا السوداء؟

الأسى العظيم والدجل؟

كرامة الروح والابتذال؟

كانت هذه النظرة، وما تزال، نسيج ذلك الوهم الذي يرافقني. فالشاعر عندي، أعصى خلق الله على النفاق والمساومة.  هل كنت أؤمن، وفي وقت مبكر، أن الشاعر هو من ينطبق عليه وصف غوتيه لشيلر: شاعر حتى في طريقة تقليم أظافره؟ ربما.

 

-3-

 

على الرغم مما يتكبده الشعر، كل يوم، من خسائر فإن إيماني لا نهاية له بأن الشعر قوة خفية آسرة، تدفعنا إلى الاكتمال الصعب. وأن القصيدة هي ذلك الملاذ الذي أشيده دائماً من بقاياي النائحة لأحتمي به، ثانية، من القبح والكذب والتشتت. وكم كنت مديناً لهذا الإيمان الكاسح، فقد كان يدرأ عني الكثير من الأذى الذي يحاول أن يحاصر قصائدي، ويبعثر نيرانها الجريحة. لم أكن أحفل أبداً، رغم تاريخ طويل من الفقر الكريم والوحشة الهائلة، بولائم الجن وتمتمات السحرة. لم أحفل بالغنى الرخيص والشعراء الذين كانوا ينحتون قصائدهم حسب الحجوم والأيام والمناسبات.

للشاعر غيومه المغردة في الروح، تحجب عنه ضجيج الشعراء المفتعلين وغرورهم المغشوش. وحين كانت مباهجهم العابرة تزداد ارتفاعاً كانت نشوته لا حدود لها، وهو يفرغ من قصيدة جديدة: صياد مفتون برائحة الطرائد الحرة، وهمهمة الموج. كان يحسّ، بعد كل مكسب أرضي لهم، أنهم يزدادون إيغالاً في التراب بينما ترتفع به قصائده، هكذا يحسّ، خفيفاً مشعاً، يتكاثر في الريح مأخوذاً بخسائره ومفتوناً بحزنه العظيم.

 

-4-

 

يؤلمني كثيراً ما في نصوصنا الحديثة من إدعاءات مخيفة. إن شعراءنا كثيراً ما يستعيرون لغة أخرى ورؤى لا تمت لتجربتهم الروحية أو خبرتهم الشعرية بصلة عميقة. أنني أتفتت ألماً حين أقرأ قصيدة تقتفي خطوات أدونيس أو محمود درويش حتى تكاد أن تسقط إعياءً: لغة أدونيس الجسدية، المختنقة بالدلالات وتوهجات الفكر، والشطحات الصوفية، والإيماء إلى الأساطير، والانزياحات الأسلوبية.

وكذلك حين يفعل شاعر آخر الشيئ نفسه مع محمود درويش: حين يحاكيه في لعبته الداخلية: في سهولته المضللة أو شراسته المغرية، أو حين يحاول اللحاق المستحيل بتلك الغنائية الفجائعية، أو ذلك الضمير الجمعي الذائب في فردية فريدة.

وفي الحالتين لا يملك هذان المقلدان شيئاً من سحر أدونيس أو درويش، ولا يملك أيّ منهما أن يكون آيّا منهما على الإطلاق: ليس إلا الإدعاء، ومشقة المحاكاة، وعذابها الفائض عن الحاجة.

وفي نصوصنا الشعرية الحديثة، أو في معظمها، مجافاة واضحة لشروخ الذات وتفجعاتها. تقرأ القصيدة، أحياناً ، فلا يعلق بروحك أو ضميرك وجدان ما : ندم ، أو شهوة، أو خذلان، أو رفض، أو يأس. إنها خارج اصطدام هذه الانفعالات، أو بعيداً عن هبوبها القاسي غالباً. وتسأل نفسك أين يقيم هذا الشاعر؟

ولست أدرى سبباً لهذا الضمور الوجداني في الكثير من نصوصنا هذه الأيام. أهو الانحراف بمقولة إليوت الشهيرة عن اتجاهها الصحيح: على الشاعر أن يهرب من عواطفه؟ مع أن إليوت كان يعني ، بعبارة لا تحتمل متاهات التأويل، أن على الشاعر أن يعبر عن عواطفه بطريقة غير مباشرة.

هل فهم بعض شعرائنا إليوت بطريقة لا تمثل مفاهيمه النقدية على حقيقتها؟ هل نسي الكثير من هؤلاء الشعراء أن اليوت كان يعدّ أعماله النقديه مجرد ناتج جانبي لنشاطه الخلاق؟ وكثيراً ما عبر عن استيائه لأن بعض الكتاب يقتبسون عباراته، التي كتبت قبل أربعين سنة، وكأنها كتبت أمس، كما كشف عن حيرته لشيوع مصطلحاته بين الباحثين الجادين وتلاميذ المدارس.

لقد ركضنا وراء مفاهيم الفصل “بين العقل والعاطفة”، و”المعادل الموضوعي”، و”الهرب من العواطف”، و”الموضوعية في الأدب” حتى صار الكثير من قصائدنا جافاً ، خشناً، لا يسيل منه ماء المعنى ولا دم الكارثة.

إن للشعر، حتى في أقصى مدياته تجريبية، دافعاً ما، وغاية يسعى إلى الإيحاء بها، بوسائله الشعرية الخاصة. كلام ، كالبدهيات، لا خلاف عليه بين عاقلين. والشعر لا يبعد كثيراً عن أن يكون تعبيراً غير مألوف، عن تجربة مألوفة. والشعر بعبارة لوتمان، معنى يبنى بطريقة معقدة. ليس الجدال إذن حول تجربة القصيدة أو موضوعها ، في حد ذاته، بل حول طرائق الإفصاح عنه بحيوية راقية. خلافنا لا يتعلق بـ ” ماذا” النص الشعري بل بـ “كيف” التجسيد، أعني خصوصية أدائـه ، وتمايزه ، وروغانه الجميل.

 

-5-

 

تبدأ القصيدة، لديَّ، دون تخطيط، أو تصميم مسبق، هكذا همهمة جسدية وروحية تظل، على الدوام ، عصية على التحديد، عشبة من دخان اللغة، ورعدة ذات إيقاع خاص تتصاعد متشابكـتين من بين الأنقاض. ولست، قادراً ، لحظتها ، على تمييز ما يحصل في تلك البئر الفياضة بالضوء الغائم،والمباهج المنكسرة، كل شئ يبدأ مشوشا، مرتبكاً، لكنه يظل، مع ذلك ، لذيذاً يحفز الحواس باستمرار ويغذيها باللهب، والتصدعات والتمتمة.

لا أقوى ، أحياناً، على الفرز بين اللغة والإيقاع، فهما يندفعان سوية: يتقاطعان تارة وينسجمان في هبوبهما تارة أخرى. وأظلّ مسكونا بهذه الهمهمة، ممتلئاً بدخانها العالي، وهو يهطل على الروح والجسد لفترة قد تطول وقد تقصر ، حتى أجد نفسي في اشتباك لا أتبين أطرافه بسهولة : جسد ينز لغة، وإيقاع مؤلم لم يعثر على لغته بعد. في هذه الحيرة الوارفة، تتجمع فلول الإيقاع، وتتلبد الروح باللغة شيئاً فشيئاً.

وكما تقبل غيوم الخريف الأولى، أو ينبثق رعد على حافة أفق بعيد، هكذا تماماً، تقبل القصيدة متأججة غامضة، لا ملامح لها، تدفعني أمامها مثل ليل كاسح. ويستمر هطولها الكثيف: سيل هائج لا أتبين اتجاهه تماما، يوقظ في طريقه آلاف الطيور والمآتم، والأنهار الخرساء.

وما إن ينتهي هذا الاشتباك ، حتى تبدأ ملامح النص بالاتضاح: فجر يطل مرتبكاً على قرى مهدمة، وذكريات تتوهج باستمرار، وجوه لم أعد اعرفها لكثرة ما تراكم بيني وبينها من غياب كثيف. الكتابة، عندي، حالة من الكدر الروحي، والعناء الجسدي. إنها تجربة شديدة المرارة، وقد تكون بداية الكتابة أكثر مراحلها أذى ووعورة. فكم هو شاق وممض البيت الأول من القصيدة، أو الأبيات الأولى منها. إنها فترة من التهيب والخوف اللذين لا أدري سبباً لهما. أهو غموض ما أنا مقبل عليه؟ ربما. فالقصيدة تتمرد على صاحبها منذ البدء ، تتخذ طريقاً أخرى تماماً، حتى تبدو ، في النهاية ، قصيدة عن موضوع آخر، أو فكرة لا تمت إلى الفكرة التي توهمتها أول مرة. مع أني كما قلت لا أضع تخطيطاً للقصيدة التي أسعى إلى كتابتها.

وحين تأخذ قصيدتي طريقها إلى النشر، لا يعني ذلك اكتمالها النهائي، فاكتمال القصيدة بالنسبة لي، عمل يناقض آدمية الشاعر، تلك الآدمية المفعمة بالندم المهلك والإحساس بالنقص. أينا يملك القدرة على الاكتمال؟ بل أينا يملك الجرأة على قول ذلك؟

ولهذا السبب، كثيراً ما تتعرض القصيدة لدي إلى التآكل أو النمو. كان كيتس يقول إن قصيدته جزء منه، وهي عرضة للتغيير دائماً، وأنا أطارد قصيدتي باستمرار محاولاً أن أقربها من ذلك الوهم الجميل، أو الاكتمال العنيد . قد لا تصل بعض قصائدي إلى شكلها النهائي إطلاقاً، فهي في القراءة قد لا تكون  ذاتها  مطبوعة في الجريدة، وهي في الجريدة أو المجلة غيرها في الديوان، أو على الأصح ليست هي تماماً. قد يطال التغيير عنوان القصيدة فقط ، وقد يشمل عناصر جوهرية في دلالتها، أو نسيجها اللغوي.

أذكر مرة أن الدكتور سلمان الواسطي، وهو مترجم بارع ، وأستاذ مرموق في الأدب الإنجليزي ، ترجم قصيدة لي بعنوان ” دخان الشجر” كانت منشورة في مجلة الأديب المعاصر، ونشر الترجمة في مجلة كلكامش، الصادرة عن دار المأمون. وحين ظهرت القصيدة في مجموعتي “فاكهة الماضي”، كانت قد تعرضت لجملة من التغيرات، كانت نصا يكاد يكون مختلفاً عن النص المنشور في المجلة، وكم كنت محرجاً  من الأستاذ الواسطى . لقد ظن البعض أن ترجمته بعيدة عن القصيدة، وهم لا يعلمون أن قصيدتي هي التي ابتعدت عن ترجمته، فهي نص يختلف ، إلى حد واضح، عن ذلك الذي قام بترجمته الواسطي باقتدار ورهافة عاليين.

 

-6-

 

القصيدة لغة قبل كل شئ، ولغتها هي التي توصلنا إلى عناصرها الأخرى. في الشعر تكون اللغة خاصية الشاعر الأولى أومأثرته الكبرى، ولذلك نتحدث عن لغة السياب، ولغة أدونيس، ولغة محمود درويش، وآخرين. ولا أعني باللغة هنا، مفردات الشاعر، التي يكثر معدل ترددها أو تكرارها في قصائده، لا أعني معجمه الشعري فقط، بل شمائله اللغوية وعاداته في بناء العبارة، وقدرته على تحويل الجملة اللغوية إلى جملة شعرية، أي القدرة على تليين القاعدة اللغوية السائدة، وتكييفها شعرياً. لا بمعنى إلحاق الأذى بها، واختلاق المعاذير للإساءة إليها، بل ما أعنيه شيئ آخر تماماً. هو الإصغاء لهاجس الشعر لا لمنطق اللغة فقط .

الهاجس والمنطق في اشتباك لا يهدأ، المنطق يسعى في المقام الأول إلى الصحة اللغوية، والصرامة، والشيوع، أما الهاجس فيدفع إلى العدول عن الشائع، المكرور، إلى الأقل شيوعا والأكثر مفاجأة. إن الامتثال للنمط الشائع ، في بناء الجملة ، انصياع مطلق للقاعدة في أكثر وجوهها تزمتاً، أما الكشف عن جوازات هذه القاعدة واستثناءاتها أو احتمالاتها الأقل شيوعاً فكشف عن المخبوء، وغير المتوقع من مدخرات اللغة من الليونة والتكيف. لماذا كان بيت المتنبي التالي مثيراً للاهتمام:

جللاً، كما بي، فليك التبريحُ

أغذاء ذا الرشأ الأغنَّ الشيحُ

هل سيكون له الوقع ذاته لو سار على الترتيب الشائع لبناء الجملة المكونة من كان واسمها وخبرها؟

وقد نما لدي إحساس، منذ البداية، بأن علي أن أنأى بلغتي عن المألوفية، والشيوع قدر ما أستطيع ، مؤمنا إيماناً قاسيا، أن على الشاعر أن يكشف عما وراء أحطاب اللغة من خضرة محزنة، وعما وراء رمادها من أنهار فوارة. كنت أُعنى في الكثير من قصائدي ، عناية خاصة، بالعلاقات اللغوية.

لقد صار من البديهي جدا، أن الكلمة، في حد ذاتها، لا تشتمل على أي إثارة شعرية. صحيح أن كلمات مثل امرأة، بلدوزر، غيمة، برميل ، وردة، مقصلة، كلمات ذات حظوظ متفاوتة من الإيحاء. فالبون شاسع مثلاً بين المرأة  والبلدوزر، وبين المقصلة والوردة، لكن هذا الإيحاء، كما أرى، لا يعود إلى شعرية هذه الكلمة أو نثرية تلك، بل يعود إلى قوة الذاكرة وما تدخره من ثقافة وأعراف وعادات تتباين من حضارة إلى أخرى. إن قوة الشعر هي التي تحول هذه الكلمات إلى كلمات جديدة لم نألفها، أي تضعها من جديد، في سياق آخر، وتحولها إلى كلمات دون ذاكرة.

والعلاقات التي أعنيها لا تتوقف عند العناصر الأساسية للجملة، بل تمتد إلى ضواحيها أيضاً. تلك الضواحي التي يمكن أن يتفجر منها الكثير من الرذاذ والهزات واللطائف. كنت أنتبه على سبيل المثال إلى وظيفة الصفة في الجملة الشعرية، فهي مهلكة ، أحيانا ، وكاتمة للضوء.فالصفة الخاملة  قد تجهز على لجملة الشعرية ، وتطفئ ما فيها من إثارة حين تظل مشدودة إلى ميراثها الأول من المعنى. أما إذا انزاحت تلك الصفة عن مكانها المتوقع، واحتلت مكاناً مفاجئاً، فإنها تربك عاداتنا اللغوية والانفعالية، وتقلب توقعاتنا الراسخة رأساً على عقب.

ما  زلت أذكر ، وأنا في بداياتي الأولى، كيف توقفت أمام بيت لنزار قباني:

يا شعـرهـاً على يـدِيْ

شلالَ ضـوء أسودِ

وكنت مندهشاً من وصفه الضوء بالسواد، قبل أن تصبح هذه المخالفة من بلاغة القصيدة الحديثة وصورها النمطية الشائعة، وقبل أن أكتشف أن المتنبي كان سباقاً إلى ذلك في بيته عن كافور الأخشيدي.

تفضح الشمسَ كلما ذرَّتِ الشمسُ

بشمس منيرة سوداءِ

إضافة إلى دور الصفة في الجملة، فإن العلاقة التي تربط بين عناصر العطف النسقي، يمكن أن توفر للنص هذه الهزة المفاجئة. وقد يبدو الأمر في البداية، كأنه لعب مجاني باللغة أو معها . في قصيدتي (حرس لنوم الحبيبة) مثلاً يرد هذا المقطع:

أغنّي حولَ سيدتي،

وأحرس نومَها المائيّ ، أفتح جمرَها

يأتي المساكينُ ،

الغزالاتُ ،

العصافيرُ

النحيفة، خشنة في البردْ

تجاورني،

وتترك فوقَ قمصاني

حصىً ،

أو وحشةً ،

أو وردْ

ما كنت أعلم تماماً لماذا يبعث فيَّ ترتيب البيت الأخير إحساساً بالنشوة. أهو التنويع في عربات هذه القاطرة اللغوية: حصى، وحشة، ورد؟ أم هو المزج بين الجامد  والحي، بين الممعن في لطفه والممعن في شراسته؟ أم هو التجاور بين المجرد والمحسوس؟

 

-7-

 

مازال الإيقاع، في شعرنا الحديث، يلعب دوراً في بناء النص وتكثيف دلالته من جهة، وتعميق إحساسنا به من جهة أخرى. إن الإيقاع الشعري لدى السياب و أدونيس و محمود درويش، مثلاً، يؤجج في نصوصهم حيوية خاصة، ويدفع بها إلى أقصى قدراتها على التأثير. في هذه الحالة، لا تكون الموسيقى دربكة أو ضجيجاً يأخذنا أو يأخذ الشاعر بعيداً عما يشتمل عليه النص من فداحة أو شجن، حتى نجد أنفسنا، مندفعين مع تيار طربي صاخب، بعيداً عن أرض القصيدة وعالمها المزدحم بالدلالات والرؤى المجرحة.

وقد كانت الموسيقى في النص الذي أكتبه، وما تزال، حاضرة حضوراً أساسياً. إنني، وبسبب طفولة مفعمة بإيقاع القصيدة العمودية ربما، شديد الميل إلى الموسيقى الشعرية. كانت قصائدي، وفي المراحل الأولى خاصة، مفتونة بالإيقاع، الذي يتهدل عليها، غائماً أو شفيفاً، حتى أحس أحياناً أنها تبتل بنغم خاص، يتسرب بين ثناياها، ويملأ كل فجوة فيها، غير أن هذا الافتنان بالإيقاع أخذ يرتبط تدريجياً بوظيفة النص ككل.

لا أجد فاصلاً، كما أشرت، بين اللغة وماء الإيقاع: ماءان كثيفان ينهمران من الجهات كلها، فيسري دبيبهما في كل شئ: في جسد اللغة، وأدغال المعنى، في حركة الروح وشراسة المخيلة، في الكون والناس والحجارة. أحاول ألا تكون موسيقى القصيدة ضجة، بل دبيباً، فضجيج الخارج كثيراً ما يحجب عن قلوبنا أنين الغرقى، وعويل الدماء في عروقهم.

 

-8-

 

يرتبط الشعر بالطبيعة ارتباطاً قديماً، فرحلة الكائن البشري من الطبيعة إلى الثقافة لا تعني استبعاد الطبيعة وأشياءها ورموزها من عالم الشعر. صحيح أن هذا التحول يعني، من جملة ما يعني، مفارقة الإنسان لبساطة عيشه الأول وانتقاله إلى مستوى حياتي أكثر تطوراً، وتعقيداً. لكن هذا التطور الإنساني وضع الطبيعة، في صلتها بالإنسان، في مستوى أشد ثراءً. فدفعت الثقافة بالطبيعة بعيداً عن حياة الشاعر المادية، بعيداً عن خارجه الحسّي، وأدنتها من داخله القلق والمراوغ. جعلتها أكثر تعلقاً بتجربته الروحية؛ فصارت تشكيلة من الرموز والصور، التي تكتسب دلالة فردوسية كبيرة، فهي حلم آدم الضائع تارة ، وطفولته الأولى تارة أخرى، وهي أيضاً، جناته التي لا يكف عن التلفت إليها نادماً، أو يائساً، أو مستاءً.

وهكذا فقدت الطبيعة قشرتها الخارجية، وسال خزينها الرمزي بغزارة موجعة: لقد كانت واقعاً ماثلاً، فغدت رمزاً . وقد حدث ذلك منذ البدايات الأولى وحتى الآن: منذ أن امتلأت آبار أوروك وجرار نسائها بالدم غضباً لاغتصاب إنانا، منذ أن أحس الجبل بالهرم ورعدة الموت، وفقد صلادته وتوحشه أمام ابن خفاجة، ومنذ أن امتلأت الغابة رأفة وانكساراً في شعر جبران وأبي ماضي، ومنذ أن صارت ملتقى للموت والحياة في شعر السياب وغيره من شعراء الحداثة المرموقين.

ثمة فرق كبير بين أن تكون الطبيعة، في الشعر، مشهداً جذاباً ولحظة غنائية عابرة، وبين أن تعمل كعنصر داخلي، يتمدد في نسيج القصيدة ودلالتها الكلية. بين أن تكون عباءة غنائية براقة ملقاة على النص، وبين أن تكون شاهداً على فجيعة الكون ومغزاه الكامن.

وقد كان للطبيعة، في نصوصي الشعرية، حضور كبير ؛ فقد كنت ابناً لبيئة مائية بامتياز، عشت فيها طفولة مشتبكة بالطبيعة اشتباكا فريداً، أورثني ذاكرة منقوعة بالماء، حتى أن بعض النقاد وصف كتاباتي منذ بداياتي المبكرة بالقصائد المائية. في تلك الطبيعة التي يتجاور فيها الموت والأنهار، الطين والأغاني، والمطر والمجاعات، تعلمت كلماتي المائية الأولى، أصغيت إلى طيور التراب، ومحنة السواقي العمياء، أصغيت إلى الريح وهي تبكي، وإلى نواح المآتم وهو يتكسر على حجر الذاكرة.

ولاشك أن الطبيعة ، في قصائدي، لم تكن على مستوى واحد دائماً، ففي قصائدي الأولى قد تهجم عليّ الطبيعة فأجد نفسي مندفعا معها ، وذائباً، حد الفناء اللذيذ، في تفاصيلها. لكن ذلك الأمر لم يستمر طويلاًً، فقد انتقلت علاقتي بها إلى مستوى آخر هو مستوى الحوار والتلاحم، الذي يهدف إلى التوظيف، وردم الفجوة بين الخاص والعام. ورغم أنني الآن أقف أمام الكون الموحش هذا بقلب يعلوه الشيب، ورغم أن الريح تدفعني يوماً بعد آخر، إلى الحافة، فإن الطبيعة تكشف لي، كل يوم، عن مدخراتها العجيبة، أعني طاقتها الكبرى على أن تكون جزءاً من تجسيد النص وجسديته، وأن تكونَ ، رغم وجودها الفيزيائي الأخضر الطري، جانباً مهماً من رمزيته الغائمة، وأناشيده المفعمة بالانكسارات.

-9-

ما أزال أذكر أن القرية، ذلك المكان البعيد كنجم مقفر، هي التي شكلت علاقتي الأولى بالشعر. كان والدي يعلمنا، أخوتي وأنا ، القراءة والكتابة، وكان الشعر الشعبي أول ما استقبلته ذاكرتي آنذاك بعد القرآن الكريم. وبعد انتقالنا إلى بغداد، وفي نهاية المرحلة الابتدائية، كتبت أولى قصائدي العامية، وقد أذيع بعضها في برنامج كان يقدمه الشاعر الغنائي الراحل زاهد محمد. لقد شغفت بالشعر الشعبي في فترة مبكرة، وكنت أتابع بإعجاب لا يوصف ما يكتبه الشاعر مظفر النواب في بداية الستينات . كانت قصائده الشعبية الشهيرة : للريل وحمد، يا ريحان، سفن غيلان، ترافة وليل ، فتحاً شعرياً جديداً في القصيدة العامية العراقية.

كان إنجازه على صعيد الشعر الشعبي العراقي لا يقل عمقاً عما حققه السياب على مستوى القصيدة العربية. وحين تعرفت على النواب، ذات أمسية خريفية، من عام 1962 وأهداني مجموعة من قصائده الجديدة، أدهشتني فيه شخصيته المؤثرة . كان شاعراً ورساماً، وأستاذاً وممثلاً، ومغنياً. وحدث مالم يكن في الحسبان، لقد ساهم مظفر النواب في إدخالي لا إلى عالم القصيدة الشعبية كما كنت أتوقع، بل إلى عالم القصيدة الفصحى : وضعني أمام مفهوم جديد للشعر.

لقد مارس عدد من شعراء الحداثة كتابة القصيدة العامية، مثل سعدي يوسف، صادق الصائغ، عبد الرزاق عبد الواحد وآخرين، وكانت القصيدة العامية مدخلي أنا أيضاً إلى كتابة الشعر والاقتراب من نيرانه الغامضة. لم أطل المكوث عند القصيدة العامية ، غير أن شغفي بها مازال يرافقني حتى الآن، ومازلت أجد في القصيدة التي يكتبها مظفر النواب ورياض النعماني ، وعريان السيد خلف وشاكر السماوي في العراق، والأبنودي في مصر، وطلال حيدر وميشيل طراد والأخوان رحباني وسعيد عقل في لبنان، شعراً بالغ الإدهاش والثراء.

وإذا كان لتلك البدايات العامية أن تترك في قصائد الشاعر، قدراً عالياً من الملموسية، والدفق الحياتي المفعم بالحرارة  والأسى ، فإن الخبرة بالكتابة العمودية، وقد مارستها في مرحلة مبكرة ، قد تنضج من قدرته على تطويع الجملة الشعرية، والوصول بها إلى حد من التماسك والتركيز.

 

-10-

 

كنت على صلة، منذ طفولتي، بالماء والشعر والفجيعة. لقد فتحت عيني في تلك البيئة الجنوبية ، في محافظة واسط التي، يمتلئ هواؤها بالشجن، وتفوح حجارتها الكالحة بأسى قديم. كانت أيام عاشوراء مآتم كونية، تملأ أيامنا بالسواد، وقلوبنا بالندم والحيرة. كنا نهرع من قرانا المتناثرة البعيدة متجهين ، مع خيوط الفجر الأولى، إلى تلك الساحة الترابية الكبرى، حيث تمثل معركة كربلاء على الطبيعة، مع بزوغ الشمس. كانت رائحة الدم تختلط برائحة الفجر، وكانت النساء الندابات، والخيول العائدة من المعركة دون فرسانها، مشاهد لا تفارق الذاكرة : سروج خالية ، وأرسان مخضبة بالدم والتراب. ولا يمكن لي أن أنسى مشهد الحسين المثخن بالجراح. وهو يذبح وحيداً تحت سماء مكفهرة دامية. كان كل ذلك مشاهد تحفر آثارها في ضمائرنا وعقولنا وقلوبنا الصغيرة. وبعد أن تنتهي تلك المراسيم الكربلائية نعود مخذولين إلى قرانا البعيدة، تحت ظهيرة نائحة. لا أحد منا يجرؤ على الأكل أو الشرب أو البشاشة في ذلك اليوم. وكثيراً ما كنا ننسى أنفسنا في ذلك الخضم العاصف من المشاعر، ويختلط علينا الأمر فتمتلئ ثيابنا وأفواهنا وأيدينا بدم مضئ كدم الملائكة. ويستمر هذا الشجن الكربلائي يملأ أيامنا : نحسّه فائحاً من الأغاني، ودخان القرى، من ترابها الحار، وأنين أنهارها الكئيبة.

وكان للإذاعة أيضاً دورها في إشاعة جو الفجيعة هذا . كان صوت عبد الزهرة الكعبي وهو يقرأ بصوته الشجي فصولا مـن مقتـل الحسين يملأ قـلوبنا وأرواحنا بأصداء ذلك المأتـم المروّع .

في هذه البيئة المجبولة حجارتها بالحبر والدم والماء تفتحت ذاكرتي ، ومن أيامها الطافحة بالأسى، تشبع جسدي ووجداني وقصائدي. إن نهراً من الشجن كان يندفع إلىّ، وما يزال، من نواح كلكامش على أنكيدو ، ومن مأساة كربلاء المتجددة، ومن أنين شعب كامل تتعرض حياته وحضارته وأغانيه وأنهاره إلى الهلاك.

لا يمكن للشعر إلا أن يكون قرين المأساة، وابنها الجميل دائماً. لا أظن أن الفرح يمكن أن يكون حافزاً لكتابة شعرية حقة؛ ويبدو لي أن الشعوب السعيدة لا تكتب شعراً ؛ فالفرح أو السعادة حياتيان، أي أن فائض الإحساس بهما لا يدفع إلا إلى الإنغمار في  الحياة، ولا يستهلك إلا بتفاصيل العيش ، غير أن  الإحساس بالأسى لا يدفع ، في الغالب ، إلآ إلى المخيلة، ولا نجد العون على تحمله إلا عن طريقها فقط .

أحس ، أحياناً ، أن قصائدي مفتوحة دائماً على ريح غائمة، لا تكف عن العويل، ريح تهب من هناك، من ذلك الماضي الممعن في جماله أوعذاباته ، حاملة إلىَّ رائحة أزهار سوداء، وأقماراً تطل على أنهار مهدمة.

 

-11-

 

منذ بداياتي الأولى، كنت حريصاً على تجنب الطرق العامة، أعني الابتعاد عن أصوات الآخرين، أو تقليد تجاربهم. كنت مسكوناً بهذا الهاجس إلى درجة مبالغ فيها ربما، مع أن تحقيق هدف كهذا لم يكن يسيراً عليً ، كما أن طريقة تحقيقه لم تكن واضحة لدي تماماً.

كنت أميل إلى بدر شاكر السياب، وكانت قصائده تأسرني كثيراً، وخاصة صوره الغريزية المتوحشة التي تنم عن مخيلة بالغة التفرد، لكنني كنت أشعر أحياناً أن ما في قصائده من كثافة انفعالية تغدو منهكة إلى حد كبير. أما أدونيس فكان يدهشني بجرأته اللغوية والإيقاعية، وأجد في صوره أصالة وتفرداً كبيرين، إلا أن براعته العالية ودهاءه الشعري يغطيان، أحياناً، على ما تشتمل عليه قصيدته من تصدعات روحية.

ويتميز البياتي، بحيوية قصيدته: إنها مغروسة في تراب الحياة، ومنتزعة من لحمها الحيّ ، وهي كالحياة في تدافعها وعباراتها اليومية التي لا تنم عن مكر شعري عال، أو مكابدة مضنية في الصقل والتشذيب حتى يبدو أحياناً وكأنه شاعر قصائد متميزة، أكُُثر منه صاحب عالم  شعري متجانس، كالسياب أو أدونيس.

لقد وقع الكثيرون في كمائن هؤلاء الشعراء الثلاثة في فترة من حياتهم الشعرية، الكثير من دواوين سعدي يوسف الأولى، على سبيل المثال، لم تكن تستطيع الإفلات من أجواء البياتي والسياب لغة وإيقاعاً وبناءً. وقد كان الكثيرون من أبناء جيلي والأجيال اللاحقة، مفتونين بأدونيس فتنة كبرى إلا أن تأثيرات السياب والبياتي لم تكن بعيدة عنهم أيضاً، إن قصائد حسب الشيخ جعفر، وسامي مهدي، وفوزي كريم ظلت فواحة بمناخات سيابية وبياتية فترة ليست قصيرة. ولم يستطيع إلا القلة مقاومة سحرهم لغة وصوراً وأفكاراً.

لقد حاولت دائماً أن أكون أنا، ذاتاً وكتابة ، وألا يشاركني في قصيدتي أحد، أن أحنو على تجربتي لغة وبنية وإيقاعاً ، وأن أصونها من التشتت أو الذوبان في هذه الأصوات الكبرى. مع علمي تماماً أنه لأمر شاق أن تكون أنت حقاً في عالم يموج بالأصوات المتشابهة، والنصوص التي تبدو أحياناً وكأنها لا تصدر عن حيرة الروح وتصدعاتها الكبرى، ولا تنم عن لغة جسدية مزدهرة، بل، عن وهم من أوهام الحداثة، أو استثماراً لبلاغة شعرية شائعة.

 

-12-

 

إن صلتي بالقصيدة، لم تتوقف عند كتابتها فقط ، بل تجاوزت ذلك ومنذ بداياتي الأولى، إلى مواجهة ما تثيره من أسئلة وما تفجرة من حيرة وتأملات. وقد لعبت دراستي الأكاديمية في إنجلترا دوراً أساسياً، في وضعي  وجهاً لوجه أمام المغامرة النقدية الحديثة.

لا شك أن في إهاب كل شاعر ناقداً كامناً، إلا أن هذا الناقد بالقوة لا يفصح عن ذاته، كناقد فعلي، إلا في فترات محددة تلي لحظة الاستغراق في الكتابة غالباً.

وكثيراً ما كنت أُسأل ، في الحوارات الصحفية ، عن طبيعة هذا التجاور القلق ومغزاه في الذات الواحدة، وكي أكون صادقاً، فإن هذا الشرخ لم يكن مبعثاً للراحة ، بالنسبة لي ، في يوم ما. إنه مولد للأسئلة المقلقة دائماً، فاجتماع هاتين الملَكتين يمثل، كما يقول رينيه ويليك، وجهاً من وجوه الصراع الداخلي بين الغريزة والعقل. وهكذا يجد الشاعر الناقد نفسه ملتقى حركتين متضادتين في ذات الوقت، حركة تتجه إلى الآخر، وحركة تتجه إلى الذات، نشاط يركب ويبني ويحلم ويهيم، وآخر يفكك ويحلل ويستقصي وهو في منتهي صحوه الحسي والمعرفي.

وقد كنت أقول على الدوام، إنني أسعى إلى أن أظل شاعراً يكتب النقد لا ناقداً يمارس كتابة الشعر. ولم أكن أخلو من ذلك التوجس المقلق جراء هذا النشاط المزدوج في طبيعته ووسائله . ثمة خوف مكتوم يملأ عظامي كلها : أن تفلت مني خيوط ذلك التوازن المرتبك الذي يحكم العلاقة بين هاتين اللحظتين المختلفتين، الشعر والنقد . وكنت أقاوم، في نفسي وكتاباتي، ذلك الاحتمال الكريه الذي أشار إليه اليوت: أن يدافع الشاعر الناقد عن نمط الشعر الذي يكتبه.

كنت أخشى أن تجني إحدى هاتين الملَكـتين على الأخرى، إذ إن تضخم الذات الناقدة قد يحول قصائد الشاعر إلى كتابة عقلانية، تعج بالأفكار، فتضمر فيها حرقة الجسد، ووهج الحلم . وفي الحالة الأخرى قد يتحول النقد الذي يكتبه الشاعر، إلى انطباعات تأثرية سائبة، لا يحدها منهج، ولا يمنع انفلاتها قوة المعرفة أو حيوية الأداء.

لذلك كنت ألوذ دائماً بالماء هرباً من اليابسة ، كنت ألجأ إلى ماء النصوص ولغتها الفياضة محتمياً بها من يباس البحث، أتحصن بغيم المخيلة وضبابها المفعم بالإيحاءات ، لكي لا تتفتـت كثافة النار أو تخبو وردتها الساطعة..