شعرية الرواية أم شاعريتها 

قراءة الرواية متعة كبرى، لكنها لا تكون كذلك دائما، فقد تكون عبئا، يورث الندم على ما أهدرنا من وقت وما ارتكبنا من خطأ في الاختيار، وقد تكون التجربة سارة. حالتان كثيرا ما نصادفهما، ونحن تقرأ نصّا روائيا. قد نقرأ النصّ بنشوة متصلة اتصال الرواية لغة وموضوعا وشخصيات وتقنية ورؤيا. وقد نجد في قراءة الرواية، مشقة واضحة، فنكثر الانسلال منها، كما ينسلّ لصّ من غارة مخفقة، وقد نعود إليها ولكن بتثاقل أكبر.
والسبب في هذا الاختلاف لا يقع بعيدا عن كاتب النص. موهبة الأول، وعيه للعبة الكتابة، إحساسه العالي باللغة، شغفه بالجديد وغير المتوقع من المواقف والحبكات وأسلوب التعبير. فهو يجدد روح التلقّي ونشوة القراءة وكأنه خالق للحيرات والجاذبية والانعطافات المباغتة. لأن منجزه الروائي يتوفر على شعرية عالية، على تلك الخصائص التي تحقق أدبية النص، وترتفع به إلى مستوى جمالي استثنائي.
أما الآخر فهو الروائي التقليدي، السائر في الطريق المحفوظة عن ظهر قلب. لا شيء يهز كيان القارئ، أو يخالف المقدور عليه من مألوف السير الخطي للأحداث، ولا لغة تحفل بالانزياحات. قد تكون في نصه شاعرية واضحة، لكنه يفتقر إلى الشعرية، والفرق واضح بين الصفتين.
فالشعرية، كما أشرت، هي ما يرفع أدبيةَ نص ما، مكتوبا أو مسموعا، أو ما ينقله من مستواه العادي إلى مستوى أرقى. إن حديثا عاديا قد تأخذه الريح دون أن يعْلق في الذاكرة شيء منه. نسمعه دون إصغاء، وننصرف عنه دون تردد. ويحدث أن ننتبه فجأة إلى المتحدث فنقبل عليه بيقظة حسية عالية. وحين نبحث عن السبب فإننا نجده في مكان ما من الكلام، في كلمة، أو عبارة، أو سؤال مفاجئ. في سخرية تندّ عن سياق التعبير. أو ارتفاع مفاجئ في حرارة اللغة، واندفاعها إلى مستوى جمالي جذاب. لقد ارتفع المتحدث، هنا، فجأة بأسلوب حديثه إلى مكمن التأثير.
إن انشدادنا إلى نص روائي ما حتى نهايته لا ينفصل عن شعرية هذا النص، أي استناده إلى وفرة من عناصر الإمتاع وتأجيج اللغة. وهي صفةُ لا تنبثق إلا من خضم نص روائي متصل ومتداخل. ولا يمكن أن يكون النص كذلك إلا إذا توفر له من قوة الترابط والإثارة ما يجعل متابعتنا له حتمية.
في المقابل، وحتى نتفهّم كثافة النص الروائي وجاذبيته،لا بد من الذهاب إلى الجهة النقيضة. ثمة نصوص روائية لا تشدك إليها. إنها تحمل نقطة ضعفها في نسيجها المترهل، غير المتجانس غير الجذاب، غير المنتج، غير المتنامي في صعود لا فجوات فيه. قد تهرب منه، لإيقاعه الخافت، وافتقاره إلى الإثارة. من تباطئه المزري في الزمان والمكان. وقد تعتم روحك بفعل تورمه اللغوي، ومنافذه المسدودة التي لا تؤدي إلى فضاء تكتمل فيه مساراته دون افتعال وتعنت.
إننا، هذه المرة، أمام شاعرية اللغة لا شعريتها. شاعرية لا تكف الرواية فيها عن التحول، هنا وهناك، إلى انثيال وجداني، أو خاطرة مثقلة بفيض من العواطف السخية، دون أن يكون لذلك دور في بناء النص. إنه نص مختنق، متراكم، متردد، لا يندفع برشاقة، ولا يتراجع بتوتر.
المشكلة في الرواية، أخيرا، أنها فن رحب، يتسع لكل شيء، أصيلا كان أو زائفا. ألم يقل الناقد الروسي باختين إن الرواية هي النوع الأدبي الوحيد الذي لم يكتمل بعـد؟ أي أنها لا تزال في مرحلة التكوين. فهي تتسع للتجريب كما تتسع للتقليد الراسخ، وللروائي الخلاق كما للكاتب المغشوش أيضا.