ذاكرة الشاعر.. ذاكرة القصيدة 

علي جعفر العلاّق

منذ صرخة المتنبي في وجه من انتقدوا شراهة ذاكرته الثقافية حتى الناقد الأميركي المدهش هارولد بلوم والجدل لا ينقطع حول صلة القادم الشعري بسلفه من تراث السابقين. وهو جدل، ولا شك، بين الجسد وخبرته الحارة من جهة، وتلك المسالك المنسلة من الذاكرة أو القادمة إليها من جهة أخرى.
الشعر، عند المتنبي، ليس كله محرقة للروح، أعني ليس خبرة متلظية دائماً، وليس انفعالا باللحظة الراهنة، بمشقتها وبضارتها وفحواها، بل هو أحيانا وربما في أحيان كثيرة، هذه الخبرة المؤسسة على موهبة لا غبار عليها. هو هاتان الدعامتان كلتاهما، الخبرة والموهبة، مشوبتان بالكثير، أوالقليل، مما اندفع لا إلى ذاكرة الشاعر فقط، بل إلى روحه المحتشدة بكل ما يربطه بالأقدمين. عبارة المتنبي “الشعر جادة، وربما وقع حافر على حافر” رغم أنها عبارة شديدة الشيوع، إلا أنها تظل بالغة الدقة، وحرارة الخبرة فيها لا تخطئها أذن أو عين. إنها تشير ببراعة إلى تراكم الخبرات الشعرية، وطرق القول الشعري وتعددها. والشاعر هنا يدفع عن موهبته الكبيرة ما قد يلحق بها من لؤم النقاد والحسدة، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ليحفظ للعابر الجديد حقه في المضي بالدرب ذاته، ويترك لقدميه الحالمتين حريتهما في معانقة الطريق ذاتها الآلاف من المرات. ليس من درب حكرا على عابر دون سواه.
ليس من عائق بين هذا الهواء الغزير، وهذه الطيور التي تسمى رئات إلاّ ما يصنعه بعض البشر عادة، في لحظة انتشاء سادية عمياء. ما عدا ذلك فلكل منا الحق في هذا الهواء كله. قانون كوني، أو ما يفترض أنه كذلك. والثقافة هي ما نغترفه من هذا السيل، القادم إلينا من الجهات جميعا، جهات العقول والقرائح والنفوس المشتغلة على تجليات الجمال العصي على التلاشي. وهي يقظة من سبقونا إلى العمل في النهارات الممتدة، أو السهر الخارق للعادة بحثا عن طريدة عبرت حدود التوهم واقتربت من حرار الكمائن المموهة.
وكما أن الهواء وتراب الطريق، كليهما، شائعان ومتاحان لكل كائن حي، فإن الثقافة الإنسانية أو الوطنية لا يحجبها عن أي منا حجاب. فهي الملكية المفترضة، أوالشائع والمتاح دائما، غير أن ما نبلغه منها لا يتساوى لدينا. هناك دائما لكل منا حصته في الاختلاف، فإن للطريق ذاكرة لا تنسى حرارة أقدامنا أو حيرتها أو إصرارها على المضيّ.
وهذا الهامش الحر الذي يوقظ في الشاعر افتتانه بالاختلاف، وييسر له فرصته الفاصلة، والوحيدة ربما، للذهاب بعيدا في البحث عن شخصيته الخاصة. وذلك لا يعني تنكره لما يتحدر إليه، بوعيٍ أو دون وعي، من خزين الروافد المؤهل للاشتعال في أي لحظة، بل يعني وقوف الشاعر بثبات أمام ذاكرة نشطة مسلطا عليها وابلا من قوى التشكيل، وحركة الوجدان، ومكونات الصياغة.
دون هذا الثبات، وتلك الموهبة اليقظة، لا يمكن للشاعر أن يحتفظ ببصمته حية وفاعلة في خضم هذا الخزين الغافي والقراءات المنسية. كان إدموند ولسون يعبر عن حيرته أمام غزارة الإيماءات والتضمينات الثقافية في الأرض اليباب. لا يكاد يعرف أحدٌ من النقاد، على وجه اليقين، أين تنتهي تضمينات إليوت وأين تبدأ قصيدته.
لكن لإليوت، كمبدع إستثنائيّ، مطحنته الروحية الخاصة التي تصهر كل ذلك الفيض الثقافيّ والمعرفيّ، وتعيد صياغته بملامح إليوتية خاصة. وبذلك يتجاوز هذا الخزين ذاكرة الشاعر ليكون جزءا من ذاكرة قصيدته، ومكونا حيا من مكوناتها الجمالية والفكرية والوجدانية.