عن أيامنا الجامعية الأولى 

علي العلاق

قبل سنوات طويلة، وفي لحظة جامعية لا أنساها، حدث معي ما سأذكره الآن بفيضٍ من الحنين. سألتُ أستاذ البلاغة، وهو أحد الأساتذة النابهين الذين أحمل لهم قدْرا عاليا من المودّة عن تخلّف البعض من التصورات البلاغية القديمة قياسا باللحظة الشعرية آنذاك. وقرأتُ عليه، أمام الطلبة طبعا، المقطع التالي من شعر أدونيس “وكأنّ النهار- عرباتٌ من الدمعِ- غيّرْ رنينك يا صوتُ- أسمعُ صوتَ الفرات”.
وكم دهشتُ عندما أقرّ الأستاذ، دون مكابرة أو ادعاء، بأنه يجد مشقة بالغة في فهم أدونيس. تلك الذكرى الجامعية البعيدة تدفعني إلى الحديث عن الأستاذ الجامعي وذائقته الجديدة. وهو موضوعٌ قد يغري بالحديث عن الشاعر الجديد ووعيه التراثَ، وهو ما يمكن تناوله، ربما، في مقالة قادمة.
هناك حوار عميق، في العالم المتمدن، بين الجامعة ومحيطها العام. على العكس مما يحدث في الكثير من جامعاتنا العربية ومجتمعاتها. يمكن لقاعات الدرس في جامعة راقية أن تُمدّ الحياة العامة بالكثير من منجزاتها الثقافية أو انفتاحها على الجديد. ليس هذا فقط، فما يقعُ بعيدا عن قاعات الدرس لا يقع بعيدا عنها حقا. إن الكثير من رصانة الجدل في قاعات الدرس الأكاديمي يمكن أن يكون مشتبكا بهواء الحياة ونزوع الناس للتجديد والفرح.
فضاءات كثيرة بين الجامعة والمجتمع يمكن تبادل مزاياها: الفكر والوجدان، الوعي والتلقائية، الأسئلة والإجابات. لا بد لتدفق الحياة وقاعات الدرس أن يتبادلا المنافع الروحية والفكرية من جهة، وحيوية الإفصاح عن الذات من جهة أخرى.
البعض من جامعاتنا، في المشرق العربيّ خاصة، لا ينعم بالشيء الكثير من هذا الرفاه المعرفيّ أو الانفتاح على لغة الحياة وعطاء المخيلة، غير أن باب الاستثناءات في هذه الجامعة أو تلك، يظل مفتوحا.
ومع ذلك فإن الذاكرة لا تبخل علينا بما ينعش القلب من الذكريات الصافية:
كان معظم الذين يكملون دراساتهم العليا من ذوي الميول الأدبية والشغوفين بالمعرفة. وكانوا، حين يعودون إلى التدريس في الجامعات، يحملون معهم زادا وفيرا من العلم، واللطف، والتفتح على الجديد.
كنا نهرع إلى محاضراتهم بحماسة بالغة، وشغف بما يتحدثون عنه، حاملين معنا ميولا أدبية تتضح يوما بعد آخر، وممتلئين بالأمل في أن يكون لنا شأن ما ذات يوم. كنا محظوظين حقا، بأساتذة كبار كانوا الامتداد الأجمل لمن سبقوهم.
كان بعضنا، مثلا، معجبا بأحد أساتذته، بتدفقه في الحديث، أو غزارة معلوماته الأدبية، لكن بعضنا الآخر قد لا يشاركه ذلك الإحساس. كنا نرى، أحيانا، أن في ذلك التدفق ما في القراءة من كتاب جاهز من إيقاع متسارع ورتيب.
وشيئا فشيئا صار الكثير منا يجد متعته في محاضرات أساتذة آخرين شدنا إليهم تفتحهم على الحداثة الأدبية، واهتمامهم الجميل بما نكتب أو نحاول كتابته. ولعل من أبرزهم جلال الخياط، وعبدالإله أحمد، وعلي عباس علوان، على سبيل المثال. تحدثوا إلينا بذائقة مختلفة، تحتفي بالجديد من أساليب الكتابة الشعرية وتمدّنا بالكثير من الثقة بما نحلم به ونسعى إلى تحقيقه.
غير أن تحولات كثيرة حدثت منذ ربع قرن تقريبا، تدعو إلى التأمّل. صار الحصول على الدكتوراه في البعض من الحالات، وهي كثيرة، سعيا إلى وجاهة اجتماعية أكثر منه تحقيق حلم معرفي أو أدبي. ولم تعد ملكة الكتابة أو موهبة التحليل النقدي دافعا للطالب أو شرطا للدولة للحصول على الشهادة العليا. وبالرغم من أن البعض من جامعاتنا لا يزال تحظى بعقول أكاديمية متميزة، إلا أن الأمثلة كثيرة على أن بعضا من أساتذة هذه الجامعات، هنا أو هناك، ليسوا أكثر من معلمين يحملون شهادة الدكتوراه.
كانت أولى أيامنا الجامعية هي موعدنا الأجمل مع تشكل الغيوم الخريفية الأولى. نندفع إلى القاعات بحماس لا يخلو من ارتباك محبب، بينما تنتشر الغيوم، رمادية خفيفة، فوق مباني الكليات في منطقة الوزيرية والباب المعظم. يدفعنا الفضول والتفاؤل إلى الوجوه، والممرات، والأسماء.
كانت أسماء البعض من الأساتذة تبعث فينا الكثير من الأفكار والتوقعات قبل أن نلتقيهم في محاضراتهم الأولى. لقد سبقتهم إلينا أسماؤهم قبل أن نراهـم. ربما سبقتهم رائحة كتاب قرأناه أو تصفحناه على عجل، أو نظرة دالة تنبعث من صورة أحدهم على الغلاف. أما بالنسبة إلى المتفتحين منا على قراءة الأدب بشكل خاص، فكان لأسماء بعض الأساتذة، ممن يكتبون الشعر تحديدا، وقع حميم لا يقاوم.