بـلاد الغيـم والبشاشة

كان مساء لندن يمضي على سجيته متدفقا وكثيفا، يختلط بالضوء الصاخب تارة وتدافع المارة تارة أخرى. وثمة شيء من قلق حميم بدأ يدبّ في النفس. كنتُ في انتظار صديقي الشاعر الذي تأخر عن الموعد على غير عادته. ولم يدُرْ في البال أبدا أن عقب سيجارته، كما اتضح لاحقا، هو السبب في ذلك التأخير كله.
بقية سيجارة موشكة على الهلاك، يلقى بها على الرصيف بإهمال واضح، وثمة خيط نحيل من الدفء لا يزال يتصاعد من قلبها المرضوض. وفي لحظة بالغة الندرة، يلتقط هذا المشهد المتناهي الصغر موظف البلدية اللندني، الذي يجبر الشاعر على دفع غرامة باهظة لقاء فعلته تلك: ثمانون جنيها مقابل طرف سيجارة في رمقه الأخير.
تختطفني هذه الحالة، من نفسي، لتطوف بي متشظيا مستاء بين أحياء بغداد التي ما عادت تصلح للعيش أو الأمل أو الموت الكريم. بعد أن تحولتْ شوارعها، لا أرصفتها فقط، إلى مجمّعات للقمامة والأمطار الموحلة، وبعد أن أصبحت البعض من ساحاتها، ذات يوم، مكبّات للجثث مجهولة الهوية.
كان الموظف اللندني يقظا بما فيه الكفاية، فلم يغب عنه، عقب السيجارة، الذي كان ممعنا في ضآلته حد الغياب. وكان هذا الموظف شريفا بما فيه الكفاية في أداء مسؤوليته. لم يتهاون في الحفاظ على مظهر مدينته العظيمة، كما يحافظ على نقاء ضميره. هل قلت “ضمير”؟ يا لها من كلمة تعطل العمل بها منذ زمن في الكثير من بلداننا العربية، حتى صار ذكرها في بغداد، مثلا، يبعث على السخرية أو على البكاء.
وإذا كنت اتخذت من عقب السيجارة منطلقا لحديثي، فإن لدى الكثيرين غيري أمثلة أخرى، أبلغ دلالة ربما، على ما تتمتع به مدينة لندن أو سواها من مدن العالم الكبرى من قيم التحضر في سلوك الناس. لكن هذه المقالة ستقتصر على تجربة، قد تكون محدودة، لكنها ذات أثر في النفس لا يزال.
أتاح لي التحاقي بجامعة إكستر في ثمانينات القرن الماضي، أن أكون على مقربة من حقيقة كبيرة: إن ما تقوله تفاصيل الحياة اليومية لبلد ما، يكون أكثر دلالة على حضارة ذلك البلد من سجله الأدبي الاجتماعي والأخلاقي المكتوب.
كثيرون هم الذين يقدمون خدماتهم للناس، بأكثر الأشكال تهذيبا، في هذا البلد الراقي، بلد الغيم والتحضر والبشاشة: من عامل التنظيف إلى رئيس الوزراء، مرورا بشريحة واسعة من مقدّمي هذه الخدمات مشفوعة بالابتسامة وعبارات الشكر: موظف الاستعلامات، سائق الباص، قاطع التذاكر، رجل المرور، سائق التاكسي، موزع البريد، عامل المصعد، بواب العمارة، موظف الأمن، العامل في مركز التسوق أو محطة المترو.
إن سائق سيارة الأجرة الإنكليزي، مثلا، يصلح نموذجا شديد الوضوح لخدمة تجود بها عليك بيئة بالغة الحضر. يقف لك باحترام شديد، ويهرع لحمل حقائبك، مبتسما وفي منتهى التهذيب، ويبادرك بالحديث بلطف جم. تصعد سيارة الأجرة، في لندن، فتستعيد في لحظات، بحبوحة إنسانية افتقدتها طويلا. حرمك منها البعض من سائقي التاكسي في أكثر من مدينة عربية. مشهد يدفع بك إلى مقارنة مؤلمة.
يمارس عليك البعض من سائقي الأجرة العرب، استبدادا لا يمكنك تفاديه، بدافع الاضطرار أو بدافع اللطف. مشوار من الضغط النفسي يأكل الكثير من صبرك والكثير من لياقتك. عليك أن تصغي بأقصى ما تستطيع من الهدوء كما يقول محمود درويش، إلى ضجّة الأغاني السوقية التي اختارها لك هذا السائق رغما عنك، وأن تعبئ رئتيك بدخان سجائره، وما يفوح من لغته الرثة من مجافاة للذوق. ومن هذا الباب وبعيدا عن سجلّنا الباهر في كيل الشتائم للآخر الغربي، فإن كلّ من لامس جزءا من نبض الحياة اليومية في هذا البلد العريق، سائحا أو دارسا أو مهاجرا، يدرك جيدا أنه حظي بتجربة فريدة لا بد من الإفادة منها.
غير أن هناك نفوسا تقف أمام تجاربها في المكان والزمان، صمّاء متجهّمة. والأمثلة لا تحصى في العراق أو في غيره. هناك من عاش شطرا طويلا من حياته هنا أو هناك، ثم أوصلته لاحقا صدفة ما الى موقعٍ رفيعٍ، وربما قيادي في بلده. وها هو يكتشف، وبعد فوات الأوان، أنه عاد من البيئة الإنكليزية أو الأوروبية ولم يَعْلَقْ بنفسه شيءٌ من قيم تلك البيئات وسلوكيّاتها الراقية. ألا يحقّ لنا أن نتساءل بألم كبير في أيّ مغارة كان يختبئ هذا البعض عن الحياة وتحوّلاتها العاصفة طوال هذه السنين؟ هل عاش فعلاّ في هذه المجتمعات ذات يوم؟ هل تعرّف حقا على شيء من تلك القيـم، هل تشرّبتْها نفسه بوعي وصدق؟
لا أظن ذلك، لأن انطواء النفس على أكثر القيم تخلفا يشكل حاجزا يقمع في تلك النفس تطلعها إلى الضوء أو تعلقها بالمُثل الرفيعة في الحياة، أو الأدب والفنون، أو تحمل المسؤولية، وكأن هذا البعض ينتمي بعمق مخجل إلى ذلك الرهط الذي قصده الجواهري، ذات يوم، بقوله “لم يبصروا لون السماء لفرط ما انحنت الرقاب”.