المكون الإيقاعي وثقافة الناقد 

علي جعفر العلاّق
حين صدرت مجموعة محمود درويش “لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي”، بعد وفاته، بدا لمن تصفحها أن بعض قصائدها كان يعاني من كدمات عروضية واضحة. كان الأمر مفاجئا لنا، وغريبا على عمارة درويش الشعرية في ذات الوقت. لجنة من أصدقاء الشاعر كانت قد كُلّفتْ بجرد محتويات شقته في عمّان. جمعت متعلقاته الشخصية، وفي مقدمتها بالطبع قصائد درويش التي لم تنشر ومسودات لقصائد أخرى. ويبدو أن بعض تلك القصائد لم يكن قد تجاوز مرحلة المسوّدة تماما، ولم يكتسب صفاءه الإيقاعي الأخير.
ومن يتابع تجربة درويش الشعرية لا بد أنه يدرك تماما أنه شاعر الإيقاع الأمهر. ولا يمكن أن تزل به قدماه المرهفتان في منحدرات العروض الزلقة.
فكيف حدث ما حدث؟
لا بد أن مسودات قصائد الشاعر تلك، كأيّ مسودة شعرية أخرى، كانت تتضمن كلمة هنا، وكلمة بديلة هناك. إشارات مربكة: تشطيب، خطوط، دوائر، وسهام عمياء. ولا بد أن اللجنة كانت في ذروة احتفائها بالشاعر وتراثه. ورُبّ حرصٍ يقودنا أحيانا إلى بعض الخسارات المؤكدة، وربما لم يكن بين أعضاء اللجنة من يمتلك الكلمة الفصل في هذا المجال، غير أن المؤكد، والمؤكد تماما، أن درويش وحده من كان يتخيل الشكل النهائيّ لقصائده تلك.
كان درويش شاعرا يحتله الإيقاع كما كان يصف نفسه أو يصف قصيدته. ولم يكن استعماله للوزن الشعريّ تقليديا، بل كان صاحب اجتهادات بارعة فيه. ولم يكن عروض القصيدة لديه خارجيا أو مُعدّا سلفا. ليس مجرّد قماط من أقمطة الخليل على حدّ عبارة محمد الماغوط، بل كان ابن القصيدة، وعصارة لغتها وصراع مكوناتها، وتوهّجها البلاغيّ. هذا من جهة. وكان، إضافة إلى ذلك، شديد الارتباط بدلالة النصّ من جهة أخرى.
وخلال المناقشات والتعقيبات على ما تعرضتْ له قصائد درويش من هفوات عروضية، ربما كانت ملاحظات شوقي بزيع وديمة الشكر من أبرز ما ظل في البال. لا أذكر أن ناقدا خاض في ذلك الجدل، لأن عدة المعرفة العروضية لم تعد، كما يبدو، مما يحرص عليه الكثير من نقاد القصيدة الحديثة مع بعض الاستثناءات المهمة.
إن ناقدين من طراز كمال خير بك، في أطروحته المتميزة “حركية الحداثة في الشعر العربي المعاصر”، وكمال أبوديب في معظم كتبه المنشورة، وفي دراساته النقدية التي لم تنشر في كتب حتى هذه اللحظة، قدّما نموذجين فريدين في التعامل النقدي مع حداثة القصيدة العربية، والنظر إليها نظرة جمالية بنيوية ثاقبة، تجعل من المكوّن الإيقاعي عنصرا شديد التأثير في آلية التحليل الكليّ للقصيدة.
لا شك في أن وراء تراجع الاهتمام بالمعرفة العروضية أسبابا كثيرة، قد يكون في المقدمة منها، انزياح الفاعلية الشعرية العربية في معظمها إلى التعبير بقصيدة النثر، أوبالنصوص النثرية، التي يصر أصحابها على إلحاقها بقصيدة النثر، بدل قصيدة الوزن أو ما يسمّى بقصيدة التفعيلة.
ليس هذا فقط. هناك سبب آخر، أراه وجيها إلى حد كبير. ففي الكثير من نماذج قصيدة التفعيلة يتعامل شاعر التفعيلة مع الوزن تعاملا تقليديا يقوم على نشوة التطريب، أو الحماسة الصاخبة، بدلا من أن يفجر فيه طاقته الإيقاعية، ويكشف عن إمكانياته التي تثري دلالة النصّ وترتبط بمكوناته البلاغية والأسلوبية.
أما السبب الثالث فلا أظنه يقع بعيدا عما يشتمل عليه الدرس العروضي ذاته من صعوبات ناتجة عن أصوله الكلاسيكية وتقسيماته وتسمياته المتشعبة من جهة، وما يتطلبه من تكييف وانتقاء وإقصاء ليتلاءم مع حاجات النص الشعري الجديد من جهة ثانية.
لقد مرت أجيال من النقاد، منذ خمسينات القرن الماضي، كانت عنايتهم بالبنية العروضية للقصيدة تمثل جزءا حيا من اهتمامهم النقدي ومعاينتهم لحركة القصيدة العربية. وقد شهدنا بعض الامتدادات الواعية لهذا الجيل. في مقدمتهم، في العراق مثلا، علي عباس علوان، ثم من الجيل اللاحق، كان محسن اطيمش واحدا من ذلك الجيل الجديد، الذي كان كتابه “دير الملاك” نقلة مهمة في تحليل القصيدة العربية وتفّحص بنيتها الإيقاعية والنفسية والصورية.
وقد يعجب المراقب لمشهدنا الشعري حين لا يرى ذلك الاهتمام بالقصيدة والنظر إلى بنيتها نظرة كلية تستوعب عناصر العمل الشعري بطريقة شاملة. الاستثناءات لا تزال حاضرة، في انتظار أن تتسع وتتكامل وتندرج في إطار رؤيوي وتطبيقي متناغم. يقف إبراهيم خليل مفسحا للجانب العروضي في دراساته للشعر العربي مكانا واضحا، وكذلك ديمة الشكر وعبداللطيف الوراري من خلال كتابيهما المتخصصين في دراسة العروض وتحليل الإيقاع.
وعلى مستوى شخصي، كنت سعيدا بالشاعر والناقد العراقي علاوي كاظم كشيش الذي تصدى، قبل سنوات، لهذا الجانب الوعر في بنية القصيدة العربية الحديثة. فقد كانت أطروحته عن شعرية البحور المركبة في الشعر العراقي عامة، وفي قصائدي بصفة خاصة، عملا أكاديمياً شديد التميز، وكان شجاعا وعارفا ومرهف الروح وهو يخوض غمار هذه الغابة اللفّاء.