دوافع الكتابة الشعرية 

                                                                                       
كيف تنبثقالقصيدة، هذه اللحظة اللغوية والنفسية والوجدانية الخاصة؟ وكيف تتشكل في ذلك المتاه السريّ الحافل بالظلمة والنداءات والمفاجآت؟ وهل لمكانٍ ما قدرةٌ على استدراج القصيدة أكثر من سواه؟ ومن الذي يختار لحظة اندفاع الطوفان، أواندلاع الشرر من حجرين يابسين؟
 لا شك في أن للشاعر دوافعه لكتابة القصيدة. كما أن للقصيدة، أحياناً، أوقاتها السرية الخاصة، التي تُقبل فيها وهي لينةٌ ريانةٌ مثقلةٌ بالملذات. أما إذا تصيّدها الشاعر في غير هذا الوقت، أوخارج هذه اللحظات، فلا يعود من محاولته، في الغالب، إلا بكفين فارغتين، أومخيلةٍ لا تقوى على التحليق. ألم يقل الفرزدق، ذات يوم: يمرّ عليّ زمانٌ وقلعُ ضرسٍ من أضراسي أهونُ عليّ من أن أقول بيتاً واحداً؟
هذا بعضٌ يسيرٌ مما كان يخبرنا به شعراؤنا القدامى، بعد أن يعودوا من مطارداتهم للقصيدة، أوانتظارهم لمرورها المشكوك فيه .
وحين نبحث في استعدادت الشاعر لكتابة قصيدته الجديدة، فقد لا تكون من حصيلةٍ لهذا المسعى أكثر من خيبةٍ محققة. إن الشعراء ليسوا واحداً، وما يصدق على  شاعرٍ بذاته قد لا يتّفق ومزاجَ شاعرٍ آخر. كان محمود درويش، مثلاً، يتحدث عن بعض ما ينصبه من كمائن للايقاع بالقصيدة. لون الحبر، أو لون الورق، أولحظة الكتابة. بينما كانت قصيدة نزار قباني تشقّ طريقها اليه وسط المحيطين به في أمسياته الشعرية أو جلساته الاجتماعية، أو لقاءاته الأشد خصوصية.
وللشاعر والناقد البريطاني سي. دي. لويس، طريقته الخاصة في استدراج القصيدة : كانت لحظته الشعرية لا تكتمل إلا حين يقود سيارته على مهلٍ وتحت الأمطار، مخترقاً مقاطعة “دفون” وغاباتها المرتجفة من البرد، تاركاً ماسحتي الزجاج الأماميّتين تتلاعبانِ،في إيقاعٍ بطيءٍ، بمشهد الطبيعة الهائجة أمامه: تارةً تتركانها تغرق في غشاوةٍ من النشوة والرذاذ، وتارة أخرى تمسحان زجاج السيارة فتعيدان تلك الطبيعة المتموجة الى نصاعتها الأولى.
قد نجد من الشعراء من يكتب قصيدته، هكذا، كما يعد فنجان قهوته على عجلٍ، أويلتقي أصدقاءه في مقهى  مجاور. وهناك من لا ينتهي من كتابة القصيدة إلاّ بحصيلةٍ من الرضوض التي تطال يقظته ونومه .  
هذا بعضٌ من طقوس القصيدة في التمنّع  أوالطاعة .
فما دوافع كتابتها؟
تختلف دوافع الشعراء اختلافهم في الذوات والانتماءات، فالدافع الشعريّ لا يأتي مبرأً من الغرض، لا يأتي خالصاً لوجه الجمال دائماً. فقد يكتب شاعرٌ ما قصيدته تماهياً مع مكانٍ أوقضية. وقد يكتبها وعيناه على مكافأةٍ مجزية، وقد تكون القصيدة تضرّعاً الى جمالٍ إنسانيّ خالص، وربما تسجل القصيدة  طموح الشاعر الى وجاهةٍ اجتماعيةٍ أو شهرةٍ مبتغاة .
كان الشعراء، قديماً، كما هم اليوم، لا يتطابقون في دوافعهم أوغاياتهم. وكان لبعض الكبار منهم ميدانٌ مخصوصٌ في الحكمة أو الفروسية، أوالخمرة،أوالنساء، يصدرون عنه فيبلغون أقصى تجلياتهم في المعاني الفريدة أو البلاغة الشرود. ألم يربط  الرواة بين  الشاعر ومضمار تفرّده: امرؤ القيس إذاركب، وزهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا شرب..؟
قد تكون جائزة القصيدة بلوغها مرمى النفس، وإزاحة الستار عما فيها من أملٍ عصيّ على الاندثار، أواستغاثةٍ  مكبوتة. وقد تكون في انتصارها للضحية العزلاء وهي تواجه جلاداً لا رادع له.لكنّ الجوهر الأهـمّ، في كل ذلك، أن تتحوّل كلّ خبرةٍ واقعية الى لحظةٍ شعريةٍ تتمرد على الطاريء، والوثائقيّ، والظرفيّ، بعد أن يتشرّبها الجسد والروح، وتمتزج فيها وحدة الذات بتشظيات العالم.