الصندوق الأسود للقصيدة 

في ورقة نابهة قدمها الناقد سعد البازعي، في ملتقى القاهرة الشعري، حظي القارىء الضمني بعناية خاصة. ولم يكن حديث البازعي قراءة استعراضية، مهووسة بالمصطلحات ولغة الاختصاص الضيقة، كما لم تكن قراءة تعيد علينا إنتاج ما ردده طويلا نقاد استجابة القارئ مثل آيزر، وياوس، وروبرت هولب وغيرهم. بل كانت كشفا متريثا وشديد الوضوح يتفحص فيه البازعي ضغط اللحظة الرقابية المسلطة على كاتب النص والتي تقوده، بالنتيجة، إلى إنتاج نصوص مدجنة، مطيعة، بفعل مرورها على فلاتر الذات المرعوبة الهيابة، التي هرسها الخوف من الرقيب الخارجي وعصاه المشرعة على العقل والجسد والمخيلة.
وأخطر ما في هذا الرقيب الخارجي، سياسيا كان أو أخلاقيا، أو دينيا، أن يتحول إلى رقابة داخلية متنامية، هالة من الخوف، يدب في الداخل الإنساني والأدبي واللغوي. يكمن في لاوعي الكاتب فيعرقل جريان اللغة ويعيق تدفقها، كما يجردها من جموحها وهياجها المنعش للعقل والوجدان، وبذلك يتم ترويض مخيلة الشاعر أو الكاتب فلا يعود لديه، أحيانا، ما يتجاوز به مألوف الاستعارة، والشائع من كليشيهات التعبير.
ولمعرفة ما يفعله هذا الرقيب الداخلي، يكفي الرجوع إلى مسودة النص، أو الصندوق الأسود للقصيدة، كما أسميتها في مقالة لي بعنوان: من رماد المسودة الى ضوء النص. هذا الصندوق الذي يكشف لنا ما حدث قبل أن تأخذ القصيدة شكلها النهائيّ وتطفو على سطح الماء، و قبل أن تطلعنا على ذلك التخبّط المخيف، وذلك الارتطام المجلجل بين الشاعر ولغته، بين وجوده المفتقر إلى المعنى، ومعناه الذي يستعصي على الاكتمال.
في أعماق هذا الصندوق، أو على أرض المسودة، نجد أنفسنا أمام ورقة مثخنة ببقايا النزال، معركة طاحنة بين كاتب النص ومكونات نصه. بين الشاعر في لحظة ذهوله، أو نعاسه اليقظ الخفيف، وبين صحوته التامة. بين فكرة حرة ملساء طافية في الغيب وبين شباك اللغة ويقظة الحواس.
لا شك أن في لحظة الكتابة شيئا ما، يشبه الجنون ربما، أبيض كالنهار وبريئا كالطفولة، يقتحم على الشاعر لحظته المسيجة بالعزلة الحميمة، والمنقطعة عن مصادر التشويش كلها، لكنها في الآن ذاته تتفتح على هواء الجهات جميعا، هواء العالم، وهواء الحياة، وهواء المخيلة.
تتناثر على المسودة أشلاء لغوية شديدة الدلالة، نهار الورقة لا يزال حارا ومغبشا. كدمات على التراب، وعرق ينز من القلب. أمشاج من الجمل، وبقايا عبارات لا تزال مهيأة للالتحاق بالنص القادم. كلمات معدول عنها، نوايا لم يكتب لها أن تكون فعلاً ناجزا.
هذه البدايات الجارحة، أو الرغبات المهيضة، مشاريع حافلة بالوعود لكنها، وبفعل الرقيب الداخلي، لم تكمل طريقها، في الغالب، إلى نهاية ذات دلالة. إنها صدق مقموع ومحاولات مؤجلة للاغتراف من بئر فوارة بالمرارة أو النشوة. وكأن كل هذه البدايات أو نقاط الشروع أجنة قابلة للنمو، أو ارتدادات الى نقاط البدء، لكنها جميعا ثمار اختزلت أعمارها الريح ونشف ماؤها فجأة.
هاهي قصيدة الشاعر تتشمم شرر البدايات، تقترب من رمان اللذة المضيء، فتعتري لغته قشعريرة خطرة. وفجأة، وبفعل الشبح المريب أيضا، ينطفىء كل شيء، فترتخي شباك المخيلة، وتبدأ الفلاتر عملها: يراجع الشاعر اندفاعاته الأولى، وقد يجرد لغته، كليا أو جزئيا، من طيشها الجميل، فتتوب عن تهورها، وتدخل على يديه بيت الطاعة. فلا انزياحات متوقدة، ولا صور تحلق متفردة خارج السرب. وهكذا قد يتحول الشاعر، ودون وعي منه، إلى رقيب شديد الحرص على أداء واجباته.
مسودة القصيدة هي الفوضى الأولى لاندلاع النار قبل أن يصفو لهب الموقد. وهي قطعاً أقل اكتمالا من القصيدة، لكنها أكثر منها دلالة على ما لحق بالذات الكاتبة من رضوض وحيرة، جراء عملية الكتابة وما يتخللها من عذاب جميل.