رشيد ياسين: عنف النقـد وانضباط القصيدة 

ما تناهى إليّ من صورة الشاعر رشيد ياسين، قبل أن أعرفه شخصياً، أنه فارس الجدل المحتدم والمواجهات الأدبية بامتياز، وكان باسلا في الدفاع عن مواقفه في الفكر، والسياسة، والحياة، لكن علاقتي به قربتني من السفح الآخر من الجبل. كان واسع المعرفة بالأدب واللغة. وكان يبدو أحيانا وكأنّه ملتقى حي لشخصيات متناقضةٍ أو متنافرة على الأقل، شخصيات يكون الجمع بينها مدعاة للعجب في أحيان كثيرة: فقد كان شديد الافتتان بذاته، عميق الثقافة، جميل الخط، أنيق المظهر، وبارع الحديث. وفي أحيان كثيرة أخرى، كان عنيفا في التعبير عن وجهة نظره، والدفاع عنها حدّ الشراسة أحيانا.
كان واحدا من شعراء الخمسينات من القرن الماضي ونقادها المعدودين في العراق. وكانت شهرته تستند، إضافة إلى كونه شاعرا، إلى حضوره الشفاهي الحاد، وثقافته العربية والإنكليزية، ونقاشاته المعزّزة، على الدوام، بالمثال والبيّنة وحضور البديهة. وقد يذهب البعض، أحيانا، إلى أن حضوره الثقافيّ كان يفوق منجزه الشعريّ مقارنة بزملائه كالسياب والبياتي، ونازك الملائكة، وبلند الحيدري، ومحمود البريكان.
أمضى رشيد ياسين، معظم حياته ذاتا منفعلة وشديدة القلق، متنقلا من مدينة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر: دمشق، بيروت، صوفيا، بغداد، صنعاء، وأخيرا سانت لوس في أميركا. وقد كلّفه مزاجه القلق العنيف، واعتداده العالي بذاته سنوات طويلة من الترحال والغربة وتحمل الأذى الشخصي والأدبي. توجّهَ إلى صوفيا لإكمال الدكتوراه، ثم أُجْبِرَ على مغادرتها قبل موعد المناقشة بأيام. ولم يعد إليها، لمناقشة رسالته، إلا بعد عشرين عاما، وقد بلغ السادسة والستين من عمره تقريبا.
وكان جزء كبير من مواقف رشيد ياسين الحادة متأتيا من موقفه من الشعر، مفهوما ووظيفة، فقد رأى في البعض مما وصلت إليه القصيدة العربية الحديثة، وهو كثير، ما يتضاد تماما مع ذائقته الشعرية، التي تستند دائما، إلى ثقافة رصينة، ولغة مشرقة، وسلوك بلاغي لا يتسع للعبث أو فوضى التجريب.
ومن جانب آخر، قد نجد في العلاقة بين شعره وشخصيته النقدية والإنسانية ما يثير التساؤل أحيانا. فقصائده كادت أن تخلو، تماما ربما، من فورة العنف والتمرد في شخصيته، وفي مواقفه النقدية أيضا، وكأن تلك الشخصية المنفعلة ظلت بمعزل عن شعره الهادئ، المنضبط، الحريص على ترابط البنية ووضوح الدلالة.
جمعتني برشيد ياسين ذكريات مشتركة، ومواقف لا تنسى.
كان الكثيرون منا، في ستينات القرن الماضي، يحسبون أنفسهم أنصافَ آلهة، وكانت عدتنا من الغرور أكثرَ، ربما، من ذخيرتنا الثقافية أو قسوتنا على النفس. في ذلك الجوّ المحموم أعادني رشيد ياسين، بكلمة قصيرة ثاقبة إلى لحظة ضرورية من التروي، كنت في أمس الحاجة إليها. كان ذلك في مجلة “الموقف الأدبي”، حين كتبَ ردا على مقالة لي في مجلة “الآداب”، وجدها، وهو محق، على شيء من القسوة في حق شاعر، يكبرني عمرا وتجربة، ولا يستحق مني ذلك الموقف. ومن خلال لومه المهذب العميق، علمني رشيد ياسين لذة الندم وقيمة الاعتراف بالتقصير.
وبعد ذلك الموقف، الذي اعتذرَ عنه في سياق جميل لا أنساه، جمعتنا في بغداد السبعينات والثمانينات، زمالة رفيعة، وصداقة ما أزال أتذكر أجواءها بحنين موجع.
عملنا معا، في المؤسسة العامة للسينما والمسرح أولا، ثم في مديرية الشؤون الثقافية العامة ثانيا. كان مستشارا للتحرير في مجلة “آفاق عربية”، بينما كنت رئيسا لتحرير مجلة “الأقلام” حتى مغادرتي إلى صنعاء عام 1991. وفي جامعة صنعاء، التقينا مجددا في عام 1997. لم تطل لقاءاتنا كثيرا، بل كانت قليلة وخاطفة، وكأنها تلويحة الوداع. فقد كان كلانا مقبلا على بداية جديدة: كنت على وشك المغادرة للالتحاق بعملي الجديد في جامعة الإمارات، وكان رشيد ياسين يعد نفسه للتدريس في جامعة صنعاء، بعد أن بذل الشاعراليمنيّ المعروف عبدالعزيز المقالح، مدير الجامعة آنذاك، جهدا كبيرا لإتمام التعاقد معه.
قبل مغادرتي جامعة صنعاء، حرصت على أن يدرك طلبة الدراسات العليا أهمية رشيد ياسين، وأن يتعرفوا على الدور الذي لعبه في فترة النهوض الشعري، الذي قام به الشعراء الرواد في العراق. كان عليّ فعلُ ذلك، بدافع تربويّ وأخلاقي أيضا، فقد اكتشفتُ أن هناك هوّة ما كانت تفصل بينه وبين هذا الجيل الجديد من الطلبة، كما اكتشفت أن رشيد ياسين نفسه، بشخصيته العصيّة على الترويض ومزاجه القابل للاشتعال في أي لحظة، لم يكن مستعدا لإعادة النظر في البعض من مسلماته الثقافية والنقدية، التي بدتْ وكأنها تعمل خارج فاعلية المشهد الشعري والنقدي الراهن على حد السواء.
ولم يكن خبر رحيل رشيد ياسين، حين بلغني وأنا في جامعة الإمارات، حدثا عاديا. لقد أحسست أن غيابه كان فجيعة شخصية بكل المعاني، وأن جزءا من تطورنا الشعري، بسردياته ومباهجه ومكابداته، قد اختفى إلى الأبد.