شيء عن الشعوب السعيدة 

لماذا نحسّ، نحن العراقيين تحديدا، أو البعض ممن جرّب السفر منا على الأقل بنوع من الأسى الخفي أو الحسرة التي تقبل كالغيم من جهات شتّى، كلما عدنا من رحلة ممتعة أمضيناها في الخارج.
كثيرا ما كان يراودني هذا السؤال الذي لا أملك له دفعا. ولست أدري على وجه الدقّة إن كان ما أتحدّث عنه ينمّ عن تجربة شخصية أم أنه إحساس عام جرّبه الكثيرون غيري. وكنت أجد نفسي في مواجهة المزيد من الأسئلة المشابهة:
– أيحصل هذا لأن البعض منا لا يجيد الاستمتاع بوقته كما ينبغي؟ فبدلا من أن يعيش اللحظة التي هو فيها حرّا وخفيفا من الأعباء والمشاعر السلبية، نراه “يحمّل يومه هـمّ غده”، كما يقول الإمام علي.
– أم لأن سفرا كهذا، ممتعا أو مفرطا في غزارته، يفتح الباب واسعا على المقارنة المؤلمة: لماذا نحن فقط ورثة هذا القحط كله؟ إلى متى ونحن حَمَلَةُ هذا الحنين الذي لا يهدأ إلى متعة البصر ونشوة الروح؟
– لماذا لا يكون حقنا في حياة كريمة وجميلة وحرة إلا حلما شعريا، لا يتنفس إلا في اللغة ولا يعيش إلا فيها؟
– ألسنا جديرين، كأي شعب آخر، ببلد جميل وحياة عادلة أو أقل قبحا على الأقل؟
هذه الأسئلة الهادمة للمسرّات لا تترك في أرواحنا شيئا من متعة السفر ومن مباهجه البريئة. وليت الأمر اقتصر على أسئلة ما بعد السفر، التي تفتك بالذكرى عادة وتفتّت نسيج اللحظات الماضية. إن الأكثر إيلاما من ذلك، أننا نستسلم أحيانا لدبيب المنغّصات لنفسد على أنفسنا لحظة التواصل الجمالي مع الحياة، وهي تتموّج أمامنا في تدفقها البهيج الصافي.
في قرية نمساوية بالغة الجمال على جبال الآلب تدعى “ماريّا آلـمْ”، يحظى السياح، كل أسبوع تقريبا، برحلة تأخذهم إلى منطقة للنزهة والتزحلق في قمة جبلية مدهشة.
كان الطريق الشاهق الطويل والصاعد إلى القمم الثلجية النائية، يستدعي تغيير التلفريك في ثلاث محطات. وعند المحطة الأخيرة تغرق البيئة الخارجية في مزيجٍ من شتاء كثيف وجمال محيّر. وفي ذلك المكان تلتقي السماء بالأرض في لحظة مكانية نادرة وتغيّب الحدود بينهما في بياض ثلجي شاسع لا نهاية له.
كان السائح يحسُ، في ذلك المكان القصي، المغمور بالثلج وضباب الجبال والبرد العالي، وكأن كل شيء يذوب في ليل خاص، شفيف أبيض ولاسع البرودة يكاد فيه حتى الحديث بين اثنين، أن يتجمّد في منتصف المسافة بينهما. وللمفارقة المدهشة فإن السائح يمكنه أن يرقب ذلك الصقيع كله إذا أراد، وهو غارق حـدّ النشوة في دفء هذه المحطة المعلّقة على الذرى البعيدة، والتي فيها من وسائل الراحة ما يفوق التوقع.
ولا بد للسائح، إذا كان عراقيا خصوصا، وفي حضرة جمال فائق كهذا، أن يستدعي ميراثه من الأسئلة المؤلمة: كيف تسنى لهذه السلطات الساهرة على شعوبها أن تقدم كل هذه الخدمات في منطقة شاهقة كهذه؟ كيف حوّلت هذه الطبيعة الوعرة النائية إلى مكان يحفل بكل هذا الفرح والجمال، بينما مدننا الكبيرة وحتى العاصمة نفسها، تغرق في الوحل والخوف والفاقة وتفتقر إلى أدنى ما تحظى به الشعوب السعيدة من خدمات.
يبدو أن حرمان الإنسان العراقي طويلا من تجربة الدولة المدنية ونعمها الكثيرة، يجعله قابلا للانكسار أمام جمال العالم، ويحوّل متعته بتلك اللحظات النادرة في الغالب إلى مشهد جارح للفرح ومعذّب للذات.