قوة الإيحاء وفتور المباشرة 

علي جعفر العلاّق

كان الروائي الإيطالي مورافيا، كاتبا مثيرا للجدل إلى حد كبير. وكان منجزه الغزير، الممتع، الغريزي، الشرس، المشاكس، يندفع إلينا محملا بأقصى ما تدخره النفس البشرية من دوافع وشهوات وميول، تفعل فعلها في الداخل البشري، بصمت وعنف، دون أن يراها البشر المهروسون بين مخالب الحياة وعجلاتها المسننة المزمجرة.
وقد عبر في كتاباته المثيرة للجدل، عن هذا الداخل الإنساني الملغوم بالمعاني المتضادة. ما نزال نتذكر في الستينات والسبعينات رواياته الشهيرة: خيانة زوجة، امرأة سيئة الصيت، امرأة في روما، إمرأتان، السأم، أنا وهو، الاحتقار، وروايات كثيرة أخرى. قال ذات يوم “إن الحقيقة والجمال تربويان في حد ذاتهما”. هذا ما قاله مورافيا وهو يتحدث في إحدى مقابلاته الصحافية، حين سأله المحاور إن كان مورافيا واعظا أخلاقيا.
لم يعرف عن هذا الكاتب التزامه الأخلاقي أو الأيديولوجي، غير أن أدبه بكل ما فيه من شهوة حقيقية للحياة يمثل اندفاع الكائن الإنساني صوب تفتحات الجسد واحتفائه بالمسرات والمباهج غير المحتفى بها في العلن الاجتماعي تماما.
مورافيا هنا لم يكن داعية إلى الأخلاق في يوم ما. وهذا ما قاله هو بنفسه للصحافي الذي كان يحاوره “لست واعظا أخلاقيا”، أي أن أدبه لم يكن يكتب بوازع أخلاقي، يدعو أو ينهى، أو يوجه، أو يشير. الأدب أو الفن لا يحدد القبح أو الفظاعات بصوت عال أو بألوان فاقعة. فتلك ليست مهمة أيّ منهما. إن الالتزام، أيا كان نوعه، ليس حفنة من الوصايا تصاغ بوضوح وصراحة يخلوان من الجمال أوالحميمية.
ما يجسده الأدب أو الفن لا يترك أثره في الروح، ولا تتشبث به الذاكرة إلا إذا جاء جميلا أو متخفيا. إنّ للجمال المتخفي سحرا خاصا، تتضاعف معه قدرته على التأثير. وللجمال الغائم، الذي يومئ من بعيد، ويتمنّع على الرائي، طاقة تتجاوز قوائم الوصايا التعليمات.
قد لا ينجح الكثير من الخطب ودعوات الإصلاح كما ينجح عمل أدبيّ أو فنيّ يجسد القبح والرذيلة بطريقة شديدة الاتقان، فيقشعر لهما الجسد وتشمئز منهما الروح، ونندفع إلى العمل على مقاومتهما والانتصار عليهما. العمل الفني الذي يجسد قبح النفس الإنسانية وبشاعة نواياها قد يبلغ مستوى الجمال المعجز حين يحشدنا، نفسيا وأخلاقيا وفكريا، ضد المظالم وما يُمارس ضد الحقيقة من جور وتنكيل.
إن في القصيدة أو الرواية التي تجسد القبح أو الظلم، بإتقان باهر، دعوة إلى الجمال والحقيقة، وإغراء بالتمرد على أضدادهما، كالقبح، والنفاق، وحطة النفس، لأن لغة الإيحاء والمراوغة، في الأعمال الأدبية والفنية، أشد جاذبية وأعمق تأثيرا من لغة التوجيه المباشر، والإرشاد الذي لا جمال فيه ولا جاذبية.
ونقطة الافتراق الكبرى بين فنون القول واللون والكتل من جهة، وألوان الخطاب الأخرى من جهة ثانية، إنما تكمن في طريقة كل منهما في ملامسة حواس البشر ومخاطبتها لهم. كما أن الخط الفاصل بين هذه وتلك يكمن، إلى حد بعيد، في بلاغة الأولى التي تستند على جاذبيتها وغموضها الجميلين، وفي نزوع الثانية إلى الإبلاغ الذي يعزز توضيح القصد وجلاء الغاية بأقصى ما في المباشرة من تأثير.