ما يضيع في الترجمة

ما الذي يجمع بين الشاعر الأميركي روبرت فروست والعربي الموسوعي الجاحظ؟
لا يمكننا البحث عن شبه ما يجمع بينهما في جنس الكتابة التي يمارسانها، أو الفترة التاريخية، أو البيئة الاجتماعية، أو المظهر، أو السيرة الشخصية لأي منهما، أو نمط الحياة التي عاشاها.
علينا إذا أن نبحث عما بينهما من شبه في مكان آخر: أعني في تلك النظرة بالغة الرهافة إلى الشعر، في لحظة خاصة من رحلته بين الشاعر والمتلقي، خاصة وهو يتجاوز حاجز اللغة، أي حين يرحل من لغة إلى أخرى.
يقول روبرت فروست “الشعر هو ما يضيع في الترجمة”، وكأنه يرى أن القصيدة المترجمة هي فقدان للشعر، هي ما ينتفي وجوده عند خط النهاية. وهكذا فإن ما يتبقى من القصيدة المترجمة، شيء آخر، مضغة الجمال المهددة بالضياع بفعل الترجمة.
وقبل فروست بقرون مترامية الأطراف، رصد الجاحظ هذه اللحظة الفريدة، لحظة ترجمة الشعر، وأدرك بنظرة ثاقبة ما يضيع من جمال الشعر خلال ترجمته، فرأى أن الشعر إذا ترجم من لغته إلى لغة أخرى سقط موضع التعجب فيه. أي أن شعريته، أو ما يجعله شعرا سيترسب هناك، في أرضه الأولى، في تلك الرحم النقية الدافئة.
إن مترجم الشعر ليس سوى أحد الواردين على البئر. بئر القصيدة الطافحة بالجمال والدهشة، والمفاجآت، بينما دلاء المترجمين جميعا مرخاة في تلك البئر يحمل منها كل دلو حمل طاقته. ومع ذلك فإن ما يتبقى في تلك البئر يظل كافيا لما يأتي من دلاء جديدة. هذه هي القصيدة إذا، دائما وفي كل أرض، تغذي أخيلة النقاد ودلاء المترجمين دون أن ينفد ثراؤها، أو يهدأ لها لهب أو جمرة.
وحين يقدم المترجم على مغامرة الترجمة الشعرية فإنه، أو كأنه كذلك، يزج بنفسه بين القصيدة الأصل وصاحبها. وإيغالا في المغامرة، وإمعانا في الغوص إلى لحظتها الملتهبة، يحمل إلى القصيدة المترجمة ما ينعش لغتها الجديدة، وكأنه يغتصب دور كاتبها فإذا به شاعرها الجديد، يرحل بها من لغتها الأصل إلى اللغة الهدف. وبذلك فإنه، أي المترجم، ليس وسيطا محضا دائما ولا شاعرا تاما في كل الأحيان. بل هو الوافد إلى القصيدة والعائد منها، المربك والمرتبك، الهادم والباني . الآخذ منها والمضيف إليها.
حين ترجم أدونيس قصيدة الشاعرالفرنسي الشهير سان جون بيرس، اعطى لها عنوانا لافتا “ضيقة هي المراكب”، ولكن القصيدة ذاتها أخذت عنوانا مختلفا على يدي مصطفى القصري “الفلك الضيقة”. وبين العنوانين تشع روحان مختلفتان، ومزاجان متباينان. ووراء كل ذلك شاعران يصدر كل منهما عن إحساس باللغة خاص به.
وحين كثر الجدل حول شبهة التقارب بين أجواء أدونيس وبيرس، وجنونهما في اللغة واجتراح الصور والانزياحات، كان رد أدونيس على ذلك إن شعر سان جون بيرس في العربية كان بوجه أدونيسي.
إن مترجم الشعر، خصوصا إذا كان شاعرا، قد يمنح القصيدة المترجمة الكثير من دفئه وجنونه، ومن اجتهاداته اللغوية، بغض النظر عن صلة القربى بين النص الجديد وبين عروقه الشعرية الممتدة إلى الأصل. ولا ينتهي الجدل حول ترجمة الشعر إلاّ ليتجدد. ولا يمكن لأي ترجمة شعرية مهما كانت محكمة أو مدعية أو متباهية أو مثقلة بثمار الحكمة إلاّ أن تظل نغما وحيدا لا يصنع وحده سيمفونية متلاطمة، وطائرا لا يعوض بمفرده عن سرب من الطيور المتراصة.
وها هو الدكتور عبدالصاحب مهدي في كتابه الجديد “ترجمة شعرية لأشهر القصائد الإنكليزية”، منشورات جامعة الشارقة، 2013، يقدم للمشتغلين في هذا الحقل، جهدا نوعيا لأستاذ أكاديمي ظلّ، تدريسيا ومترجماً وشاعرا، ومنذ سنوات، يختط طريقا خاصة به في ترجمة الشعر وتدريسه والكتابة عنه.
إن الشيق والفريد في هذا الكتاب أن المؤلف يقدّم ترجمات شعرية ممتعة تعتمد الوزن والقافية، لقصائد إنكليزية شهيرة. وقد يجد البعض في هذا المنهج ما يذكر بالترجمات الشعرية العربية في مراحلها المبكرة، إلاّ أن د.عبدالصاحب مهدي يظل نموذجا نادرا بين أبناء جيله، للأكاديمي الذي يمضي، بشغف وجرأة ودراية، في هذه الطريق الحافلة بالفرح والمشقة.