المتنبي وسؤاله الجارح 

على العلاّق

بين المتنبي والعيد رباط وثيق. فلماذا يذكرنا العيد بالمتنبي، تماماً كما يذكرنا المتنبي بالعيد؟ لماذا يوقظ فينا هذا الشاعر، في هذه المناسبة تحديداً، إحساسنا بالغضب، أو الفجيعة، أو القهر، بدل الإحساس بالفرح أو الرفعة؟ في مثل هذه الأيام، وهي أيام ترتبط بالبهجة والعيد والتحولات، نصحو فجأة من استسلامنا الهادئ المطمئن لتيار من الألفة الحزينة المسترسلة داخل النفس، الاستسلام لكل ما نحسه أو نعايشه، وكأن لحظة الاستيقاظ هذه قطع للرتابة التي تملأ نفوسنا، دون أن نفطن إليها، فتنحرف بها عن تذوق الحياة وتلمس سطوتها اللذيذة الجامحة.
في أحيان كهذه، يفسح الفرح الذي يعيشه البعض ممراً رخواً لمخالطة نقيضهِ، القادم الجديد إلى الروح. فكم هي المرات التي نحس فيها بأننا محرومون من الفرح الصافي، وكأن أفراحنا لا تجيء مكتملة أو خالصة. بل لا بد أن يكون فيها ما يكدرها أو يملؤها بالكدمات. لماذا في العيد تحديداً، تتوافد علينا وجوه الغياب، ونتذكر كل التفاصيل المنسية؟ ولماذا في لحظات الفرح الطارئة نسترجع أقسى ما في تأريخنا الشخصي من وقائع؟ ولماذا كان احتفاء شاعرنا الأول بحبيبته، وهي مقيمة تبعث البهجة في نفسه، أقل توهجاً من احتفائه بها طللاً متهالكاً وذكرى تجرح الروح؟
في لحظة استثنائية شاردة من سياق عواطفنا المرهونة للأسى أو الكدر المقيم، قد نحظى أحياناً بضحكة صافية أو مجلجلة. ثريا من الأجراس تستيقظ فجأة في حناجرنا لتلوّح لنا بدفقة من السرور الأبيض، لكنها ما إن تبدأ حتى تنطفئ إلى الأبد، مخلفة وراءها دمعة تضيء عتمة العين، أو ابتهاجاً يخنقه خوف قادم: اللهم اجعله خيراً، وكأننا نعتذر عن فرح ليس لنا حق فيه. الفرح في حياة الأمم أساس الحياة، وسر حيويتها ونزوعها إلى الجمال والمرح الذكي، فهو القاعدة والمقياس والإيقاع الذي ينتظم أيامها وسنواتها المتتابعة. ذلك لأنه فائض الطاقة، وتمدد الازدهار الداخلي للفرد وللأمم معاً.
أما لدينا فليس الغالب أو القاعدة إلاّ ما نجده استثناء في حياة الآخرين. لتأريخهم رنين الذهب المضيء، ولعصورنا تلاطم الدم، واقتتال الإخوة الأعداء. لأيامهم مذاق الفرح واختمار النبيذ ولأيامنا ضجة التنك ورائحته الصدئة المرة. ليسوا شعوباً من الملائكة، بل من البشر الممعنين في بشريتهم. لهم بساطتهم ولهم توحش البدايات. لكنهم تجاوزوا همجيتهم الأولى، وخلفوا وراءهم ما كان بينهم من مذابح وأخطاء وثارات. وهاهم يتجاوزون أنفسهم في كل يوم.
هاهم يوسعون من مديات الحياة، لتتسع لما تبدعه أرواحهم من جمال وما تبتكره عقولهم من مدنية رحبة. خاضوا قروناً من الحروب الدينية والقومية، وتركوا وراءهم قاراتٍ مهشمةً، وتاريخاً يقطر دماً، وبلداناً مغطاةً بالأشلاء. وها هم اليوم، بعد أن تجاوزوا ذلك كله، بلدان هي واحات للفرح وحرية البشر، ومخيمات للجوء شعوبنا الهاربة من أقدارها السوداء.
تجاوزوا، في عقودٍ، ما لم نستطع تجاوز ما هو أقلّ منه، في مئات القرون. فهل نحن أبناء حقيقيون لهذا العصر؟ بل نحن أسرى الماضي. أفواهنا لا تزال محشوةً بالغبار والشوك وبقايا الرايات، كنا ولا نزال نأكل بعضنا بعضاً ونتباهى بذلك، وكنا وسنظل ننتشي بذلة التابع السعيد بجهله وعبوديته. يتجدد فرح الآخرين بالحياة كل يوم، ويتكرر إحساسنا بالقهر في كل لحظة. لكل فرد منهم حصته من بهجة السنة الجديدة، وما يأتي بعدها من سنوات، ولنا بهجة الوهم أننا فرحون، بهذه السنة، كالآخرين. فحتى متى سيظل سؤال المتنبي يتردد، ملء أرواحنا، كغيمةٍ مجروحة؟