ثقافة الموقف وثقافة الذاكرة 

في نقطة بعيدة في الزمان، ربما في أول الصبا، أو في أول أيام التفتح على القراءة تحديدا. علقت في الذاكرة عبارة لا تزال تحتفظ بدلالة فريدة، بالنسبة إليّ، حتى هذه اللحظة. ربما لم أتوقف كثيرا، أو كما ينبغي، أمام تلك العبارة آنذاك. لكنني سرعان ما أدركت أنها عبارة ذات جاذبية، عبارة تصلح للرجوع إليها، أو تصلح مفتاحا لخزين من القراءات المقبلة، دون أن أتساءل لحظتها عن مكمن الجاذبية فيها.
كان كاتب العبارة، وقد نسيت اسمه استجابة لوصيته، يتحدث عن مفهوم الثقافة؛ وفرة من التعريفات المتشابكة، تعجز عن احتضانها ذاكرة صبيّ، مقبل على التعلم بحماسة لافتة وفي عجلة من أمره. وبعد أن يورد الكاتب الكثير من التعريفات لذلك المفهوم المثير للجدل، واختلاف الآراء فيه، يتوقف أمام تعريف بذاته لكلمة ثقافة: هي ما يتبقى في نفسك بعد أن تنسى كل شيء. قد لا تكون تلك العبارة، في جسدها اللغويّ، كما أوردتها الآن تماما، فقد جرت مياه غزيرة على مدرج الذاكرة، وضعفت قدرة الحصى على تذكر أقدام المارة.
والعبارة ليست مبهمة ولا تعقيد فيها، لكنها تمتلك دقة صافية وصلبة كالفولاذ، وتزداد مع الأيام وجاهة ووضوحا، فهي وصف لنمطين متنافرين من الثقافة لكنهما يتجليان بوضوح مؤلم في ازدواجية الكثيرين منا: ثقافة الجمع والتراكم حيث تتجاور المعلومات والمفاهيم وتزدحم وتتراصّ لكنها تظل ساكنة، ومغلقة على ذاتها. لا تنفعل ولا تتفاعل، لكنها جاهزة للمثول عند الحاجة، قاطعة طريقها من الذاكرة إلى طرف اللسان بخفة نادرة، وكأنها وهجُ اللغة أو عطرها المثير للحواس.
أما النمط الثاني فتمثله ثقافة أخرى، حيث تأخذ المعلومة، أو الفكرة طريقها، لا إلى الذاكرة هذا المخزن الأزليّ لنوادر الكلام ومفرقعاته، بل إلى أغوار النفس حتى تنضمّ إلى مصهر الضمير والعقل والجسد، لتواصل اصطراعها وغليانها حدّ الاختمار، ولتندرج بعد ذلك محركا من محركات الفعل المغيّر الناصع، وجزءا من مضامينه وموجهات حركته.
في هذه الحالة تنزاح الثقافة عن كونها ركاما من المحفوظات أو المقولات أو الاقتباسات المجردة التي تنشط، لدى المثقف أو المبدع، على مستوى اللغة لتلميع سجالاته وتغذية نزوعه إلى استعراض الذات. بل تتحول إلى شبكة خلاقة ومترابطة من الأفعال والتصورات والرؤى المتناغمة، التي تضيء حياة البشر وتحررها من الوهم والجهل والخرافة وتشعل فيهم الحنين إلى الضوء والجمال والمحبة.
كيف نحكم على المثقف وهو يتنكر، في لحظة واحدة، لكل ما رطن به من مصطلحات كبيرة كالحداثة وما بعد الحداثة والبنيوية وما بعدها ودراسات التابع وأدب ما بعد الكولونيالية… كيف نقيس مساحات انتمائه للجمال والرحمة بينما نراه يأخذ مكانا لا يليق به في اصطفافات عرقية أو طائفية مقيتة وشديدة الضيق. كما أن المبدع سيجد نفسه في هذه الحالة في دائرة من التناقض الحاد مع الذات في تطلعاتها الكبرى، مع منجزه الإبداعي في انحيازه إلى الجمال، ومع ضميره في احتفائه بالإنسان الأعزل المغلوب على أمره وعلى مصيره.
الثقافة التراكمية تأخذ صاحبها، حتما وبالضرورة، إلى الانفصام والتشظي، في مواقفه وتوجهاته، وتنتهي به إلى التناقض والتضاد بين ما يقوله اليوم وما يرتجله غدا. بين ما تشير إليه بوصلة الرؤى وتجليات الفعل الإبداعي وما تقرره إكراهات الانحياز إلى الطائفة أو العرق أو القبيلة. وهكذا، يتطاير ركام تلك القراءات كالقشّ، فيظهر هذا المثقف أو الشاعر على حقيقته، مراهنا على الظلام، ومتفانيا في الدفاع عن انتماءاته الممعنة في الصغر والرثاثة.