حارسة الغياب

ثمة حزن لا يزال حارا وشديد النقاء، ظل يقف بيني وبين لقاء الشاعرة والناقدة الفنية مي مظفر، منذ رحيل زوجها الفنان رافع الناصري وحتى فترة قريبة. سنتان تقريبا وأنا أتهيّب السير في الطرق المؤدية إلى حزنها القاسي. كنتُ أحسّ وأعرف أنها كانت تحرس غيابه الكبير بعينين ذابلتين لا تملكهما إلا زوجة وفية مثلها أو أم مفجوعة مثلها أيضا.

حين جلستُ إلى مي مظفر وجدت أن رافع الناصري كان في انتظارنا، أو كأنه كذلك تماما، في مرسمه الجميل في جبل “لويبدة” في عمّان.

كنا نجلس بحزن مشرق وحميم أمام صورته النابضة بالحياة: مي مظفر، ويحيى الشيخ، وزوجتي، وأنا. وكان وجهه، كما عهدناه دائما، طافحا بالحياة والبشاشة الأنيقة. لم يكن غياب رافع الناصري فكرة أوتجريدا، بل كان، على العكس من ذلك، حضورا حسيا شديد السطوع والكثافة. لقد استطاعت مي مظفر، بحنانها الوافر وقلبها العصيّ على الانكسار، أن تحول إحساسها بالفقدان إلى حضورٍ جارفٍ لا يقاوم، وأن تجعل من رافع الناصري، ذلك المفرط في إنسانيته وعذوبته وموهبته، وطوال تلك الجلسة، قمر أحاديثنا وعطر ذكرياتنا الذي لن يجفّ. وكنا نغرق معا في سيل من الذكريات المحتشدة بالأسى الأبيض والوجوه البعيدة.

ربما تلك هي المرة الأولى التي أزور فيها رافع الناصري في غيابه، غير أن غيابه هذه المرة لم يدم طويلا، فسرعان ما انضم إلى جلستنا بكامل أناقته وخفة روحه وتواضعه العالي. كنا محاطين بلوحاته الغائمة، وتخطيطاته المرهفة، ويومياته وصوره. كنا نصغي لحفيف أصابعه الذي لا يزال دافئا وطرياعلى الورق. وكان ذلك كله يضعنا وجها لوجهٍ، أمام رافع الناصريّ الفنان، الحي، الممتع، الجميل. لم يكن في استطاعتي أن أقف بعيدا عن سنوات من الصداقة التي جمعتني بهذا الفنان المدهش. كانت حصتي كبيرة من فجيعة رحيله، فقد كنا صديقين وجارين، في بغداد، ثم جمعتنا المحبة في أكثر من بلد من بلدان الشتات العراقيّ الحافل بالعطاء والألم: في البحرين، وعمان والإمارات.

وكان في رافع الناصري، رساما وإنسانا، فيض غزير من الشعر لا يصدق. لقد مرت من بين أصابعه أغلفة لأكثر مجموعاتي الشعرية قربا من نفسي، من ”شجر العائلة” و”سيد الوحشتين” إلى مجموعة “ذاهب لاصطياد الندى”. وكان اختيار غلاف هذه المجموعة، تحديدا، حكاية تعذب روحي وتهبط بي إلى قاع حزن لا قرار له كلما أعدت روايتها. كنت طلبت إليه لوحة من لوحاته لغلاف “ذاهبٌ لاصطياد الندى” ولم أكن على بينة، بعد، من طبيعة مرضه.

في أمسية من أماسي عمان المؤثرة جاءني رافع الناصري، وهو في واحدة من مراحل مرضه القاسية، حاملا نبله الخرافي ونماذج من لوحاته في حاسوبه الخاص.

طوال الجلسة وهو منهمك في البحث عن لوحة لغلاف مجموعتي الشعرية. لم يجد المرض اللئيم فرصة لإفساد جلستنا تلك. ليس إلا الشعر وجمال الأيام الأولى، وذبول وشيك يدبّ شيئا فشيئا إلى روحه الطافحة بالضوء والمسرات.

اكتشفت في زيارتي للشاعرة مي مظفر أنها تقف حارسة لهذا الغياب الكبير الذي تركه رافع، تربّيه وتحنو عليه، لتحيله إلى حضور أكبر، يخفق بالألم والإبداع والذكرى من خلال مجموعتها الشعرية “غياب” الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والبحوث، بيروت. لقد عاشت في هذه المجموعة فجيعة الغياب قبل أن تقع، وسمع رافع الناصري مراثيها فيه قبل أن يرحل.