ملكوت عبدالله

الشاعر لا يحلق، في الغالب، بعيدا عن أعشاشه الأولى، إلا ليعود إليها بلهفة أشد وأقسى. وهو لا يفارق سماءه التي أطلق في رحابها جناحين حرين كالهواء ومترفين كالقطن. إنه الكائن الذي يفنى في محبة المكان حد انتشاره في الأمكنة كلها، حتى تبدو وكأنها جزء حي من ذاته المتوقدة، أو بعض من تشظيات سيرته المشحونة بالمحبة أو الحنين أو الغضب. وها هو ديوان محمد عفيفي مطر الأخير”ملكوت عبدالله”، (إصدارات دبي الثقافية، 2016) يؤكد هذه الحقيقة بوضوح سخي وعاطفة غامرة.

ويمثل هذا الديوان سيرة شعرية ناصعة لمحمد عفيفي مطر؛ فهي قصائد سير ذاتية بكل ما لهذه الكلمة من حميمية ونبل، إذ يقتلع الشاعر حجارة هذه القصائد وماءها الفوار من انهماكاته في الأرض، واللغة، والموقف الشعري والفكري، وما ألحقه ذلك كله بروحه وجسده من كدمات.
لا شك في أن الكثير من قصائد الشاعر تشتمل، بوعي منه غالبا ودون وعي أحيانا، على الكثير من المنطويات الذاتية التي غادرها الشاعر منذ زمن طويل، لكنها ظلت حية في روحه وذاكرته. وهذا الجزء الذي يكمن حيا في داخله يظل في حالة من الاستنفار الدائم؛ يتحين الفرصة للظهور، والمثول في مرآة الكتابة بكل عنفه وحيويته وتطابقه مع الذات الكاتبة.
يتخذ الشاعر محمد عفيفي مطر من شخصية “عبدالله”، في القسم الأول من الديوان، وشخصية “الفتى” في القسم الثاني منه وجهين لقناع واحد تتداخل ملامحه ومكابداته إلى حد بعيد، وتتناهى إلينا أصداؤه من قصائد كثيرة.
أراد الشاعر، أولا، أن يشد قصائد ديوانه الأخير هذا إلى ذاته بقوة، ويؤكد انتماءها إليه بمجموعة من الروابط، ولعل كتابة قصائد الديوان بيده، وبهذا المستوى من الاتقان والأناقة تكشف عن نية الشاعر في طباعة ديوانه بهذه الطريقة دون سواها، وتكشف بالنتيجة عن رغبته في تعميق صلتها الذاتية به، بإعطائها هذا المنحى الجسدي الكثيف.
وما يؤكد ارتباط قصائد الديوان بحياة الشاعر، أن كل قصيدة من قصائد الديوان متبوعة، كما في معظم شعره، بعلامة مكانية ذات دلالة شخصية بالغة. لقد كان محمد عفيفي مطر، وكما قلت في مناسبة أخرى، دائم الحرص على تذييل قصائده بما يدل على ارتباطه بالمكان، “رملة الأنجب”، مما يفصح عن غزارة المكان وملموسيته، من جهة، ويمثل من جهة أخرى تلك البطانة الروحية والنفسية والشعبية التي ميزت قصائد عفيفي وشكلت تموجها الداخلي المشوب بأوجاع الناس وبساطتهم البليغة. ولم تخل قصيدة من قصائد هذا الديوان من هذا الختم الأرضي الحافل بالمعاني.
تقع هذه المجموعة في مهب طفولة خضراء عاصفة، وفي مناخ كهولة كانت تتعرض إلى القهر حيناً والإهمال حيناً آخر. وهكذا تنتشر تفاصيل هذه الحياة، كخلفية وجدانية وسير ذاتية في فضاءات هذه المجموعة وفي مختلف موضوعاتها.
في هذا الديوان الجميل يتجلى الحرص على المعنى في أمور عدة، كانت في طليعتها ربما عناية الشاعر بتشكيل النص تشكيلا تتضافر للنهوض به عناصر الإيقاع، والصورة، وبناء الجملة، وتوفير قدر معقول من الترابط بين هذه العناصر وبين وظائفها الدلالية والجمالية.
إضافة الى ذلك فإن محمد عفيفي مطر يتخفف إلى حد واضح، في هذا الديوان، من ذلك الانثيال اللغوي الكثيف، ومن تزاحم الصور أو تراكمها المربك، الذي يؤدي، أحيانا، إلى دفع دلالة النص تحت طبقات من المياه الجوفية الهادرة التي لا قِبَـل للقارئ بمصارعتها بحثا عن ياقوتة المعنى في ذلك الخضم اللغوي الهائج.