المبدعون سادة الكلام الجميل

          

  حـاورته: شيمـاء خضر

س- بالعودة إلى البدايات ، كيف اكتشفت “الشاعر” بداخلك وأطلقت العنان للإبداع ليتفجر بين يديك ؟

– في البدايات، التي لا أستطيع تحديدها بدقة، كانت هناك إشارات، أوعلامات، تأتيني مبشّرةً بمستقبلٍ ما ، ينتظر ذلك الطفل، في منعطف ما من حياته. وكان في عائلتي من يغذي عندي ذلك الحلم . كان أبي هو أسطورتي الأولى، علمني القراءة والكتابة وبدايات الكلام الجميل، مع أنه فلاح بسيط. وكان لوالدتي دورها الكبير في تلك المسيرة. ظلت توقد حطب الحلم والأمنيات ، لوالدي، حتى لانَ، وأينعت شراسته. لقد أقنعته بأن مستقبلي ومستقبل أخوتي لا يقبع في هذا الحقل أوذاك، بل في تلك المدينة الغامضة البعيدة. ومنذ تلك اللحظة صارت بغداد، التي سبقنا اليها بعض جيراننا في القرية، جزءاً من حلمنا اليوميّ، وطموحنا الذي سنشدُّ اليه الرحال ذات يوم .

كان مطر البدايات لا يأتي دائماً على شكل كلام ملفوظ. بل قد يأتي من خارج اللغة. كنت أحس أن لديَّ قدرة ما على التخيل، أوالتوهم، أو رواية أحلامٍ  لم تحصل . أما  البداية اللغوية  المحسوسة فقد كانت في السادس الابتدائي، محاولات في القصيدة الشعبية، لم أمكث عندها طويلاً. وفي المرحلة المتوسطة كتبت القصيدة العمودية، ثم بدأت التسلل، خطوة خطوة، الى عالم النشر.

س. لغتك الشعرية حافلة بمفردات مستقاة من الطبيعة، هل البحث عن الجمالية في الشعر جذبك   إليها أم أن جمال الطبيعة وتناقضاته أوحى لك بصور شعرية جديدة ومتفردة ؟

–  شكلت الطبيعة البدايات الأولى لأشياء كثيرة عندي، وأضفت عليها الكثير مما تختزنه من سحر وبراءة : الوعي، والإحساس باللغة، والميل الى التعبير اللافت ، والحلم أوالتوهم . كل ذلك قد ترعرع  في فيض من الشغف بالطبيعة والعيش  فيها حد الذوبان . كانت معظم قصائد مجموعتي الأولى ، وعلى العكس من البدايات الشعرية للكثيرين، تتنفس هواء الطبيعة بصفاء وغبطة، ويمكنك القول إنها قصائد قادمة من طبيعة معافاة، لذلك كانت أنيقة وفي منتهى الحميمية، وشديدة النفور من اللغة السائدة، وما فيها من أورامٍ وترهّلات.

وحتى في مرحلتي الأولى، لم تكن قصائدي ثناءً على الطبيعة بذاتها ، أو وصفاً مجرداً لجمالها الغزير، كما يفعل أكثر الشعراء في بداياتهم عادة. بل كانت، في غالبيتها،  لغة للتعبير عن موضوعٍ ما. لقد أضفت الطبيعة على لغتي، حتى في موضوعات الغياب واللوعة، الكثير من المحبة، واللذة، والإشراق.

ج-  ديوانك الأول ” لا شيء يحدث .. لا أحد يجيء ” ، كان مهدىً لوالدك ، حدثنا عن هذا الإصدار وما علاقته بمحمد شكري.

-كانت قصائدي في هذا الديوان ملمومة، وقصيرة، وشديدة التركيز، وكانت مشاكسة لمنطق اللغة أحياناً. لا تقول معناها بوضوح يبعدها عن شروط الشعر أوغموضه الضروري . وكانت الى حد ما، مختلفة عن الكثير من الشعر السائد، في تلك الأيام كما قلت، حتى في النماذج العمودية التي اشتملت عليها. وقد قوبلت بردود أفعال متباينة، ولأسباب مختلفة. أيدلوجية وشعرية ولغوية وحضارية. كان فوزي كريم وفاروق يوسف أكثر العراقيين قرباً من نبرتها الجديدة. غير أن ما كتبه محمد شكري كان جميلاً وعميقاً بامتياز. كان في الصميم من وعي الحداثة وجدلها حول اللغة والصورة ومصادر الدهشة في القصيدة الحديثة. ” صادمةٌ جِدّةُ هذا الشعر” هكذا كان يهتف ذلك المبدع المغربي، محمد شكري، وهو يقرأ مجموعتي الأولى .

  –      س- تصرّح دائما أنك ضد الثرثرة الشعرية والتعابير المطولة، كيف تطوع اللغة لتتمكن من توليد الصور الشعرية المجازية و إيصالها للمتلقي من خلال نصوصك الشعرية الموجزة ؟

–        لسؤالك هذا صلة وثيقة بالسؤال السابق. تبدو قصائدي، أحياناً، وكأنها قليلة الصبر. يضجرني الكلام الكثير، وأحاول الإفلات دائماً من الباروكات اللغوية والدوران الزائد حول الأشياء. وظللت مؤمناً بهذا السلوك الشعريّ. وربما كان ذلك احتفاء مني بأهـم فضائل اللغة الشعرية، أعني : التكثيف وخفّة المجاز. إن لحظة الجمال قصيرة وخاطفة دائماً . وحتى في قصائد العشق المصفّى ،لا تجنح القصيدة  الى الطول أوالإفراط في التذمر والتجريح . فشكوى العاشق، مثلاً، صافية ومشعة كالياقوت على الدوام. المرضى وحدهم لا يملكون هذه الخصلة، فهم يطيلون في الشكوى، ولا يعرفون الرشاقة أوالإيجاز إلا نادراً. ولذلك كنت أنفر، منذ بداياتي، من الكلام االذي يطول دون رادع ، وأحاول ، قدر ما أستطيع، أن أبتعد بقصيدتي عن فضول القول، الذي يفيض عن حاجة القصيدة ، ولا تستدعيه ضرورة جمالية أودلالية.

– “طائرٌ يتعثر بالضوء” من أرقى الدواوين الشعرية وأكثرها عمقاً، ربما لأن الطائر المتعثر هو العـلاق نفسه ؟

–        لا شك أن الشاعر يمرِّرُ، دائماً، أجزاء  من روحه ، حتى في أكثر قصائده عبثاُ  وتجريباً، ولكن بوسائل مراوغة، وشديدة الخفاء أحياناً. ومن هذا المنطلق فإن ما تقولينه لا يبتعد كثيراً عن الحقيقة.

س- جربْتَ دورَيْ الشاعر والناقد، أيُّ المهمَّتين كانت الأقرب إليك وأيهما الأصعب ؟

–  لا أرى النقد مبتوت الصلة بالإبداع، فهو، كالكفاءة الأدبية ، يتطلب موهبة واستعداداً متجذراً   في النفس ، لذلك فإن ثقافة الناقد أوألقابه العلمية لا تصنع منه ناقداً حقيقياً، إذا كان يفتقر الى الموهبة الأصيلة. ويظلّ لكل من الشعر والنقد منطقه ومباهجه ومنغصاته. غير أن صورة الشاعر ، في المخيلة العامة، تظلّ هي الأجمل والأكثر صلة بالدواخل الحميمة للبشر، حيث الغرائز والرغبات والحلم والتوهم والخوف والملذات .

سنعودُ إلى ليلنا الحرِّ ثانيةً

والقبائلُ من حولنا

وطنٌ من عقوقٍ جميلٍ

ومن صلواتْ

 س- ألا زال حلم العودة إلى العراق قائما ؟

– وسيبقى أجمل أحلامي وأكثرها عذاباً وعذوبة.

س- تم تكريمك خلال الدورة السادسة عشرة 2019-2018 بجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية، حدثنا عن هذا التكريم وأين تكمن أهمية مثل هذه الجوائز بالنسبة للمبدع ؟

-سأعيد ما قلته ذات مرة ، لا شيء يمكنه أن يمدَّ القصيدة بالفاعلية والبهاء : لا السلطة، ولا القبيلة، ولا الشلليات، ولا أخلاق الباعة. كل ذلك سيذهب، يوماً ما، مع الريح. ولن يبقى إلا ما يتوجّب بقاؤه: نقاءُ القصيدة، وانتماؤها الى المستقبل.

المبدعون في حاجة الى ما يؤكد أنهم سادة الكلام الجميل والمعبرون عن أحلام البشر ومتاعبهم. لذلك، فإن الحصول على جائزة مرموقة، كجائزة العويس مثلاً، مناسبة مهمة لتأكيد هذا المعنى الكبير

____________________________________________.

نشرة التجديد الرقمية ، العدد الثامن، في 1-12- 2020، نشرة فكرية ثقافية، تصدر عن المعهد العالمي للتجديد العربي.