لا تلتفت وراءك بغضب

ليس من صلةٍ، من أيّ نوع، بين هذا العنوان وصرخة المسرحيّ البريطاني جون أوزبورن في منتصف القرن المنقضي، فالماضي الذي أعنيه هنا هو ميراثنا الشخصيّ الحافل بالألم أو المباهاة، فبعد رحلةٍ حياتيةٍ حافلة بكلّ شيء، لن يكون الخريف صديقاً لدوداً بالضرورة، كما أن ماضينا ليس مدعاةً للهجاء دائماً. إن فيه الكثير مما يستحق التذكّر الشجيّ واللهفة التي لن تهدأ حتى آخر العمر…
تأمل ماضيك المزحوم بالتفاصيل البعيدة يا صديقي المتوّجَ بفتيت الفضّة وغبار التعب. تذكرْ شيئاً من حياتك طريةً بيضاءَ وأنت طفل. وتأملْها وهي تحفل بالثقة المتهورة أوالشجاعة المحسوبة بعناية. تأملْها وأنت فرِحٌ بلغةٍ تقتحم بها عالم المباهج المتخيلة، وذاكرةٍ مدرّبةٍ على الحنين. تذكرْ قصيدتك الأولى، أو مقالك الأول، بنشوةٍ تفوق التخيل.
حين نتفحص خطواتنا الشعرية الأولى، مثلاً، لن نفلح في ذلك تماماً دون ذاكرةٍ مُحبةٍ وشديدةِ الوفاء. كم هم الذين نثروا أمام خطاك الصغيرة حفنةً من ضوءٍ أو قليلاً من “الحب القاسي” كما يقول محمود درويش؟
كثيراً ما يحدث أن ينعطف نهر طفولتنا فجأةً دون أن يواصل مجراه رتيباً ومسترخياً إلى مصيره المحتوم. وما كان لذلك النهر أن يغير خطواته المائية صوب وجهةٍ مختلفةٍ لولا أبٌ مثقلٌ بحنانه النادر، أومدرسٌ جادت به صدفةٌ عجيبة. لولا شاعرٌ تعرّفْتَ عليه وأنت مرتبكٌ من هول اللحظة، أو صديقٌ سبقك إلى الاكتمال أو المشقة الدائمة. لا بد أن إنساناً ما، بالغ الندرة، حمل ذلك النهر بيدين حانيتين ليوجّههُ إلى مصبٍ مختلفٍ تماماً، حين أخذنا، مثلاً، إلى تجربة القراءة الأدبية مبكراً.
كنا تواقين إلى تعلّم ما تسمح به أعمارنا الصغيرة عن الأدب والشعر بشكلٍ خاص. فأنت، مثلاً، لم تكتب القصيدة الحديثة منذ البداية؛ فقد كان طريقك إلى كتابتها قد مرّ بمحطاتٍ كثيرة. ربما لأنك لم تتعرفْ، بوعيٍ كافٍ، على متطلبات هذا النمط من الكتابة الشعرية. مع أنك كنت مشحوناً بما يكفي من الحلم والألم والرغبات، وكنتَ تبحث بإلحاحٍ موجعٍ عن شكلٍ شعريٍّ يتسع لهذا الاحتدام الداخليّ الذي يعصف بك. وأنت تقف على المنصة محدقاً في تلك الظلمة الخفيفة، أو العيون المصغية إلى قصيدتك، أترى تلك الوجوه الذائبة في هواء القاعة وهي تترقبك بحنانٍ غزير؟ إنهم جمهورك غير المرئيّ وهو قادمٌ إليك من رماده القديم، الذي لا يزال دافئاً وكريماً حتى هذه اللحظة: ها هما أبواك الغارقان بالدمع والمحبة، وها هو مدرسك الذي التقط أعراض موهبتك وهي تومضُ من وراء مخاوفك الأولى مثل غيمةٍ مشتتة، وها أنت تلتقي الآن بأول شاعرٍ أو كاتبٍ راسخٍ تعرفتَ عليه، فراهن عليك بثقةٍ مشوبةٍ بالكثير من الغبطة.
ربما مررتَ أنت، مثلما مررتُ أنا، بتجربةٍ أكبر من عمرك مع الأوزان الشعرية مثلاً: لم تكن معرفتك بالعروض تبعث على الفرح أو الرضا، فتولّى هذه المهمة غير السارة مدرسُ اللغة العربية، الذي كان يرى فيك مشروع شاعرٍ واعد. وحين عرفَ تخوّفك من العروض، أخـذ بيديك الوجلتين لتجتاز معه حقلاً من الموسيقى الشائكة، وهكذا ظلّ وجْهُهُ المبارك يضيء ذاكرتك حتى هذه اللحظة. ومثل الكثيرين من الشعراء في تلك المرحلة العمرية، كان ميلنا إلى اللغة العربية أول ما يدركه فينا مدرسونا وزملاؤنا من الطلبة على حدٍ سواء. وربما كانت دفاترنا تحفل بإطراءات أساتذة هذه المادة دائماً. ومازلتُ أذكر أن أحد أساتذتي كتب ملاحظةً لا أنساها:”أرجو أن تكون من ذوي الأقلام “، كنتُ في الصف السادس الابتدائيّ آنذاك.
وبعد سنواتٍ طويلةٍ التقيتُ هذا الأستاذ مصادفةً، كان في الذروة من خريفه المهيب، وكنتُ، حينها، أعمل رئيساً لتحرير مجلة الأقلام الأدبية. حاولتُ مازحاً تذكيره بنبوءته القديمة. لم يتذكّرْها بالطبع كما كنتُ أتذكرها أنا في تلك اللحظة. ابتسم بلطفٍ بالغٍ، فرحاً بما وصل إليه واحدٌ من طلابه الذين أثاروا انتباهه ذات يوم. لكنه لم يكن يعلم، ربما، كم كنتُ ممتناً لروحه الأبوية العالية.
كم مدينون نحن إذاً، لأبٍ أخضرَ كالسحابة، كما يقول أدونيس، حمل على كتفيه الواهنتين طفولتنا الغضة، وهو يذود عنها نسمةً من الهواء فائضةً عن الحاجة. وكم علينا أن نحمل من الوفاء لمدرسٍ التقط موهبةً في مجد بداياتها. كانت تهـمّ بالانطلاق، فأحاطها بفيضٍ من حنوّ الأب وعناية المربّي