الشعر بين العبث والضرورة 

في هذا العالم المحتشد بالجنون والقسوة، هل يظل للشعر مكان ينشط فيه، وغاوون يصغون إليه بشغف أصيل؟ وعندما تشتعل أيامنا بالمحن والكوارث هل يغدو الشعر ترفا، أم ضرورة، أم عبثا لا طائل من ورائه؟ وبمعنى آخر، هل زمن الشعر هو زمن الاستقرار وهناءة البال فقط؟
ويمكننا القول إن أسئلة كهذه تحمل في داخلها الجواب الذي لا مواربة فيه. مع أن المعترضين عليه قد لا يكونون قلة. ومع ذلك يبدو لي أن حاجتنا إلى الشعر لا تنتهي مهما تغيرت الظروف التي نحن فيها، فهو الإشباع الروحي والوجداني، في شتى الأزمنة: في الأمن والخوف، في الحب والكراهية، في السلم والحرب، في الحلم واليقظة، ذلك لأن الشعر لكل الأزمنة وبكل اللغات.
حين تُمتهن الروح، ويستبد بها القهر حدّ العجز عن الفعل، لا نجد من ملاذ إلا في الفن، وفي الشعر بشكل خاص. في هذه الحالة تمدنا القصيدة بالكثير من القوة، ويصبح حتى الوهم أحيانا قوة ذات شحنة إيجابية. وحين نخرج من لحظة الشعر، أعني لحظة كتابة القصيدة أو قراءتها، فإن إحساسا فائقا بالعافية، يملأ أرواحنا، ولا يكف عن تذكيرنا أننا قادرون على أن نكون في مستوى آدميتنا المهددة كل يوم بالقبح والتلاشي.
إن اللحظة الشعرية هي علوّ على لحظة الهوان الترابية التي تحياها النفس البشرية. وهي تصعيد للحظة التسامي المقموعة في دواخلنا، للذهاب بها بعيدا عن قيود الظرف الأرضي والمحدود. وبذلك تخرج هذه النفس إلى المطلق الذي تصفو فيه، وتجد وهمها الجميل الذي يرممها ويخفف من تصدعاتها.
وللقصيدة صلة كبرى باليأس، فهي ابنته أحيانا، ونتيجته في أحيان أخرى. واليأس قد ينتج الكثير من نقائضه دون أن يدري، وحين نكتب قصيدة جديدة فإننا نقوم بتقشير اليأس من قوته. وتسقط طبقة من طبقاته مع كل قصيدة حقيقية، فنصبح أقوى منه. وهكذا فإن الشعر، في حالاته الغالبة، قوة، وأمل، وهو نجمة قد تكون متعثرة البدايات، لكنها سرعان ما تكبر لتقدم لنا ضوءا جديدا حافلا بالثمار وقوة الروح.
كما أن القبح، حين يستشري في كل شيء، ويتجسد في الذهاب بعيدا عن الحلم، والشعر، والثقافة، والتحضر، وحين يكتمل التردي في الهاوية، متمثلا في الجهل والعنف والموت المجاني والهشاشة، نجد أنفسنا مدفوعين إلى مواجهة ذلك كله، باللوحة الدامية، والقصيدة العزلاء إلاّ من الجمال. لابد لنا من مواجهة القبح والتردي مواجهة جمالية تبني داخلنا الإنساني الذي تهدم وفارق ما فيه من صدق، ولطف، وأناقة، وتقدم جمالا شعريا يواجه هذا الخراب، ويحصن النفوس، ويبني الذائقة.
من هنا، يظل الشعر فنا لازمنيا ولامكانيا. إن زمنه سيال، وعابر للعصور والأزمنة. ولذلك تشتد الحاجة إليه وتتجدد في كل لحظة. وكلما اشتدت كوارثنا، وجدنا في الجمال متسعا لأرواحنا المعذبة، وكلما احتشدت أيامنا بالقهر والتهميش رأينا في القصيدة الحقة أفقا حافلا بالعذاب الضروري لرفعة النفس، وبالمحبة التي ترتفع بنا فوق القبح واليأس والهشاشة.