صباحات خريفية 

صباحات خريفية

متعة قصوى، أن تشهد يقظة الصباح الأولى، وهو يهبط من سريره الكوني، لينساب في هواء المدينة الصغيرة طريا، وخفيفا على القلب. يتساقط النوم من أعالي الشجر، ولا تظل الطيور على حالها، بل تلتحق بجوقة الفرح الصباحيّ، تنسلّ من كسل الليل داخلة إلى بدايات النهار الأولى نشيطة فرحة.
مشهد يومي صرت حريصا على لقائه كل يوم. غير أن أجمل هذه المشاهد، في ما أرى، ما نعيشه في فصل الخريف.
الغيوم الهابّة، في هذا الفصل، من سلسلة الجبال المجاورة تقدم لفضاء المدينة وعشب الأرصفة صباحا بالغ الخفّة وشديد الطراوة. بداية حافلة بالوعود، المتروكة على سجيتها. سخاء مفاجئ تجود به الطبيعة كل يوم فيمنح مدينة “بولو” التركية الصغيرة مسحة من البلل الخفيف، تستجيب لها أقدام المارة، والعشب الطالع من حجر الأرصفة بطرق شتى.
اعتدنا على أن نرى حديقة “بولو” تستقبل حشودا متتالية من الغيوم تهب على المدينة، مسرعة أو متثاقلة، من سلسلة الجبال البعيدة. يهبط الغيم فيرتفع الشجر للقائه، فيزيدان هواء المدينة طراوة وحنانا.
اعتدت، وفي ساعات الصباح الأولى، أن أذهب، مع زوجتي، إلى الحديقة العامة بجوار العمارة التي نقيم فيها. وكثيرا ما تفاجئنا الطبيعة، كل يوم، بما يكسر رتابة الأيام التي مضت.
يتوالى على الحديقة المجاورة أناس كثيرون للتمشي أو استخدام الأجهزة الرياضية. وأنت تسير في الممشى، وعلى مقربة أو على مبعدة منك، لا فرق، أعمار مختلفة، وأجيال تنتشر في مضمار الحديقة المخصّص لهذا الغرض. يتركون أسرتهم الدافئة مسكونة ببقايا النوم، ويذهبون إلى الحديقة المكتظة بالشجر الطافح بخضرة رشيقة، والتي تتوسطها شجرة أدركها الشيب فأخذ لحاؤها المتغضن يتذمر مما فعلته به الريح الذاهبة إلى النسيان.
في الممشى الدائري، ثمة ماراثون يومي بإيقاع متفاوت، ينساب بخفة تستدعيها نشوة الشباب، أو بهدوء تفرضه حكمة الحياة ومنطقها القاسي. في هذا الماراثون الصباحي، الخافت أو الحافل بالجاذبية، يتجسد جدل الحياة بما فيها من بهجة أو ألم. حالتان تدعوان إلى التأمل: شابة في مقتبل جمالها الصاعد إلى نضجه المثير، أو إلى مستقبلها الذي تتلهف للقائه منذ سنوات. دوامة من عطر ذائب كالفرح، وكلام ينبثق مثل هالة من المسرات. وعلى مرمى هدبين ينطبقان على حلم ضائع، ثمة شيخ يدبّ على عكازين ضجرين، ويحاول بما بقي لديه من قوة أن يستلم من فرح النهار ما يقوى على حمله.
زوجان كهلان لا يمشيان على أرض تغرق في فراء أخضر، بل في كلام حميم وبقية من بشاشة لم تطفئها الأيام. يقيسان المسافة بينهما بالمحبة تارة، وبالعتب القديم تارة أخرى، وكأنهما يحوّلان هذا التجوال الصباحي المفعم بالمودة والرحمة إلى فصل من التذكر المشترك والبشاشة المستعادة.
غير أن عينيك لا تخطئان نموذجا آخر، حيث تنقطع فترة البث الوجداني الحي بين اثنين من أفراد هذا التجمع، فيغدو الصمت، بينهما، وكأن له ملمسَ الحجر المثلم أو رائحة كلام مكرور فقد جدواه.
ثمة مشاهد ومواقف يتمُّ فيها الإفصاح عن ألفة جديدة تتوطد تدريجيا، بين أفراد هذا التجمع. حتى أن غياب البعض عن ذلك التمشي اليومي، لا يمرّ بسهولة. ومع أنه غياب صغير لكنه يهز نسيم المنتزه البارد، إلى درجة التساؤل الحنون، أو القلق المشوب بالإشفاق، وكأن هذا الغياب الطارئ، عن هذا المشهد، إنذار بغياب قد يكون أكثر حزنا.
وبعد أن ترتفع في سماء المنتزه شمس غائمة صغيرة، يتوزع الجمع بين عائد إلى بيته، أو جالس على واحدة من تلك المصاطب أو المظلات الخشبية التي هيّأتها، كما هيّأت المكان كله، بلدية المدينة. ويضم الجميع، والمتقدمين في العمر منهم خاصة، أمل في لقاء آخر، وتحت شمس أكثر دفئا.