عشبة الوهم 2014

 

مقالتان عن المختارات:

 الشاعر الذي ذهب لاصطياد الندى

 قراءة في عشبة الوهم

محمـد الغـزي

 

إنّ الانعطاف على مدوّنة علي جعفر العلاق الشعريّة انعطاف على قصيدة في حال تحوّل وتطوّر مستمرّين، لا تفتأ تبحث عن أفق شعريّ مختلف. فقصيدة العلاق لا تتجلّى على هيئة واحدة مرّتين. كلّ تجلّ يذهب بقصيدة قديمة ويأتي بقصيدة جديدة..فهي ، من هذه الوجهة، رديفة الحياة، ومثل الحياة تفزع هذه القصيدة من التكرار.التكرار يقتل اللغة ، يبدّد قدرتها المبدعة ،يحوّل لألاء نارها إلى رماد .

غيمتانِ على كتفيهِ

حيث حريرُ البدايةِ

إنّ الشعر، عند العلاق ، هو إحدى مغامرات العقل الذي يعمل ويتأمّل ذاته باستمرار .فقصيدة هذا الشاعر ، مثل الكثير من القصائد الحديثة ، أصبحت ، في الكثير من الأحيان ، تخبر عن نفسها فيما تخبر عن العالم ، وتحيل على لغتها فيما تحيل على الخارج ..فالشعر  الحديث أصبح موضوعا وتأملا في الموضوع وكلاما وارتدادا للكلام على نفسه  .

يتأمل حشدَ الفراشاتِ :

وهنالك رعدٌ حميمٌ يدبّالى الروح ..

ورث الضوء عنوأميرة المجاز التي ورثها الشاعر واحتفى بها في كل مجموعاته الشعرية هي الاستعارة ..

ومن أخصّ خصائص نصّ العلاق انبناؤه على الاستعارة لكنّ الاستعارة في مدوّنة هذا الشاعر لا تنحصر في بعض السطور الشعريّة وإنّما تتسع لتشمل النصّ ، كامل النصّ ..فالقصيدة ، لدى العلاق ، عبارة عن استعارة موسّعة ، مجاز كبير يستغرق كلّ عناصر القصيدة وسطورها ..

عزلةٌ مترفعةٌ ،مثلا،

قرونٌ مضت

الفُ جيلٍ مضى

ممالكُ أودى بها الليلُ ..

من دخانْ

 إنّ القصيدة ، كلّ القصيدة ، تحوّلت إلى صورة واحدة وهذه الصورة  تتكوّن من مجموعة من الصور الصغرى( أو فلذات تعبيرية) تغذو الصورة الكبرى وتمدّها بأسباب التوهّج والحضور. لاشك في انّ الصّور غير متّصلة من الناحية المنطقيّة ،ولكن بينها صلات وعلائق من الوجهة الشعريّة..وهذه الصلات لا يمكن أن يكتشفها غير الشاعر وريث زيوس الذي ابتلع قلب العلم وأعاد تكوينه جسما حيّا كما تقول الأساطير اليونانيّة .وهو بذلك يصل وشيجة قويّة مع تيار شعريّ عربيّ اختار اللغة اللازمة بدل اللغة المتعدّية ..اللغة المتعدّية هي التي تراهن على الخارج النصّي تستمدّ منه شعريّتها ، أمّا اللغة اللازمة فهي التي تراهن على نفسها ، أي على صورها ورموزها وأقنعتها لتؤسّس شعريّتها…وهذا التيّار الذي بدأ مع مجلّة شعر قد شهد تحوّلات كثيرة جعلته متعدّدا على وحدته ، متنوّعا على تجانسه.. والعلاق وإن انخرط في هذا التيّار ، واسترفد أهمّ مقوّماته فأنّه حافظ على صوته وتميّز تجربته  .

. أجل ان العلاق يؤمن أنّ الشاعر قرين الخيميائيّ الذي يكره المعادن على التزاوج رغم اختلاف طبائعها ابتغاء الظفر بمعنى جديد يختلف عن المعادن الأخرى اختلاف تباين وافتراق .

إنّ جدل النقض والإبرام ، نقض العلائق القديمة بين الألفاظ وإبرام علائق جديدة تصل بينها هي التي تتيح للغة أن تبتكر نفسها دائما.هكذا يتبدّى الشعر وكأنّه حيلة اللغة حتّى تقاوم الموت والبلى وتتجدّد باستمرار . لكن استخدام المقابلة وقرينها الطباق هو أيضا إحالة علىإنّ العلاق  لا يرى الشعر استرجاعا لنماذج مركوزة في الطباع والعقول وإنّما يراه بحثا عن أشكال جديدة قادرة على الإفصاح عن جوهر التجربة . فالكتابة مثل الحياة لا تتجلّى على هيئة واحدة مرّتين : كلّ تجلّ يأتي بشكل قديم ويذهب بشكل قديم . الشعر اكتشاف مستمرّ للزمن في تغيّره وتحوّله .خروج  دائم على منطق الدهر والجواهر الثابتة وانتساب إلى منطق التاريخ والأعراض المتحوّلة

والواقع أنّ القصيدة الحديثة لا يأسرها موقف واحد أو موضوع واحد وإنّما هي مستودع العديد من الأفكار والمشاعر والرؤى التي تجسّد ، في آخر الأمر رؤية الشاعر للحياة ، الحياة على وجه الإطلاق والحقيقة .  لهذا نخطئ الطريق إلى فهم هذه القصيدة الحديثة إذا تحدثنا عن “معنى  ” لها   جاهز سلفا ..القصيدة الحديثة لا تنطوي على معنى قابع في أعماقها يمكن أن نظفر به متى حفرنا في طبقاتها المتراكبة .المعنى هو حصيلة حوار بين القارئ والأثر  بين  ذاكرة المتقبل  وذاكرة النصّ .أي إنّ المعنى لا يوجد قبل القراءة وإنّما يتأسّس لحظة القراءة .ثمّ إنّ كلّ قراءة جديدة تحنّ إلى تجاوز المعنى القديم في اتجاه معنى آخر مختلف .

هذا النمط من الشعر الذي دأب على استجلاء صورته في مرآة اللغة نهض بوظيفتين :

– وظيفة معرفيّة تتّصل بالرؤى الجماليّة والفنّية التي تحتضنها القصيدة المعاصرة وبالأسئلة الأنطولوجيّة التي تنطوي عليها …

. هذا النوع من الشعر الذي كتبه علي جعفر العلاق هو الشعر الكشف ، الشعر الإضاءة ، الشعر الانخطاف  وهو الشعر الذي لايفتأ يذكرنا بأن اللغة هي سكن الإنسان ، ذاكرته الذاهبة بعيدا في الزمن ، طريقة حضوره في العالم ،عنوان تيهه وانكساره..

 

العــلاق باحثاً عن عشبة الـوهــم

فاروق يوسف

 

حين أصدر الشاعر العراقي علي جعغر العلاق كتابه الشعري الأول (لا شيء يحدث.. لا أحد يجيء) عام 1973 بدا واضحا أن قصيدته لم تنمُ في حاضنة الشعر الستيني الذي كان يومها في أوج حضوره وتأثيره على مستوى ما ابتكره من أساليب وما كان يقترحه من مضامين.

 كان واحد من أهم أوجه الاختلاف الذي أظهرته قصيدة العلاق لا يتعلق بمفهوم اللغة لدى الشاعر وعلاقته بوظيفتها. فإن كانت لغته ذات صوت منخفض فإن لمعانها كان ساطعا. وكان المعنى يسري في عروقها، يتنقل بخفة بين كلماتها، بل بين حروف تلك الكلمات، لكن من غير ضجيج لافت. يجري الإيقاع كما لو أنه كان مطلوبا لذاته، فيتذوقه اللسان وتطرب له الأذن، وهو ما يضفي على فعل القراءة متعة تجعل البحث عن معنى أمرا جانبيا.

شعر العلاق في بداياته، كما في كل كتبه الشعرية اللاحقة (أصدر ثمانية كتب شعرية كان آخرها، هكذا قالت الريح عام 2008، إضافة إلى عدد من كتب المختارات) يمزج الوصف بلوعة النظر إلى الجمال المهدد بالزوال. لا يستجيب إلا لما تحتاجه الكلمة من توتر يناسب رغبتها في خوض مغامرتها اللفظية، وهي تتحول من معنى إلى آخر. هنالك تيه كثير تبدو الكلمة فيه، كما لو أنها صنيعة برية لغوية تقع خارج المعجم المتداول. تقول ما يقوي هذيانها على فصاحته المتهالكة. سيكون على قاريء شعر بمثل هذا التمنع الإيجابي أن يتخلى مؤقتا عن الفهم ليتيح للنغم التسرب إلى نقاط معتمة من روحه. أتذكر أنني لطالما كررت أبياتا بعينها من كتاب العلاق الأول من غير أن أكون معنيا بما يمكن أن تشير إليه من معنى. تقول تلك الأبيات: 

وزع لغة الصبر علينا، 

جرب لغة البكائين ْ

الليلُ،

شبابيك تهذي،

وعصافير الفرحة طين ْ 

في كتاب مختاراته الشعرية الأخير الذي حمل عنوان (عشبة الوهم) والمنشور ضمن سلسلة آفاق عربية التي تصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في القاهرة، تبدو تلك القصيدة بالنسبة لي مثل شراع لقارب مفقود لم يصل إلى الشاطيء. بحثت عنها ولم أجدها فشعرت بالأسى.

كان ظلما مني أن اختصر شاعرا بما اشتبك منه بتجربتي الشخصية، بكل ما تمثله من مزيج انفعالي وتعبيري. لا يحق لعاطفتي أن تكون ميزانا. ولكن هل ينفع في الشغف بالشعر أن نبحث عن الحق؟ شعر العلاق يسمح بأية محاولة شخصية للاستيلاء الشخصي عليه. فهو لا يعنى بالأشياء موضوعيا. بل إنه ينقيها من الشوائب التي تجعلها مقيمة في الخارج. إنه يدسها في ضمير القاريء مثل لقى تم العثور عليها في لحظة إلهام. وكما أرى فإن العلاق، وقد أدار ظهره لتقنيات القصيدة السائدة في العراق لحظة ظهوره، قد اختار أن يكتب شعرا شخصيا تمتزج فيه العديد من العصور الشعرية العربية، فهناك في شعره رومانسية قريبة، وهناك ما يشير إلى عبق عباسي بعيد. إيقاع قصيدته يخلي الطريق أمام الكثير من التكهنات التي تعيد الشعر إلى بصيرته الأولى، فعل انتشاء. يقول:

هذه السيدة ْ؟ 

من أين جاءت

فحركت 

غدراننا الراكدة ْ

سيدة الفوضى تلك هي القصيدة تماما. قصيدة العلاق ذاتها. القصيدة التي تعدي، لا لأنها لا تقول شيئا بعينه، بل لأننا نكتشف بعد اختفائها أنها لم تقل الشيء الذي كنا ننتظره. سعادة ذلك الشعر إنما تعبر عن صفاء سريرته وبراءته وتخليه عن أي ضرر يمكن أن يلحقه بقارئه. حمولة عاطفية تضيق بها اللغة المتاحة فتهرب إلى الخيال. ما يمكن أن يعبر عنه جسد القصيدة هو الأقل دائما إزاء ما تثيره القصيدة من رؤى غائمة تأخذ القاريء، مثل عاصفة، بعيدا عن حواسه المباشرة. هناك قصائد من العلاق، سحر قراءتها يمنع القاريء من البحث عن أسباب إعجابه بها. هناك قصيدة بعنوان (جرس) من كتاب (ممالك ضائعة) تقول:

فاح َ

فأيقظ ماء الليل ِ،

وضجت هائجة ً،

غبراء، خيول الروح ْ

جرس ٌ

من مطر؟ أغنية 

من تفاح، أم سيدة 

تشرق من حجر ٍ

مجروح ْ؟

غالبا ما يهتم العلاق بتدوير جملته الشعرية، فهي لا تنتهي بالسطر الذي تبدأ به، بل تتنفس هواء السطور التي تتابع لتشكل جملة واحدة، جملة تتماهى مع نغم يطلع منها ليستولي عليها. نغم يرفعها من مستوى سلمها اللغوي الغائي إلى مستوى سلمها اللغوي المبعثر بين تجلياته. غموض الموسيقى يلتهم كل وضوح. حينها يصبح الوصول هدفا ثانويا. غير أن الشاعر حين يصل إلى بلده الجريح فإنه يقول كلاما مختلفا في درجة وضوحه. يقول كلاما جارحا لا يستثني التاريخ من لعنته. يقول:

منذ أن كان كلكامشٌ عشبة ً

منذ أن خَلقت بابلٌ لغة ً

للحنين وللموت ِ،

كنا معاً

نتقلب ما بين ليلٍ وليل ٍ

فمن أيما عشبةٍ صاغنا الله ُ

من أيما تهلكة ْ؟

يكفي دلالة على ما نقول أن الجملة التي تنتهي بها مختاراته الشعرية هي :

 – للخراب أم البركة ْ؟