كلمات عن قصيدة الطفـل 

ثمة هوة كبيرة، كما يبدو، تفصل بين واقعين لشعرالأطفال، يكون شاعر الأطفال، في الواقع الأول، رجلا مكتهل الروح يكتب عن الطفل، ويتحدث عنه لا إليه. يكتب للطفل استنادا إلى معرفة عقلية بالحياة والعالم لا غبار عليها، لكنها معرفة تفتقر إلى تلك الخفقة الوجدانية، وذلك الدفء الحسي الصافي.
أما الواقع الثاني، فيتمثل في شاعر لم يفارق طفولته لحظة واحدة. لا يكتب عن الطفل، بل يتحدث إليه كطفل مثله، يشاركه عبثه البريء، وقلبه المفعم بالطرب. ويمتلك، مثله، عينينِ تأكلان كلّ شيء تريانه من فرط الدهشة، وشدة الإقبال على الحياة.
إن الطفل كائن حسي، يغريه النظر إلى العالم والغرق في تفاصيله: يفتنه ملمس الحجر البارد، وتهشـم الريحِ على السياج. يشدهـه عن نفسه منظر حيوان وحيد، أو طائر يقاتل طائرا آخر دونما سبب. تغمره الدهشة لمطر يسقط لأول مرة. أو ضيف يستقبل بحفاوة ولم يكن قـد رآه من قبل.
ولأن الطفل كذلك، فعلى الشاعر أن يكون، كهذا الطفل تماما، كائنا يقبل على العالم بحواسه البيضاء المتقدة: يقوده جسد طري وخفيف كالفرح، ويعصف به فضول شديد وافتتان بتجربة كل ما يقع في مدى حواسه.
يحرك الطفل فرح بالحياة ورغبة في التورط فيها، فهو في منأى عن ضريبة الوعي الذي يقودنا إلى رصانة هي أقرب إلى الشيخوخة المبكرة، كما أن لسخريته المتدفقة والقريبة إلى النفس، قدرة عجيبة على استدراجنا إلى حياة أكثر اكتظاظا بالجمال والبراءة.
وربما كانت الكتابة للطفل من أكثر فنون الكتابة صعوبة. مسؤولية خطيرة وشاقة. غير أن بعض المتورطين فيها لا يلتفتون إلى ذلك الأمر إطلاقا، فهم يمارسون هذا النمط الخاصّ من الكتابة باسترخاء يشبه الإهمال أحيانا. لا يأبهون كثيرا لطاقة الطفل الخيالية الجياشة، لأن ذلك ما يفسد عليهم هذه النزهة، ناسين أن من أولى المهمات المترتبة على شاعر الأطفال هو أن يحترم مخيلة هذا المتلقي الصغير، فائق الحساسية، وأن يرتفع إلى ما فيها من خصب وشيطنة محببة.
إن الكثير مما تضج به الحياة من تجارب ومواقف وأفكار وانفعالات، وما يحفل به المجتمع من قيم وسلوكيات، وما تفيض به الطبيعةُ من نِعَـم أو رعونة، ومن كائنات وتقلبات. إن كل ذلك حقل متاح لكل ريح هابّة. غير أن تقديم أيّ منها وجبة شعرية للطفل يستدعي، قبل كل شيء، العثورَ على نقطة تماس شعرية قابلة للاشتعال.
لا يمكن للشاعر أن يخدع الطفل بالحكمة المجردة، أو العمل الفاضل بالشجاعة أو الكرم إذا جاءه أي منهما على شكل فكرة ذهنية باردة، أو مشهد فقير: لا تلقائية الحياة، ولا جاذبية اللغة، ولا حيوية المحسوس. إن الكتابة للطفل بلغة مكتهلة وروح مليئة بالمشاعر السلبية، تخييب لمخيلة الطفل ومجافاة لإشراقة روحه.
ولأن الطفل يستثقل النصيحة إذا افتقرت إلى خفّة البيان، فإنه لا يجد نفسه مضطرا إلى العمل بها، كما أن نفوره من البطولات المفتعلة والشخصيات ثقيلة الدم، يجعله كائنا سريع الملل، متقلب المزاج، ولا يدوم على حال.
على شاعر الأطفال أن يأخذ كل ذلك في الحسبان فلا يستهين بذكاء الطفل أو تحفّزه الخيالي أو إقباله على الحياة، فهو قارئ مرهف ومشاهد ملول ومتأمل شديد الحذر لا يخدع بسهولة كما يظن الكثيرون. قد لا يجيد الإفصاح عن مواقفه إزاء ما يقرأ، لكن ردود أفعاله شديدة الذكاء، بل شديدة المكر أحيانا.