في أخلاق الناقد الأدبي 

علي جعفر العلاّق

يمكن للنقد الأدبي، أحيانا ولدى بعض المشتغلين فيه، أن يكون نشاطا مراوغا، وحمّالَ أوجه عديدة: فهو هادمٌ للذات تارة، ومختلقٌ للفضائل لمن لا يستحقها تارة أخرى. شفيفٌ وعميق ومصدر للبهجة والوعي العالي حين تتوافر له اشتراطات بذاتها، ولكنه متجهمٌ وسيءُ النية ومناسبةٌ لتصفية الحسابات في أوقات أخرى. ويمكن للعمل النقديّ، إذا كان الناقد موهوبا وعارفا ورائق النفس، أن يكون ذا قيمة حضارية كبيرة، وقد لا يكون هذا الناقد إلاّ قاطع طريق على النصوص الحية، ومتجنيا على الحقيقة حين يتضاءل نصيبه من تحضر الذوق ونصاعة الروح ورفعتها.
وللناقد المتجني امتيازه الخاص، حريته في أن يجور على النصّ أو كاتبه أحيانا، متى شاء وكيف شاء دون إحساس بالذنب، أو بالتهور أو موت الضمير. يسطو على ذاكرة الناس، في غفلة من الجميع، فيؤثثها بوقائع من توهّماته واختلاقه. كما أن لهذا الكاتب المتجني فسحا يتمدد خلالها على كل العصور، فيمكننا رؤيته في أزمنة الناس جميعا، غير أن هناك مواسم مواتية، أكثر من سواها. حين تحتشد النفوس بما يفيض على الطاقة من محبة الأذى، وارتكابه بحماسة تجافي ما جبلت عليه النفس البشرية عادة من صفاء الفطرة السليمة. حين تعم عوامل الهلاك، حين يرتفع المد البغيض الى أعلى مدياته، وحين لا يستنكر الناس ما يرون أو يسمعون من قبح يهيمن على كل شيء.
يمكن لهذا الناقد المزحومة نفسه بالدوافع الصغيرة، أن يلحق الكثير من الأذى في الفضاءات الأدبية التي يتخبط فيها، غير أن أخطر ما يمكنه فعله هو أن يتجاهل عن نية لا تخلو من لؤم، تجربة كاتب ما، أو أن يقف منها، بقصد مسبق، على مرحلة بذاتها. ربما ليوفر على نفسه مشقة القول الخالص لوجه الجمال، أو لكي يشفي غليله النقدي في الحديث عن مرحلة تجاوزها صاحبها، ولم يتبق منها إلاّ ما تتشبث به ذاكرة محشوة بالكيد وسوء الطوية.
فقول كهذا سيكون، دون شك، جارحا وشديد البياض. ينهش صاحبه في عتمة روحه المسكونة بظلام لا يهدأ، ويفضح حقيقته التي ظل يجاهد في التستر عليها. أعني حجم ما تحتشد فيه نفسه من ضغينة أو حسد، أو افتقار إلى محبة الجمال والاحتفاء بصنّاعه، لكن هذا الكاتب، ورغم كل ذلك، وفي واحدة من لحظاته النادرة، سيوجعه، حد الفزع، حجم ما في داخله من تحيز وحسد يمنعانه من أن يكون كبيرا.
هذا نمط ممن يتعاطون النقد، وهم كثيرون في جميع مراحلنا الأدبية، غير أن هناك نمطا آخر من النقاد، لا ينقصهم العمق أوالجمال، في ما يكتبون، لكن لهم، أحيانا، غفلة العالم، التي تشبه احتراق نيزك بعيد. ولا يزال في الذاكرة، رغم مرور الأعوام، موقف ما كنت قادرا على نسيانه. قبل ربع قرن أو أكثر تقريبا، وفي دورة من دورات مهرجان المربد الشعري، التقيت، في بغداد، بصديق لي، وهو شاعر وناقد ذائع الصيت. ودار بيننا الحديث عن مشروعه لإصدار كتاب يضم مختارات شعرية عربية شاملة.
كنت متيقنا أن صديقي هذا مؤهل للقيام بمهمة كهذه، تستدعي أقصى حد من الموضوعية، والوعي، ورهافة الإحساس، إضافة إلى المعرفة الواسعة بالمشهد الشعري العربي وما يعج به من تيارات، ورؤى وأشكال شعرية متباينة. وأقل ما كان يبرر لي ثقتي تلك أن هذا الناقد كان قد أنجز، حديثا، رسالته للدكتوراه، في جامعة غربية مرموقة. لذلك كنت واثقا أن تلك المختارات، التي كان يعمل على إصدارها، ستتجاوز الكثير من نقاط القصور والضعف في كتب المختارات الشعرية الكثيرة التي سبقتها.
فاجأني صديقي الناقد بسؤال أثار استغرابي حقا. سؤال يتعلق بمختاراته من جهة، وبعبدالوهاب البياتي من جهة أخرى. لم يجد صديقي الناقد، كما قال لي، في شعر البياتي، ما يمكن إدراجه ضمن تلك المختارات!، ولذلك أخذ يسألني إن كنت أستطيع اقتراح عناوين بعض القصائد المناسبة لهذا الغرض، باعتباري من الذين درسوا شعر البياتيّ وكتبوا عنه. لا أتذكر العناوين التي اقترحتها عليه، على وجه الدقة، لكن ما أتذكره جيدا أن أكثرها كان لدواوين شعرية كاملة للبياتي، وليست فقط لقصائد منفردة من شعره. ويمكنني القول إن ما فعلته مع صديقي هذا يمكن أن يفعله غيري، إذا كان منصفا ومطلعا، إلى حد معقول، على أعمال البياتي، وليس ممن تصفحها، ذات يوم، تصفح المتعجل، الضجر، الملول.
وللحقيقة، لم يكن ذلك الصديق من المتحاملين أو قليلي الإلمام، غير أنه ربما كان واحدا من المتحمسين لشعر من نمط خاص، شعر يجد فيه، دون سواه ربما، ضالته الشعرية لاعتبارات أيديولوجية أو شكلية محضة. غير أنني أدركت لحظتها أنني أمام نتيجة واحدة، وأن العربة ستظل ذات العربة مهما تباينت الجياد التي تسحبها إلى الحضيض، فالنقد الذي يكتب بدافع اللؤم أو بدافع الجهل أو بدافع انحياز جماليّ ضيق سيقود إلى إلحاق الأذى النقدي ذاته بما يقع بين مخالبه من نصوص.