مجلتان عصيتان على النسيان 

حين عصفت ريح القصيدة العربية الجديدة، امتلأ الجو بالرعد والوعود والفوضى. وما كان لذلك المناخ الشعريّ أن يظلّ محتدما بالجدل الذي يرتطم ببعضه البعض، والنصوص التي تتعاكس في خياراتها الفنية، لولا بعض العوامل التي أرسلتْ إليه بالمزيد من الوهج والقوة.
كان ثمة مجلتان في منتهى الحيوية، تقاسمتا حيوية النهوض الشعريّ والأدبيّ في منتصف القرن الماضي، وكان لكلّ منهما ما يجعلها راسخة في ترابها الخاص: مجلة “الآداب” ومجلة “شعر”.
كان سهيل إدريس، قد قفز فجأة من عمامة الفقيه وجُبّـته ذاهبا إلى السوربون ليعود منها بحلم بالغ الخضرة. كان يتقدم جمعا من الحطابين ليبني شجرته المهيبة: مجلة “الآداب”. ولأنه كان روائيا وكاتب قصة قصيرة ومهموما بالواقع العربيّ والفكر القوميّ، فقد اختار اسما واسع الدلالة ومتنوع المسارات لمجلته الجديدة. لذلك لم يكن للتجريب ومغامراته المفتونة بذاتها أحيانا نصيب وافر من صفحاتها. فكان ما تنشره “الآداب”، مجلة ودارا للنشر، يصبّ في هذا التوجّه القوميّ والمنحى الواقعيّ الصاعد نحو حداثة شعرية وفكرية محسوبة بعناية. وكانت ترجمتها الأدب الوجودي والفلسفة الوجودية من أكثر النوافذ التي فتحت على العالم إثارة وعمقا.
وهكذا كانت مجلة “الآداب” تصغي بشكل صارخٍ أحيانا لتصدّعـات واقعنا العربي وتطلعاته. وكانت تحتفي، من خلال ما تنشره من أدب ونقد ومقالات فكرية، بالأحلام القومية الكبرى دون أن تنتبه، أحيانا، إلى ما يداخل تلك الأحلام من مغالاة قاربت الوهم وواقعية مسرفة في التعامل مع الحياة. كانت قصيدة التفعيلة خيارها الشعريّ الأوّل لشعرائها: السياب، البياتي، نازك، سعدي يوسف، نزار قباني، حجازي، خليل حاوي، صلاح عبدالصبور، بلند الحيدري، فدوى طوقان، وسلمى الجيوسي.
لم تشكل مجلة “الآداب” مدرسة أو اتجاها فنيا، إلا أنها خاضت سجالاتٍ ضارية دفاعا عن تمسكها بالتراث من جهة، والتزاما بقضايا الواقع العربي من جهة أخرى. لقد وقفت، مثلا، على الضد من قصيدة النثر، وربما كان محمد الماغوط استثناءها الوحيد، عبر تاريخها كله. وصار النشر على صفحاتها يمثل اعترافا شعريّا لا بد منه.
ورغم موتها السريريّ الواضح منذ فترةٍ ليست قصيرة، استمرت مجلة “الآداب” في صدورها الورقيّ المتعثر، حتى تحولت إلى النشر الإلكترونيّ بدءا من العام 2012، وظلّ أرشيفها الضخم شـهـادة ناصعة على الدور الكبير الذي لعبته.
وفي المقابل كانت مجلة “شعر” (1957) ابنة مزاجٍ شعري مختلف تماما. كانت ترى أن الهواء كله لا يجيب عن أسئلتها الحارة، ولا يتسع لفوضاها المخلخلة لنظام الأشياء، وهوسها بالجمال المبرأ من أي وظيفة يمليها الخارج على الذات الشاعرة. وكانت سجالاتها تتصل بالجوهر الذي هو محط الاختلاف في قضية الشعر: محتوى القول وكيفيته.
لم يكن أمام قطبيها البارزين، يوسف الخال وأدونيس، على ما يبدو، إلا مواجهة قَـدَر التسمية. كان اسم المجلة “شعر”، وليس “الشعر”: اسـمٌ لا يتجه إلى الشائع والمعروف، والمتفق عليه من شعر، بل إلى الغريب والمجهول والمثير للخلاف. ورغـم أن الشاعرين كليهما، تقريبا، قد أقبلا من حاضنة إيقاعية، لكنهما أسسا من خلال هذه المجلة، لشعرية جديدة، تقوم خارج الوزن الشعري من جهة، وتربك العلاقة الموروثة بين الشعر ومحيطه ومفهومه من جهة أخرى.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن أثر مجلة “شعر”، تقانة ورؤيا، كان يزداد وضوحا حتى في المنجز الشعري للبعض ممن كان لا يتفق تماما مع المنطلقات الفكرية للمجلة. إن شاعرا راسخا مثل السياب، مثلا، لم يكنْ ليحقق انتقالته الرؤيوية الثانية قبل التعرّف على المنطلقات الفنية لهذه المجلة، بالتزامن مع تعرفه على عالم الأسطورة ومدياتها المدهشة.
كانت مجلة “شعر” تحتفي بالقصيدة الجديدة غير المرتهنة لقضية خارجية أو رهان جماليّ موروث، وكان سعيها واضحا إلى تفجير الشكل الشعري التقليدي، كما يقول كمال خير بك، في أطروحته المتميزة عن تجمع مجلة شعر. وهكذا كانت حاضنة كبرى لقصيدة النثر، ومضمارا لمعظم شعرائها: محمد الماغوط، أنسي الحاج، أدونيس، شوقي أبوشقرا، توفيق صائغ، فؤاد رفقة، جبرا إبراهيم جبرا، ونذير العظمة.
وإذا كانت مجلة الآداب قد ناضلت من أجل أدب ملتزم، فإن خلق حساسية شعرية جديدة تماما كان الهدف الأساس لمجلة “شعر”. غير أن حماسها العالي قد دفع بحلمها الشعريّ، ربما، إلى الارتطام بواقعٍ متلاطم وشديد الارتباك. وإذا كانت هذه التجربة قد انفرطت كمشروعٍ جماعي، فإنها استمرت من خلال مواهب شعرية فردية مؤثرة.
توقفت مجلة “شعر” عام 1964 ثم عاودت الصدور ثانية في 1967، لكنها عودة لم تدم طويلا، وكأنّها انبثاقة الغريق وهو يلوّح لليابسة تلويحته الأخيرة.