موسم الهجرة إلى الرواية 

كنت محظوظا في زيارتي الأخيرة إلى لندن، إذ أدركتُ فيضا من أمطارها الأخيرة، وكنت محظوظا أكثر حين التقيت بأصدقاء عديدين جمعني بهم عذاب الشعر وفرقتنا المنافي سنوات طويلة. كنت في أمسّ الحاجة الى تلك اللقاءات، فهي زاد لا بد منه، تماما كتذكير الأسماك بالماء. وكنا نجتمع مثلما يجتمع البدو على ما “ظلّ من مطر في الغديرْ”. وبعد أن عدتُ من لندن، كانت الذاكرة تعود إلى شيء من مباهجها الأولى حيث خفقة الذكريات ولذائذ القصيدة. كان أكثر من شاعر من أصدقائي أخبرني أنه انتهى من كتابة روايته الأولى. وبصدق مؤلم كنت أتساءل: هل هو موسم الهجرة إلى الرواية حقا؟
هذا زمن الرواية، عبارة قالها جابر عصفور ذات يوم، في لحظة من لحظات الضجر مما ينشر من شعر خامل أو عديم المعنى. منذ اللحظة تلك أخذ عصفور ينفض يديه من الشعر، ومن البعض من كتّابه ربما، بعد أن بدأ حياته دارسا له، من أكثر مداخله أهمية وعمقا: المفهوم والصورة. ثمّ انتقل بكفاءته النقدية والثقافية إلى جبهة الرواية. وأنا أزعم، هنا، أن فتور علاقته بالشعر هو أقرب إلى فتور المحبّ اليائس، لما في المشهد الشعري نفسه من ممارسات كتابية تفتقر إلى الصدق أو إلى الإتقان أحيانا.
وسرعان ما سرت هذه العبارة، بين النقاد وكتاب الرواية، سريان النار في حقل من القشّ. هل كان جابر عصفور يردّ بتناص نقدي متأخر على كتاب أدونيس: زمن الشعر؟ وكان هذا التناص النقدي في حقيقته حوارا شديد العمق، يحمل في ثناياه موقف جيل مختلف وذائقة مغايرة ورؤيا مضادة أحيانا، من ثقافتنا الشعرية والنقدية، التي كرّست الشعر سيدا على فنون القول جميعا، وجعلت منه سجلا للعاطفة العربية في تموجاتها العامة والخاصة عبر العصور.
وهكذا وصل اللهب إلى أقصى حدود الكلام حول الرواية والشعر في ما يشبه المفاضلة بين هذين الفنين: العراقة التي تمتد وكأنها الأزل إزاء الوافد الغربي الجديد، مقروئية الشعر ونخبويته أحيانا في مقابل رحابة التلقي الروائي، النظر في المرآة مقارنة بالنظر من النافذة.
وهكذا بدأ موسم الهجرة إلى الرواية: الشعراء يخرجون تباعا من صوامعهم المضاءة بالوهم، ويهجرالنقاد والأكاديميون معتكفاتهم المكتظة بالمراجع، والصبر الجميل على مشقة البحث، لينتقلوا إلى تجربة هذا المذاق الآسر: أعني كتابة الرواية. وكان حسين الواد وشكري المبخوت آخر المهاجرين إلى هذه المتاهة الشاسعة.
ومن المؤكد أن لكل وافد جديد دوافعه الجمالية والإنسانية والفكرية. ومع ذلك تظل للتساؤلات الأخرى مبرراتها أيضا: هل الرواية حقا أقرب منالا من القصيدة في بعض الأحيان؟ أهي فعلا أكثر احتمالا لتفاصيل الحياة العامة ورثاثة الهامش أم أن الأمر يتجاوز هذين الاحتمالين إلى ثالث يتصل بالمتعة، أوالربح، أوالشهرة التي تكون من النتائج المتاحة لكتابة الرواية غالبا؟ وأزعم أن ما تحظى به الرواية من حفاوة إعلامية ونقدية واسعة، جائزة البوكر للرواية العربية، جائزة كتارا للرواية، أن لكل ذلك جاذبيته التي لا تنكر.
لا شك في أن أرض الرواية شهدت، من قبل، فؤوسا كثيرة قدِمتْ إليها من حقول شعرية خالصة. سليم بركات وإبراهيم نصر الله، اللذان جمعا بمواظبة حثيثة بين الرواية والشعر، عبدالخالق الركابي، الذي ترك الشعر مبكرا ليكون من أبرز حطابي الغابة المجاورة. وهناك من مارس كتابة الرواية إضافة إلى اشتغاله الجاد بالقضايا الفكرية والنقدية ومكابدات الوجود: الراحلون الكبار جبرا إبراهيم جبرا، عبدالكبيرالخطيبي، ومطاع صفدي مثلا. كان جبرا مثالا شديد النصاعة على هذا الجمع المدهش بين فنون القول، لكنه كان كلما تقدّم صوب اكتماله المخيف أقبل على الرواية بشهوة عميقة، تاركا قصيدة النثر والمقالة النقدية والاهتمامات الفنية لسواه.
لكن تلك الممارسات كانت تقع، في الغالب، ضمن النمو الطبيعي لاندفاعات النهر وتعدد مصباته. ولم تكن كلها التحاقا مفاجئا، أو متأخرا أحيانا، بعالم الرواية غير أن ما نشهده اليوم شيء آخر، إنه ارتحال غير متوقع إلى عالم متوقع، عالم أكثر سعة من عالم الشعر ربما، لكنه أقل من الشعر، حنّوا على الذات وتمرغا بعذابها الدافق.
ومن المؤكد أن هذه الهجرة ستحمل إلى الرواية شيئا من نكهة الوافدين الجدد: شيئا من مراوغة الشعراء للغة، وبعضا من شمائل النقاد والأكاديميين المشوبة بالحذر والرصانة والنزوع إلى الارتياب. ومع كل ما يقال عن الرواية وصعودها الراهن، يظل الشعر أكثر فنون القول لصوقا بهواجس الفرد وعالمه الداخلي الذي يعج بالحنين والتحدي والإحباط.