مغنية الفرح الحزين 

ينتشلني صوتها من لحظتي الراهنة، وكأنه جوقة من الطيور الثملة، تصعد بي عائدة إلى أول الينابيع، كانت فيروز تلفّ لبنان كله بالمحبة والفرح، وتشد الجبال إلى بعضها بعضا بالرحمة والضباب. كنا ثلاثة: الدكتور نديم نعيمة، والشاعر فؤاد رفقة، وأنا، متجهين عام 1973، إلى قرية بسكنتا، حيث يقيم الأديب الكبير ميخائيل نعيمة.
حين وصلنا إلى هناك أحسستُ بقشعريرة من نوعٍ خاص، فالمكان كله ممسوس بالقداسة الحقة والجلال النادر. كان المساء في بدايته، وفيروز تمد صوتها سريرا من الضوء الخالد وحنين الفراشات، وكان الممتع العميق، ميخائيل نعيمة، متوّجا بأعوامه الثمانين، يجلس على كرسـيّه المصنوع من أشجار الجنة.
هكذا، ومنذ تلك اللحظة، وفيروز، عندي، هي هي دائما. خميرةُ الجمال في هذا الكون، وأكثر مصادر عذوبته نقاء. طفولة يانعة تتمدد ملء الزمان المكان حتى تترك على كل منهما لمستها الخاصة ونبرتها التي لا تليق بأحد سواها.
يكاد الصباح أن يكون حكرا على صوت فيروز وحدها. إنه مملكتها الربانية الصافية، أو ممرها الذاهب إلى الأعالي التي لا تعرف النهايات. تحمل فيروز صباحات الله وتدور بها على الناس، توزعها حميمة كأرغفة الأمهات وصافية كدمعة الفرح، على الأطفال والمقهورين وأغنياء الروح. تدخل بها خفيفة مثل نسمة إلى القرى العريانة في البرد، والوديان المنقوعة بالضباب وأنين النايات.
يخيّل لي، أولنا جميعا ربما، أن الصباح لا يأخذ مداه كاملا قبل أن يمر على فيروز، فمن دونها يظل الصباح منقوصا يعوزه النضج والضوء الكافي. وحتى يكون كذلك، أعني حتى ينمو وينضج ويتحول إلى نهار شاسعٍ لا بد له من صوت فيروز، عكازة من الضوء، يتوكأ عليها متجها إلى نهار ما، ومن هناك يذهب صاعدا إلى الله، الجميل، الواسع، النضّاح بالهبات النادرة.
وحتى ننصف هذا الصوت البهيج، القادم من أقاصى البدايات، لا بد من القول إن الأوقات كلها تقريبا طوعُ يديه، وفي مدى قدرته المدهشة. الظهيرة وحدها ربما، ذلك الوقت الذي تبلغ فيه الشمس نضجها الحارق، لا تدخل في مديات فيروز وصوتها المليء باللطف والرحمة، فهذه القطعة من الوقت أقل أجزاء النهار صلة بالفرح وتفتحات الحب وانفعالات الرحيل أو الوداع. بينما لا يمكننا أن نتماهى مع صوتها إلاّ باعتباره هبة ربانية، صباحية حيث تبدأ الحياة، وليلية حيث زمن البوح وانهمار الذكرى. أراد بها الله أن يضفي على ابتكاراته المدهشة جمالا إضافيا: ابتكاراته في المكان والزمان وعواطف البشر.
خذ المكان مثلا، إنه يتثنى أو يلين ويتأوه، مثل صبية في أول الغيث، حين تمر عليه فيروز بصوتها الحافل بالضوء والغريزة الصافية. ومنذ آهتها الأولى، يذهب معها المكان إلى آخر حدود اللوعة، فيستبد به الحنين وتتسرب النشوة إلى جميع مفاصله، فإذا به يستيقظ من رقدته الحجرية ويبدأ بالذوبان والسيولة العذبة. ينادي أجزاءه ومكوناته فتقبل جميعها كقطعان منتشية تترنّح من فرط السكر.
صوت فيروز يظل طفلا على الدوام، يوزع الفرح على الفصول جميعا، ولا يعرف إلاّ العبث الجميل، وبراءة الكائنات. كما أن اللافت في أغنياتها، أنها مناخٌ لاندماج الناس في فعل المحبة التي لا يشوبها الكدر أو التحاسد، فهم ليسوا وشاة أو عـذالا أو شامتين، كما في الكثير من أغانينا العربية، بل هم شـهود على وفاء المحبين، أو تقلباتهم، أو مقاومتهم للنسيان.
هكذا تحرك فيروز مهجة هذا الكون، فتبث فيه الشجن الشفيف واللوعة الريانة المباركة، من خلال بُحّـتها لمجرحة المشوبة بالفرح الحزين والحيرة البيضاء، يبدأ الجسد في التعرف على مخبآته الأولى، وطيشه الأول، على أسراره الصغيرة وعثراته القابلة للتكرار. وبذلك يربي صوت فيروز أجسادنا، منذ طفولتها، على الوجع المرهف الخالص من اللؤم والفجاجة. من بُحّـتها المنداة تلك تأخذ الرغبات طريقها، مثل عشبة تتلوى في هواء حنون، إلى تجربة تظل في طورها الأول دائما، نضاحة بدهشة الطفولة، والخوف المعافى، بالاستمتاع البريء، والفرح الذي لا يعرف الاكتمال.