الشاعر والروائي واللغة 

يبدو لي أن بين الشاعر المحض والروائيّ المحض برزخا كتابيا خالصا، يجعل عبورَ أي منهما إلى مملكة الآخر قضيةً محفوفةً بالصعوبات. وسيكون الأمر أقل تعقيداً ربما إذا كان لهما من القرابة الفنية، أو المشتركات الأسلوبية ما يعينهما على تجاوز هذا الصعيد أو اختراقه، فمن شأن هذا المستوى التقنيّ المشترك أن يتيح لهذه المساحة الفاصلة شفافيةً أكبر، تسمح بالتنافذ والتداخل وتبادل المواقع.
ومع أن الرواية لم تقدم أمثلةً مرموقةً على انتقال الروائي إلى الشعر، فإنها استقبلت تعزيزاتٍ شعريةً شديدة الوفرة جراء انتقال الشاعر إلى الرواية.
ولكن هل ظل للشعر أو للرواية، في زمن التنافذ وتبادل الملامح والتأثيرات، ما يعدُّ نقاءً جنسياً خالصاً أو صفاءً نوعياً شديد الرسوخ؟ وهل يمتلك الحديثُ عن نقاءٍ جنسيٍّ أو نوعيٍّ كهذا وجاهةً كافية؟ لا أظنّ ذلك تماماً، إن غياب النقاء لا يتضادّ بالمطلق مع خصوصية القول الأدبي، كما أنه لا يعني تلاشي الحدود الفاصلة بين فنون القول.
لذلك فإن تداخل هذه الفنون وتشابكها لا ينفيان اشتمال كلّ جنسٍ منها على كثافةٍ نوعيةٍ مهيمنةٍ تعزز خصائصه المميزة، وتؤكد انتماءه إلى ذاته، وتحول دون تلاشيه أو ذوبانه، تماماً، في الآخر.
والسؤال هنا: ما الذي سيحمله الشاعر إلى نصّه الروائيّ؟
يظل الشاعر ابن اللغة، ورضيعها العصيّ على الفطام؛ يوغل في افتتانه بها حدّ القسوة، ويُجلّها حدّ الإشفاق عليها من أن تكون مجردَ وعاءٍ للمعنى، ففي رنين هذا الوعاء يكمن المعنى كله، متلاطماً ومرئياً ومسموعاً، دون أن يفيض شيءٌ من رائحته أو مذاقه على الحوافّ.
حين يكتب الشاعر قصيدته فهو لا يسرع إلى المعنى بل إلى اللغة، يتشرّبها حد الظمأ أو حد الارتواء حتى يستحيل جزءاً من رنينها الصافي، وواحداً من إيماءاتها البعيدة المضبّبة، فهذه اللغة هي معناه الأول ودلالته النهائية.
ونحن لا نخرج من قصيدة الشاعر مدججين بالمعنى، بل نخرج منها وقد مسّنا شيءٌ غير قليل من هذيانه ودفئه وفوضاه، شيءٌ وفيرٌ من سحره الاستعاريّ وسطوته المجازية، لنسترجع بعد ذلك لغته وأشكاله وصوره بطرب داخليّ جارفٍ دون أن نفطن، ولا يهمنا أن نفطن أحياناً، إلى معانٍ مخصوصة يمكن استخلاصها بطريقةٍ عقلانية.
ولهذا السبب أشار الناقد الأميركي روبرت شولتز، في كتابه ” سيمياء النص”، إلى أننا لا نتذكر من قصيدةٍ قرأناها إلا كلماتها وصورها، أما في الرواية فإن الأحداث والشخصيات هي ما يتبقى في الذاكرة.
الشاعر، إذاً، لا يذهب إلى الرواية مجرداً من مفاتنه الشعرية، كما أنه لا يذهب بعدّته منها كاملةً. لا بد من تكييفٍ مّا لتلك العـدّة، لا بد من توظيفها توظيفاً سردياً محكماً. ومع ذلك تظل روايةُ الشاعر عامة، وروايته الأولى بشكلٍ خاصّ، شديدةَ الانتساب إلى مزاجه الشعريّ، حتى تبدو وكأنها، إلى هذا الحد أو ذاك، قصيدته الموسعة مخترَقةً بالسرد، أو سيرته الذاتية متشظيةً على مسارات روائية راسخة.
لذلك كله، فإن رواية الشاعر، في الغالب، لن تحلق بعيداً عن خصاله الأولى: عبارته الخاطفة، مراوغتها للمعنى، أجواؤها الحافلة بمتاهات التأويل، وافتتانها بذاتها أحيانا.
وهكذا، فإنّ ثمة موقفين مختلفين، إلى حدٍ واضحٍ، من اللغة: موقفُ الشاعر وموقفُ الروائيِّ. إن مطلبنا من الروائي، مثلاً، لا يقع على جبهة اللغة، أو من خلال جهده في إشعال فتيلها، وإنْ فعل ذلك فلغرضٍ يتجاوز اللغة ذاتها إلى أثرها في بناء حدثٍ ما أو شخصيةٍ أو مكان.
لا شك في أن السرد الحديث، في مجمله، يتشرّب الآن الكثير من طاقات الشعر وتجلياته التي تطال لغة الرواية وأجواءها، ومع ذلك فإن لغة الكثير من كتّاب الرواية، في المقام الأول، وسطٌ بالغُ الحيوية لاستنهاض المعنى، أوالواقعة السردية، أو لاستكمال الملامح النفسية والجسدية لفاعل الحدث، أما الروائيّ، القادمُ من مخيلة شعريةٍ راسخة، فإن لروايته مذاقاً آخر.