جمال يعلق بالهواء والأمكنة 

على جعفر العلاق

عندما تغدق الطبيعة الكثير من كرمها الصافي على مدينةٍ ما، فلا أظنّ أنها تفعل ذلك بشكل آلي. النهار، أو الليل، لا يمر مثل جامع النفايات، على البيوت جميعاً وبالطريقة ذاتها. هكذا يخيل إليّ. بل يختار من هذه البيوت أكثرها قرباً إلى ذاته، أعني ما يجعل عتمته أخفّ وأنقى وأكثر رشاقة. فليس لجميع البيوت، ولا لكل الأمكنة النكهة ذاتها أو الدلالة نفسها.
ما الذي يجعل مكاناً ما مكاناً ذا قيمة؟ ليس القيمة المادية أو نفاسة المواد التي شيد بها، أو الكلفة، ليس هذا ما أعنيه فقط ،على أهميته، بل أعني القيمة الوجدانية أو النفسية أو الحضارية لمكان ما.
قبل ثلاثين عاماً، ونحن نمرّ بإحدى ضواحي لندن القريبة من شقته، أشار الشاعر صلاح فائق بيده إلى طابق علويّ من أحد المباني. كانت يده تضج بالحنين والحسرة معاً. قال: انظر. كانت ثمة لوحة معدنية، تعلو شباك إحدى الغرف العليا، تشير إلى أن الروائيّ البريطانيّ جورج أورويل كان، أيام شبابه، يقيم في تلك الغرفة. كانت يدا صلاح فائق تفيضان، لحظتها، بالعرفان المشوب بالمرارة. وفي غمرة حماسته الحزينة تلك، قادني إلى جهة أخرى من المبنى ذاته؛ إلى جزء آخر من سيرة أورويل المبثوثة في تلك الأرجاء. ثمة محل صغير، كان في الأصل مكتبة لسكان هذا الحي، وكان صاحب رواية 1984 يعمل مناولاً فيها.
بدا المكان وكأنه محتشد بروح أورويل. هواء الشارع لا يزال مسكوناً بكوابيسه وروحه الناقمة الشكاكة، وبتمرده على طغيان الإنسان على أخيه. ثم سرنا معاً إلى بيت شاعر الرومانسية الجميل جون كيتس. في ذلك المكان، كنا نصغي إلى هواء آخر. كان مثقلاً بتأوهات جون كيتس وطفولته البيضاء المعذبة، وهي تتصاعد من بقاياه بعد أن انطفأ سريعاً مثل نيزك يتيم.
وقبل ذلك بفترة ليست بعيدة كنت مع صديق لي في زيارة إلى جهة أخرى من جهات الأرض، الاتحاد السوفييتي السابق. مثال آخر ساطع على تقدمهم وتخلفنا؛ بيت بوشكين، في مدينة لينينغراد. حين دخلنا البيت، أحسستُ بأننا نقطع على الشاعر أحد تجلياته النادرة. سترته لا تزال ملقاة على ظهر الكرسي. وفوق الطاولة ورقة تحمل أبياتاً من قصيدة كانت في بدايتها الأولى، وقلم حبرٍ دون غطاء. ربما نهض بوشكين من مكانه قبل لحظات ليعد لنفسه فنجاناً من القهوة. هكذا قلت لصاحبي. لا شيء يوحي بأن غيابه سيكون طويلاً. وكان هناك عدد من القصاصات الورقية المؤطرة تحمل ملاحظات الطبيب المشرف على علاج بوشكين.
كان بوشكين قد أصيب في مبارزة مع ضابط فرنسي من النبلاء، أشيع أن له علاقة بزوجة بوشكين، ناتاليا الجميلة. أصرّ الشاعر، وفقاً لأعراف المجتمع الروسي آنذاك، أن يثأر لشرفه في مبارزة مباشرة مع ذلك النبيل الفرنسي. وهكذا كان. ولم تفصل بين صوت الرصاصة الوحيدة، التي أطلقها جورج دانتس، وموت الشاعر غير ثلاثة أيام طافحة بالعذاب والمهانة. ولم يكن النبأ هيناً على جماهير الشاعر، التي كانت تملأ الشارع وهي تسأل عن حالته. أخذ الطبيب، بعد أن مل من الخروج إليها مراراً، يضع على مدخل البيت تلك القصاصات الورقية ليخبر فيها الناس المحتشدين أمام البيت عن وضع شاعرهم وهو في ساعاته الأخيرة.
كنت أتشرب، من خلال ذلك المكان وتفاصيله المؤثرة، عظمة بوشكين الشعرية وكرامته المجروحة. وكأنني أدفع بكلتا يديّ رصاصة رعناء، أوغيمة من الأصوات المدوية تهبّ عليّ من الجدران جميعا. أبيات الشاعر ما زالت تنتظر عودته المستحيلة، والناس يندفعون من يأسهم السحيق ببسالة كبرى قد تقودهم الى يأسٍ أخفّ أو أملٍ مشكوك فيه.
لا يملك المرء في مثل تلك اللحظات الاستثنائية إلاّ أن يُكْبِرَ في هذه المجتمعات احتفاءها بعباقرتها الخالدين، وسيرهم التي لا تزال تنبض بالحياة، من خلال بيوتٍ سكنوها، أو أمكنةٍ مروا بها، فتركوا على ترابها لمساتٍ روحية لا تخبو. وظلت أسماؤهم جمالاً يَعْلقُ بالهواء والأمكنة.
ونسقط من تلك اللحظات الشاهقة، لترتطم قلوبنا المخذولة بأوطانٍ تتشظى، وتاريخٍ من الحماقات. نصحو لنغرق في حقبةٍ طارئةٍ على أنظمة الكون جميعاً ، شرقاً وغرباً. لا تعرف للجمال أو للنبل معنىً، ولا ترعى حرمةً لطفولةٍ عزلاءَ أو مخيلةٍ حرة.