أيام آدم 1993 – 2008

 

مختارات

  • عُكاز في الريح
  • أيــــــّام آدم
  • الشـعــر
  • الخريف
  • أغنيـــةُ المــــرآة
  • مائدة الشاعر
  • الملاذ الاخير
  • مقالة عن الديوان

 

عُكاز في الريح 

الى رشدي العامل

“مــقــاطــع”

انكسـار

يَتكسَّرُ في الريحِ لونُ الشجرْ 
يَتكسَّرُ في الروحِ ماءٌ جميلٌ ..
وتخضَرُّ أسئلةٌ
من حجَرْ . .
 
يتكسَّرُ في الليلِ أُفْقٌ جريـحْ
شاعرٌ يتقدّمُ أوجاعَنا :
ضَوْءُ عكّازهِ مُهرةٌ ..
وذراعاهُ ليلٌ
فسيحْ ..
 
يتقدّمُنا
صوبَ نشوِتِه المدْلهمّةِ 
منكَسراً، ساطعاً ..
مَن سيجمَعُ شمْل أشعّتِهِ:
جسَدٌ يابسٌ أمْ
ضريـحْ ؟
 

رجعنـا إلـى الـريح ثـانية

أحقّـاً ؟
بعينَيْنِ موحشتَـينْ
برملٍ يُغطّي اشتعالَ اليـدَينْ
رجَعْنا إلى الريحِ
ثانيةً ..
لهبٌ من رمادٍ على الموجِ ،
لا شَجَرُ الغيمِ يَغمرُنا،
لا نسيمُ القصائدِ يلمع بين الشِباكْ ..
رجَعْنا إلى الريحِ :
عكّازةٌ تتقدَّمُنـا ..
لافَضاءٌ هنـا
لافضاءٌ هنـاكْ ..

 

 بكـــاء اليمـــــام

قبائلُ مفتونةٌ  بغبـار الكـلام ،
قبائلُ للصيد في الريح
أو في الظـلامْ 
قصائدُ من ورقٍ أو رخـامْ
 
أمِـن فضة الفجرِ
حتى الهزيع الرماديّ
يلمع نهـرُ الكـلامْ ؟
 
الى أيّ ريحٍ خرافيةٍ يرحلُ الآنَ ؟
ضيّقةٌ فضةُ القـولِ 
والموتُ من ذهـبٍ
غــامضٍ ..
 
وانحنينا على العشبِ مشتعلـينِ 
صلاةً  ترابيةً :
حجرُ الريحِ يخضرُّ .. يخضرُّ 
يزهرُ في الريحِ ماءُ الظـلامْ ..
 
وردةً من تراب ٍ على العشب نغدو 
وفي الروحِ يعلو اشتعال النــدى ،
وبكــاءُ اليمـــامْ …
 

رمـاد السرير

يا رمادَ السريرْ
يا بكاءَ الجسدْ..
طائرٌ شعَّ من شجَرِ الغيـمِ
متّشحاً بالندى والرّعَـدْ ..
شبَّ في دغْلِ أيَّامِنا كوكباً شَرِساً،
أيُّ ريحٍ تؤجّجُهُ ؟
أيُّ غــدْ ؟
 
أُفقٌ مسَّ أوجاعَنا
بينابيعِهِ فجأةً ..
وابتعـدْ ..
 
 يا سماءَ السريرْ..
كلنا ننحني اليومَ،
نرفعُ للشِعرِ
شمسَ الجسـدْ ..

 

أيــــــّام آدم 

أمِنْ ضَوْءِ تُفّاحةٍ بدأَ الكونُ ؟
أم بدأَ الكونُ من نَدَم عاصفٍ
في الضميرْ ؟
 
وكيف غدا آدمٌ سيّداً ؟
حينما اندَلَعتْ بين كفّيهِ شمسُ الحصى ؟
حينَما شاعَ في الريحِ عِطرُ رجولَتهِ ؟
حينما جاءتِ امرأةٌ :
 جعلَت من يَديهِ إلهينِ
ثمّ استحالَت بسحرِهما امرأةً
من لظىً، وحريرْ
تتلألأُ مبتلّةً برنينِ الينابيعِ ،
ممزوجةً بغُيومِ السريرْ . . ؟
 
كيف جاءت إليهْ ؟
جلستْ عند أحزانِهِ، واكتوتْ بلظى قدَمَيهْ .. ؟
أشعلتْ دفءَ شهوتِهِ ،ومصابيحَهُ،
ورمادَ يدَيْهْ . .
 
عند زهرِ أنوثتِها أنحني أتشَظّى :
يدايَ إلهانِ منتشِيانِ 
وملءُ إهابيَ غيمٌ قديٌـــمٌ يعذّبني،
ولهيبٌ تحوّلَ بَرْداً ، وحوّلَني مَوْقـِداً
تنفخُ الريحُ عن دمِهِ
كلَّ هذا الرمادْ ..
 
تَعَبي ضَوْءُ أغنيةٍ تتآكلُ  
أيّامُ آدمَ تأخـذُهُ، أين غاباتُهُ وبراريهِ ؟
أيّةُ سيّدةٍتخلعُ الآن أظفارَهُ ؟
وتُمجّـدُ شهوتَـهُ ،وذراعَيْـهِ ؟
 
ماذا فعلتِ بأيّامِ آدمَ يا شهرزادْ ؟
كيف شَبّ على رُكبتيكِ إلهاً حزيناً ؟
له جَنةٌ ليس يملكُها، وطيورٌ تُناكِدُهُ
وعبـادْ ؟
 
كُلَّ ثانيةٍ تنهبُ الريحُ حصّتَها
من بهاءِ الشجرْ..
كُلَّ ثانيةٍ تقضِمُ الريحُ ما تشتهي
من عنادِ الحجَرْ ..
كلَّ ثانيةٍ تتشابَهُ أيّـامُ أدمَ مثلَ قطيعٍ حزينٍ..
فمَن روّضَ، اليومَ، للريحِ هذا الغزالَ الخطيرْ ؟
ألجامٌ من الوردِ يقمعُ صبْوتَهُ للبراري ؟
أشيءٌ من الوهمِ يشحَذُ شهوَتَهُ للسريرْ ؟
كيفَ صُغتِ لوحْشَتِهِ جرَساً؟
لجنُونِ يدَيهِ عبُوديّةً
من حَريْر ؟
 
ذي فصولٌ تُكرّرُ خضرتَها أم أساها ؟
وحوّاءُ وهمٌ تُجدّدُه الريحُ في كلَّأمسيةٍ :
شهريارْ !
أكَمينٌ يُضيءُ سريرَكَ أم جسدٌ    
من رمادِ الثمارْ ؟
تلك حوّاءُ.. فضّةُ ليلٍ قـديمٍ
تكرَّرُها الريـحُ ثانيةً ..
 
فضّةُ الفجرِحوّاءُ، مازَجَها النومُ ،
خالَطَها صَخَبُ الدَّيَكَةْ ..
سَقَطَ الطيرُ منتشياً بدَمِ الشَبَكةْ ..
( قطعةٌ من سماءٍ مجرّحةٍ بين كفّيِه) ..
وانتشَرتْ تملأُ الريحَ بالوهــمِ والحُلْـمِ ..
نشوتُـهُ المربكـةْ . .
 
 
الشـعــر

حين فاجأني الحُلْمُ ،
وانكسَرت سعفةُ الغيـمِ 
طاردَني الشعُر..
 طاردتهُ 
هارباً من دخان يديهْ ..
والتجأتُ إلى الجِنَّ . . .
أضرَمَتِ الجنُّ في جسدي النـارَ ..
أهـدتْ رمادي
إلَيْـه . 
 
 
الخريف

دمٌ
أراهُ عارياً
يئنُّ في مفاصلِ الشجرْ
وامرأةٌ تبحثُ في رمادِها
عن جسَدٍ منكَسرٍ..
وعن ينابيعَ بلا غَيمٍ .. 
وعن بقايا من حرائقِ الثمرْ . .
هـذا الخريفُ شاحبـاً
يحمِلُ في قميصِهِ المشتعلِ :
النساءَ،والخيولَ،
والمطرْ ..
كان الخريفُ شاحبـاً ..
وشاحبـاً كانَ
دمُ الشجَـرْ . .
 
 
أغنيـــةُ المــــرآة

ما الذي يَشتعلُ الليلةَ
في تيّاركَ الغامضِ، يَا ماءَ المراياَ
جسدٌ تجتاحهُ الفضّةُ ؟
برقٌ من حنينِ الروحِ ؟
وهمٌ ؟ أم شظايَا ؟ 
ما الذي يبتهلُ الآن  
 قميصُ النومِ؟ أم جمرُ الجسدْ ؟
أيُ عرْيٍ غامضٍ، يندلعُ الليلةَ
في تيّارك الغامضِ . . . ؟
قامت ..
دخَلَت في فضّةِ المرآةِ ،
هذي فضّة المرآةِ ؟ لا، بل فضةُ المرأةِ
بل ماءٌ ، وجمرٌ، وزبدْ..
ما الذي يندلعُ الليلةَ :
عطرُ الروحِ ؟ أم ضوءُ الجسَدْ ؟
مسَحت حوّاءُ عُشبَ الموجِ 
تصفو فضّةُ المرآةِ :
عرْيٌ يتنامى، جسدٌ يأخذُ  شكلَ النرجسةْ
داعبت تفّاحَها الهائجَ :
عريٌ تتشهّاهُ،
شبابٌ فائحٌ من خشبِ المرآةِ، ماءٌ
شهوةٌ مفترسةْ
تتخطّى خشبَ المرآةِ ..
يغدو ذهبُ الموقدِ مرآةً ..
سريرُ النومِ مرآةً ..
وحوّاءُ تغنّي :
جسَدي مرآةُ هذي النشوةِ المفترسةْ ..
أيّ ريحٍ أيقظت نيرانَه الخضراءَ في الليلِ
ومسّت جَرَسَةْ ؟
كيف للمرأةِ أن تخرجَ من ماءِ مراياها ؟
حنينٌ يمزجُ المرأةَ بالريحِ، وبالكهفِ ،
اشتَعلْنا ..
حافياً أحضنُ نيرانَكِ ؛ عرْيٌ أتشهّاهُ ،
نثارٌ من مراياكِ على الكونِ 
هواءُ العشبِ  مرآةٌ ، ونارُ الكهفِ مرآةٌ ..
دخَلْنا فضّةَ الماءِ ..
إلهيْ ، أيّ عريٍ مسكرٍ هذا ؟
أشمُّ الريحَ، يهمي عُرْيُها الكامنُ في الريحِ 
أرى ماءَ المرايا مائجاً فينا، استَحَلْنا
كلُّنا، الآن، مراياها. اشتعلْنا
في لظى الماءِ، تَرى فينا ندى فّضّتها
تفّاحَها الهائجَ ..
تغدو نبضَ هذا الكونِ، فوضاهُ..
وأنثاهُ المثارةْ ..
ماءَهُ القاسي ونارَهْ . . .  
كيف مرَّ الزمنُ الغائمُ ؟
أعني: ما أمرَّ الزمنَ الغائمَ ..
ماذا تحملُ المرآةُ للمرأةِ  ؟
ريحٌ شرّدتْنا
جرّدتْ حوّاءَ من تفّاحِها الهائجِ
يوماً، جرّدتْنا
من لظى أجسادِنا الخضراءِ ..
ذكرى جسدٍ
مرّ على المرآةِ أم مرَّ على المرأةِ ؟
لو شيءٌ من العشُبِ يغطّي وحشةَ الفضّةِ :
عرْيٌ موحشٌ ..
هذا أنينُ الروحِ أم ليلُ الجسدْ ؟
هل نسيمٌ مسّ هذا الطلَلَ الباهرَ يوماً ؟ 
هل تَشَهّاهُ أحدْ ؟
ما أمرَّ الزمنَ الغائمَ ..
أعني: كيف عاثَ الزمنُ الغائم
في الروحِ،
وأزهارِ الجسَدْ ..؟
سوف نمضي..
كلُّنا نمضي.. كما الريحُ
ولن يُفلتَ طَيرٌ
أو أحـدْ..
كلُّنا نَجفِلُ من مرآتِنا يوماً 
ونُصغي لأنين الزمنِ الغائمِ مُلتاعينَ :
لن يُفلتَ طيٌر، أو حنينٌ،
أو أحـدْ ..
آهِ ..
لا نيرانَ
في المرآةِ ..
يـا فاكهـةَ الروح ..
 ويـا رمـلَ الجسـدْ ..
 
 
مائدة الشاعر

من يشاركُني
خضرةَ الروح أو مطرَ المائدةْ ؟
لا نبيذي نبيذُهمُ لا هواهمْ هوايَ ..
ولا تلكمُ الغيمةُ الصاعدةْ
تستثيرُ طفولتَهم ..
 
 شجرٌ خاملٌ وأرائِكُ من خشبٍ ونفاقٍ قديمـينِ  ..
يا ورقَ الضوءِ.. يا دفءَ غزلانهِ
الشاردةْ
أين أصبحتُما؟
صدأٌ في الأصابعِ
أم صدأٌ في القصائدِ
يقضمُ أجراسَها الباردةْ ؟
ذا نسيمُ المراعي يهبُّ على قـَدَحي :
مطرُ الغائبينَ حوالَيَّ ،
مائدتي الآنَ  مكتظّةٌ ..
شجرُ الليل يفتحُ للريحِ، غائمةً، ساعدَيهْ
خضرةٌ فضة فظة في يدَيهْ ..
يهبطُ الأصدقاءُ الطريّونَ من شجَرِ الوهــمِ ..
يقتادُهم حزنُهم، أم طفولتُهم
صوب نـاريْ ؟
أتحفُّ بهم خُضْرتي أم غُبـاري ؟
مائدتي تلكَ أم بلدٌ آهـلٌ ؟
خضرةُ الروحِ ، أم مطرُ المائدةْ ؟
هاهم الشعراءُ النديّونَ كالغيمِ ..
 يغمرُهم صخَبي وهوايَ..
 تحفُّ بهم  وحدتي الحاشدةْ . .
 
 
الملاذ الاخير

طائراتٌ
تُغيرُ على النومِ ،
كيف انحنَى الحُلْمُ ؟
تلكَ طيورُ الشظايا،
تئِنُّ ، وهذا المساءُ  الكسيرْ ،
طَلَلٌ ..
أين يأخذُنا الليلُ ؟
أيُّهما يترصَّدُ عودتَنا للسريرْ ؟
شجَرُ النومِ  تعبُرهُ الطائراتُ ؟
أم الموتُ حيثُ الملاذُ الأخيرْ ؟
 أدخلي شجرَ النومِ ..
مشتعلاً سوف أكمنُ للموتِ
أطردُهُ عن غزالِ السريرْ . .
شجرُ النومِ
تنهشُه الطائراتُ ،
وتجرحُ عشبَ الفضاءِ الكبيرْ
أين يأخـذُنا الليـلُ :
للنومِ ؟
للريحِ ؟
أم للملاذ الأخـيرْ ؟
 
 

مقالة عن الديوان:

  ماذا فعلتِ بأيام آدم يا شهرزاد ؟

 

د. حاتم الصكـر

من المائيات والشجريات والعالم البرئ البكر الذي تمثله الطبيعة، والذي كرَّس له الشاعر علي جعفر العلاق جزءاً من جهده الشعري منذ ديوانه الأول (لا شيء يحدث.. لا أحد يجئ) 1973، ينتقل إلى الميتافيزيقيا والأسئلة الكونية الكبرى التي لا يظل للطبيعة فيها من تصدر أو هيمنة، لأنها تغدو مفردة في كتاب الشك واليأس والألم، يمر بها كما بسواها من موتيفات الخلق والتشكل ثم الإنقضاء والعدم، وإنعكاس الحيرة الفكرية بشكل أسئلة متلاحقة.

هذا الوصول إلى سؤال الكون عبر سؤال الطبيعة، هو جوهر الرؤية التي تغلف ديوان العلاق (أيام آدم).

وليس التوجيه الذي يقودنا إليه العنوان (وهو عنوان قصيدة في الديوان) إلا تأكيداً لهذه الإنتقالية التي تشكل بالنسبة لقراءتي استنتاجاً مهماً أرى من خلاله أن العلاق انتقل من الاهتمام بالتعينات المكانية في دواوينه السابقة، إلى التمحور حول التعينات الزمانية ممثلة بأيام الإنسان التي تعني ماضيه وعمره الحاضر وحياته التي يعيش فضلاً عن مستقبله المحسوب بها. وذلك نتيجة إنشغال الشاعر بالمطلق وفضاء الكون الذي يحتويه دون تعيين. وعلى صعيد تمظهرات المضمون وتنويعاته المتفتتة عن هذا الموضوع الكوني الكبير، وسنجد أن إعادة سرد الخليقة الشعرية هي الوسيلة المضمونة الأكثر براعة في الديوان، لترجمة هذا القلق الكوني الذي تجاوز الطبيعة وموجوداتها كمرايا لعذابات الإنسان وهمومه.

إن قصة الخليقة تعاد الآن شعرياً ليروي الشاعر من خلالها قصة سقوط الإنسان على الأرض بعد خسارته الأولى، جالباً معه رموز تكوينه التي تلخصها الخطيئة الأولى (إغواء حواء والتفاحة).

لكن الشاعر الحديث لا يعامل هذه الرموز كوقائع محايدة. بل يسقط عليها تفسيرات أخرى، يكون مبرراً بسببها الحديث عن قصة خليقة خاصة بكل شاعر. وهي أمثولة يهبنا إياها درس التناص؛ إذ يذكر تودوروف وهو يتحدث عن المبدأ الحواري لدى باختين:”… فبعد وجود آدم في هذا العالم لم تعد هناك أشياء بلا أسماء أو أي كلمات غير مستعملة. إن كل خطاب، عن قصد أو عن غير قصد، يقيم حواراً مع الخطابات السابقة له والتي تشترك معه في الموضع نفسه.”ولعل من الطريف أن يشير تودوروف إلى آدم تحديداً كما يشير باختين نفسه، وهو ما يعنينا في الحديث عن إعادة تشكيل قصة الخليقة شعرياً، مع بقاء أبطالها التقليديين.. كما يحفزنا ذلك على تذكر نتاجات أخرى للقصة ذاتها، منها قصيدة الشاعر سامي مهدي (حين تعلمنا الأسماء). ولا يضير أن يسرد العلاق قصة خليقة شعرية أخرى، مادام الموضوع منظوراً إليه من زاوية خاصة، وبجوار متصل مع الرؤى السابقة.

يستطيع القارئ أن يكتشف نسقاً تعبيرياً مهيمناً في الديوان هو نسق الإستفهام المعبّر لغوياً ونحوياً عن السؤال. وهو تمظهر بنائي لمضمون السؤال الكوني. فإذا كان الشاعر معنياً بالسؤال عن أيام آدم ماضياً وحاضراً ومصيراً، فإن تأمله يضعه في موضع استفهام على مستوى البنية الشعرية. هكذا يتعاضد المضمون والأداء ويندمجان في شعر الحداثة. فيبدأ الديوان بسؤال وتنتهي آخر قصة بسؤال أيضا. فكأن الشاعر يحاصر قارئه بقوسي سؤال:

1-ما الذي 

 يشتعلُ الليلةَ في تياركَ الغامضِ

 يا ماء المرايا؟

  • مطلع قصيدة: أغنية المرآة

2-كيف انحنى هذا المدى فجأةً،

    وشب في رمادنا فجأةً 

 دمّ يغنيّ

 هائجاً

 كالحجرْ؟

  • خاتمة القصيدة الأخيرة: يقظة الرماد

بل نستطيع القول إن (أيام آدم) نفسها تكتظ بالأسئلة؛ فهي تبدأ بالسؤال التفاحة التي أضاءت ظلام العالم وسديمه قبل أن يسكن آدم الأرض:

– أمن ضوء تفاحةِ

بدأ الكونُ

م بدأ الكون

من ندمِ

عاصفِ

في الضميرْ؟

وكيف غدا آدمُ سيّدا؟

بصدد الأسئلة يذكرنا بارت بأن (الكاتب هو الإنسان، الذي يمتص لماذا العالم في كيف الكتابة) وهو رأي نسحبه إلى منطقة الشعر لنرى إن الشعراء هم الذين يشتغلون على سؤال المغزى (لماذا) ليحولوه إلى سؤال آخر داخل نصوصهم يتعلق بالكيفية أولاً.

وهنا نعود إلى (أيام آدم) الديوان. فلا نجد قصيدة من قصائده تخلو من طوفان الأسئلة. وذلك يضع المتلقي في موضع شكوكي أو متشكك معاً. لأن اليقين والقطع مفقودان هنا.

فبالإضافة إلى بنية السؤال الحائرة والمترددة، ثمة (احتمالية) تلقينا فيها صياغات القصائد التي يغيب فيها السؤال أو ينسحب إلى الخلف. هذه الإحتمالية ما هي إلا صياغة أخرى للسؤال المصيري: لماذا؟ والذي إندرج في (كيف) القصيدة.

ومن أبرز إحتماليات الديوان تلك التي تظهر بصيغ السؤال نفسه. كقوله:

– كيف مرَّ الزمنُ الغائمُ؟

أعني:

ما أمرَّ الزمنَ الغائمَ..

ثم قلبه للسؤال متضمناً (كيف):

ما أمرَّ الزمنَ الغائمَ

أعني:

كيف عاثَ الزمنُ الغائمُ

في الروح، وأزهار الجسدْ

ومن أمثلة (الإحتمالية) التي يضيفها الديوان تنويعاً لسؤال الحيرة ما جاء دون إستفهام:

– مضيا

أعني مضينا

وهذا الإستثمار للقول وتصحيحه بما يعني الشاعر، يبلغ ذروته في ترادف الأسئلة الثلاثة: كيف؟ أين؟ متى؟ في قوله:

كيف انتهينا؟

لم يعد بستاننا الرّيانُ ريّاناً

ولا جمرٌ يدينا

كيفَ؟

أعني: أين؟

بل أعني: متى

 كنّا التقينا؟

إن نسق الإستفهام بنائياً سوف يعاضد نسق السؤال دلالياً؛ فالشعر غير متيقن من أي شيء آخر لذا يسائل نفسه وماضيه واسطورته ليُدخل القارئ معه إلى جحيم الأسئلة.

هكذا تزدحم قصيدته (أيام آدم) بالأسئلة، دون أن تحافظ على عناصر قصة الخليقة كما توردها الكتب؛ فآدم يستبدل بالرجل آناً وبالشاعر نفسه آناً آخر.

كما أن المرأة تغدو حواء أو شهر زاد، لنجد ثلاثة مخلوقات تناظرها ثلاث نساء:

الرجل – المرأة

آدم- حواء

شهريار (الشاعر) – شهرزاد

وهذا المزج بين رموز القصة التكوينية، يؤدي إلى مزج آخر على مستوى السرد. فالشاعر لا يتقيد بالملفوظات السردية بتسلسل واضح بل ينتقل من الحديث عن الغائب (هو آدم في مطلع القصيدة) إلى الحديث بضمير المتكلم (أنا الشاعر) ليعود من بعد الى خطاب المؤنثة (حواء أو شهرزاد)، ويشير إلى الرجل- آدم بضمير الغائب. وذلك يؤدي إلى تذبذب مستويات السرد وتنوع ملفوظاته مما يصعب تأطيره لدى القراءة، رغم أنه يفيد في خلق المزج المشار إليه بين أبطال القصة وتعميم مغزاها المطلق..

ماذا فعلتِ يأيام آدم يا شهرزاد؟

يتساءل الشاعر ناقلاً الحيرة إلى عصر آخر، مخترقاً رمز حواء إلى بديل رمزي آخر يضيف لها رصيداً جديداً على مستوى القراءة. إذ تنضاف الغواية الشهرزادية إلى إغراء حواء لآدم، فكانها تستمر عبر العصور وتعيد القصة كل ليلة.. ولا يقف ذلك عند القصيدة الرئيسية بل نجده حتى في القصائد الأخرى، حيث ثمة شجر (أسطوري هذه المرة) وتفاحة هائجة وعناصر كونية (ماء تراب ونار وهواء) وثمة صراع خفي تفضحه الأسئلة. على المستوى الإيقاعي كانت الأسئلة تفرض قراءة متشككة كما قلنا. لكن ذلك ينقطع أحياناً بجمل خبرية تخرق إيقاع السؤال، بخاصة حين يكون الإستفهام مطولاً أو ممتداً إلى أكثر من بيت أو جملة شعرية  .

* * *

تلك جولة سريعة (في أيام آدم) التي بقي لنا الكثير لنقوله في شعريتها المستندة إلى الوزن الحر والتقفية غير المتشددة (غير المطردة) لكن المهم هو ما تشخصه القراءة في سيرورة شاعر ذي موقع خاص في تيار الستينات الشعري الذي لا يزال يكر على شواطئ الشعر ويوقظ صمتها المسترسل الكسول…