رقة الحيوان وقسوة البشر 

أي لحظة حافلة بالغضب أو اليأس أو الوحشة تلك التي دفعت الشاعر الشِنْفَرى، ذلك الصعلوك الجاهليّ، إلى تفضيل الحيوانات على إخوته، واتخاذها أهلاً، بدلاً عنهم، يحفظون سره ولا يخذلونه عند الشدة؟
لا شك في أنها لحظة من الإحساس العالي بالعزلة؛ “ولي دونكم أهْلـون”، لحظة قد تمر بنا أو نمر بها جميعا، وربما جرب مرارتها سوانا. في لحظة كهذه يشعر الإنسان بأن نفسه محتشدة بالألم والشعور بالقطيعة، كأنه مقطوع من شجرة، أو طالع من فطر الأرض، وحيدا، دونما أهل يلمون شتات روحه ويشعرونه بالدفء، ودون رابطة اجتماعية تشعره بأنه جزء من كيان مّا.
لا شك أن في حياة كل منا لحظات اكتشافٍ مؤلمة، وربما تكون الخيبة في الصديق أو الأهل أشدها فداحة. ولكن لماذا تجسدت هذه الحاجة إلى الأهل، لدى الشنفرى، في عالمٍ من القسوة والشراسة تحديدا. انزلاق لا يجد تبريره إلا في عمق الخيبة التي أحس فيها بأنه يتكئ على هواءٍ مائل، لا يقي، ولا يسند، ولا يعين. ليس أمامه إذًا إلا أن يلوذ بأهل بدلاء، أشدّاء وحافظين للسر. حالتان لافتتان، واحدة تحفظ سره والأخرى تصون دمه. فهو في أمنين دائمين، أمن السر وأمن الجسد؛ “هم الأهل لا مستودع السر ذائع- لديهم ولا الجاني بما جر يخذل”. والملاحظ هنا أنه آمن مهما كانت “جنايته”.
وإذا كنتُ قد بدأتُ بالأهل والإخوة الذين خذلوا الشنفرى، فلا يتبادر إلى الذهن أن الأمر مقصور على الخيبة بالأقربين وحدهم: الإخوة أو الأهل أو القبيلة. إن هناك من فر هلعا من الناس جميعا. لحظة أخرى تدفع شاعرا جاهليا آخر إلى ألفة الذئاب، فهي مبعث الأنس في مقابل الإنسان الذي يبعث فينا صوتُه الذعرَ والتطير؛ “عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى- وصوّت إنسان فكدتُ أطيرُ”، وهي لحظة تكاد تكون واحدة من لحظات اليتم الاجتماعي والعزلة الوجودية عن البشر. وإذا كان الشنفرى والأحيْمر السعدي، كلاهما، يستبدلان الوحش بالبشر، كما رأينا، فإن هناك من ينقل المفاضلة إلى حيوانٍ آخر أكثر ألفةً وهو الكلب. لقد وصلت الوحشة من الناس حدا دفع بابن المرزبان، وهـو إمام وشاعـر وفقيه بغدادي، إلى وضع كتابٍ بالغ الطرافة والذكاء يبين فيه فضل الكلاب على البشر، تحت عنوان لا يخلو من الإثارة؛ “فضل الكلاب على كثيرٍ ممن لبس الثياب”. ولا بد أن ابن المرزبان قد فجع بأخلاق البشر في زمانه، مثلما فجع صديقه الذي طلب إليه تأليف هذا الكتاب كما يشير هو في المقدمة.
لذلك يبدو كتابه هذا وكأنه هجائيةٌ مبطّنة لأخلاق معاصريه. والمتأمل في العنوان يجد أن الكلاب تحظى بأرجحية واضحة: صراحة الاسم، وصدارته، وتعريفه، بينما لا يشار إلى البشر أو الناس إلا بشيء عارض وخارجي، وسريع البلى هو الثياب. وكأن الكاتب يأنف أن يشير إليهم إشارة صريحة. ويمثل ذلك، كما أرى، منتهى القسوة في الهجاء؛ ألم يحرم المتنبي خصومَه من هجائه إمعاناً في إذلالهم؟؛ “صغرتَ عن المديح، فقلتَ أُهجى- كأنك ما صغرتَ عن الهجاءِ”. لقد جمع مصنف الكتاب الكثير مما قاله الرسل والملوك والفقهاء وعرب البادية والشعراء في تواضع الكلب وعفة نفسه وشدة وفائه، بالقياس إلى بشر لا يملكون البعض من هذه الشمائل.
ومن الشيق أن صاحب الكتاب يذكر كلاما للحسن البصري يرفع فيه من شأن الكلب درجاتٍ عالية؛ “إن في الكلب عشر خصال محمودة”. ثم يبدأ بسرد تلك الخصال واحدة واحدة، فيذكر كل خصلة للفئة التي تتصف بها من المؤمنين. ويدهشنا الإمام البصري، غاية الإدهاش، حين يرى أن صفات الكلب هذه “ينبغي أن تكون في كل مؤمن”؛ فهي، كما يقول، صفات المحب، والمريد، والوفي، والمتواضع، والصالح، والزاهد، وأبيّ النفس، والخالي من الحقد.
إذا كان ابن المرزبان يصنع كتاباً يفضّل فيه الكلابَ على الكثير من الناس، في وقت كان الناس، ربما، أقل إيغالا في الخطأ والخطيئة مما هم عليه الآن، فكم مجلدًا سيؤلف في فضائل هذا الحيوان النبيل والمتواضع، بعد أن يرى ما انحدر إليه بعض الناس من همجية وقبح وافتقار إلى المروءة؟