طفولة مثل سراب بعيد 

علي جعفر العلاّق

كيف تتصل القرى، أعني قرانا بالمدن التي تجاورها، أو التي تقع على مرمى ساعات منها؟ كيف تتلمس ملامحها المكتظة أو تشتم روائحها البعيدة؟ ليست قرانا نائية عن المدن تماما، وإن بدت كذلك لشدة ما تعانيه من فاقة وعزلة.
فهي قرىً ترتجف وحيدة في العراء البارد، أو تتفصد عرقا تحت شموس متفحّمة، مع أن الفارق بينها وبين مدننا ليس مذهلا أو بعيدا، بل هو كالفارق بين الكفيف وكريم العين، تماما، تقريبا..!
إن قرانا، ومعظم حديثي عن العراق حتما، لا تشبه القرى في بلاد الله الأخرى. ليست ندية أو خضراء أو مسترخية أو مكتفية بذاتها دائما كقراهم. فالطبيعة هنا، وعبر تاريخنا الحافل بالضنك، لم تنعم علينا بالجمال أو الثراء، كما يبدو، بقدر ما أنعمت علينا، وبغزارة لا حدود لها ربما، بالوحشة ويباس الريق.
في طفولة بعيدة، أفتش عنها في ذاكرتي دون جدوى أحيانا، كنت أستجيب بانفعال عال، لمشاهد ممعنة في بساطتها حين أرى ما يبعث فيّ الرهبة السارة: جملا مهيبا وعاليا مثل سحابة يقضم نبتة عاقول طرية، أو أتأمل حشدا من الأسماك وهي تمرق، لامعة، من فتحات سدة الكوت، ممزوجة بدهشة الطفولة وزبد الموج المضيء كالقطن.
القرى في معظم بلدان العالم، يحتضن بعضها بعضا بحنان، تجمعات سكانية، خفيفة، لا تشكل عبئا على الأرض ولا قلقا للعابرين. مرتبة بأناقة بسيطة، وكأنها حقل صغير من البيوت، زرعها في هذا المكان فلاحون يهبطون من مكان قصيّ لا نكاد نراه.
يالها من مدن مشبعة بجمالها حد الاكتمال. وتظل المسافة بينها وبين المدن المجاورة، مشغولة بتفاصيل تبعث على الألفة. قرى ليست معزولة، وإن كانت بعيدة أحيانا تلك المدن. هي أقرب إلى خلوة المستغرق في نعم الطبيعة، والمستأنس بما تغدقه عليه من أرض فوارة بالخضرة، أو شمس ينتظرها الناس بلهفة المفتونين.
بشر في عالم واحد يعمه الرفاه، لا فرق كبيرا بين من يقيم في قرية تتسلق جبلا عامرا بالثلج، وأخرى تحاذي بحيرة تموج بالأشرعة، وبين من يسكن مدينة غارقة بالضوء والدخان والضجيج..
وهكذا فهي قرى مترفة الروح لا تكاد تعرف الحسد، ولا تعيش حياتها على كراهة. كأنها ترفل في نعمتين متصلتين، سماء بالغة السخاء وطبيعة وارفة. كأني بالقرية، في العالم المتقدم، لا تنظر إلى المدينة هناك نظرة المعقد أو المحروم، بل السعيد برفاهيته الخاصة به، عن ضيق المدينة وإيقاعها الصاخب، وكأن لها رفاه المدينة دون تعقيد وسعادة الطبيعة دون ضجة.
وهي سعادة، رغم ضيق مساحتها، فإن طرفيها يمتدان بين عطاءين متبادلين. فالمدن هناك لا تفترس القرى، كما أن القرى لا تبخل على تلك المدن بما تنتجه من ثمار طازجة وأبناء موهوبين.
مازلت أتذكر أنني خلال دراستي في بريطانيا، كنت أحرص على هذا القرب من الطبيعة في مقاطعة ديفون. قراها المعزولة على التلال تبعث الفرح في النفس. وكنت أسعد أحيانا حتى بفظاظة الشتاء فيها، أو ما كان يراه السكان المحليون كذلك غالبا.
الطرق المغمورة بالثلج أو الحالوب، وعمال الخدمات الضائعون في ضباب الوديان، وهم يعيدون إلى الطرق الضيقة حيويتها الأولى.
ويبدو لي أن شغفي هذا بمواسم البرد هو عادة حملتها كما أظن من أيام القرية، وفيضاناتها، وأمطارها التي كانت تقبل غزيرة، ونحن في انتظارها كالأعياد.
مازلت أتذكر تلك الأمكنة. قرى تتناثر على جانب السدة الترابية، وليس هناك غير الباص الخشب الذي يقطع الطريق، وحيدا، بين قرانا ومدينة الكوت. وهو يأخذ الذاهبين إلى المدينة أول النهار، ويوزع العائدين منها في أواخره.
كنا نُهرع صوب الطريق، يشدنا أنين الباص القادم مع الغروب من المدينة. صرر مبعثرة على السدة الترابية، وحفاة مبتهجون، بحذاء ينتظرونه مهما كان رخيصا، أو دشداشة يحلمون بها منذ عام.
واليوم، ما الذي ظلّ من قرانا تلك؟ أثمة ريف حقيقي في العراق كله يجد طريقه إلى لغتنا؟ أهناك غير الأنهار العمياء وفلاحون كالأيتام أضاعوا المشيتين بين مدن لا يجدون لهم مكانا فيها، وأرض لا تحظى بمكانة في نفوسهم المزحومة بالأوهام .
ومع ذلك كله، كثيرا ما يراودني هذا السؤال الشجي، وأنا ساهم أتأمل المكان الذي أنا فيه، في دعة حينا وعبر خليط من المشاعر المتضاربة حينا آخر، لماذا هذا الحنين إلى قرانا القديمة إذا؟ أما تزال مقيمة على الأرض حقا أم أنها طفولة تتوهج في الذاكرة مثل سراب بعيد، بثيابها المهلهلة وأيامها الممهورة بالحرمان؟