سيد الوحشتين 2006 

 

مختارات

 

  • دُلّنـي يـا هـــواي
  • أرضٌ مــن الأضــداد

 

  • مــالك بــن الــريب
  • لـوعــةُ امــريء القــيس
  • حبرُ الـوَحشـة
  • ملكاً كنتُ على الريـح
  • أوهـــــــام
  • المـجـنــــون
  • مقالات عن الديوان

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
دُلّنـي يـا هـــواي

 نجمةُ الأربعاء
    مقاطع
تتجمّع في آخر النــومِ
تقبلُ وارفـةً مثل مجمرة حُلُماً ذائباً في الهواءْ
أيّ يومٍ هو اليومُ؟ أيُّ الفصـولِ؟
طيورُ القطا تتشـمّـمُ أعضاءَهـا
وتسيَّجُ أعشـاشهـا بحرير
الغنــاءْ ..
أهو الحلْمُ عذباً يباركُ لي لغتي،
ويعطّرُها بالندى
والنساءْ؟
تتنامى..
تغيــمُ..
وتدنو، كما النومُ، سهواً إليَّ ..
الرياح نشيدٌ من الرغباتِ يرجُّ القصيدةَ ..
حِنّاءُ أقدامها وردةٌ في العروقْ
تتخيّر لي مقعـداً بين أيامها ..
الصبا وارفٌ
والمدى عامرٌ باشتباكِ البروقْ..
فجأة  تتخطّفها الريحُ..
هاوية تتناسلُ:
لا غيمةٌ في أعالي القصيدةِ
لا وردةٌ في الشقوقْ ..
وألوّح للبحرِ:
صقرٌ حزينٌ يطير إلى آخر الليلِ
منكسراً، ليس من عشبةٍ
أو أحـــدْ..
نجمةٌ أيقظتْ حكمةَ الروحِ
أم أيقظت صبواتِ الجسدْ؟
أي ماضٍ نحثّ إليه الخطى؟
وإلى أيّ غــدْ
سوف نمضي ..؟
 
أتأتينَ نائيةً مثل وهـــمٍ؟
وتمضين مقبلةً كالبكاءْ؟
ألكِ الفجرُ مشتعلاً كالمرايا
ولكفيَّ، موحَـشتينِ،
المساءْ ..؟
 
من تُرى جاء سهواً ؟
وأيٌّ مضى مسرعاً؟
أيّنا سوف يصغي؟
وأيٌ يقــولْ؟
من يحصّنُ أنهارنا ضدّ هـذا الذبولْ؟
من يخلخلُ إيقاعَ هذي الفصولْ؟
من يعود بها يا تُرى
سُـحُباً، ملءَ قمصاننا ..
أوقـرى..؟
 
أغزالٌ من الرمل ذاكَ؟
أم امرأةٌ  
أشرقتْ فجأةً في دمايْ؟
تتسربُ عبر شقوق القصيدةِ
تجتاحني: حُلُمي ممطرٌ
ورمادٌ يــداي..
 
القطا مثقلٌ بكوابيسهِ
وأنا اثنانِ يقتتلانِ بلا رحمةٍ
لغتي من حجارٍ
وغائمةٌ شـفتـايْ..
 
أيّنا أنتَ؟
أقصدُ أيٌّ أنـا ؟
ثم أيٌّ خطاكَ، وأيٌّ خطايْ؟
دلّني ..
دلّني ..
يـا هــوايْ..
________________________________
– نشرت هذه القصيدة في مجلة ” نزوى” بعنوانها الثاني: ” نجمة الأربعاء” .
 
 
 
 
أرضٌ مــن الأضــداد

      إلى الجـواهـري

 لمن تغنَّي أيّها  الراحلُ ؟
 لا دجـلةٌ  تـلكَ
 ولا بـابـلُ ..
 
كلتاهما مـوتٌ 
وكلتاهما نارُ البداياتِ 
أيقوى على فوضاهما شيءٌ  ؟
أيقـوى دمٌ ؟ أو لغـةٌ هـوجـاءُ ؟
أو سـاحـلُ .. ؟
 
أرضٌ من الأضدادِ :
كم أشرقتْ ..
وكم غفـا مصباحُها الذابـلُ
أرضٌ من الأضـدادِ : 
قيثارةٌ، وقـاتلٌ يجتـاحهُ قاتـلُ ..
تـرفـلُ بـالمــوتِ ولكنهـا:
تفـنـى وتحيا طفـلـةً
بابـلُ ..
 
 
مــالك بــن الــريب

لا نـدامايَ، ولا ظلُّ ردائي ..
لا غزالاتُ الغضا 
لا امرأةٌ تُقبلُ من مملكةِ الرمّانِ:
 مَن يحمل للقـبرِ بقايـايَ ؟
 ومن يملأ إبريقيَ بالنـومِ ؟
وبالخمرِ إنـائي ؟
أيّها الرمحُ الذي يٌعْولُ مثل الذئبِ :
لم يبقَ نـديـمٌ غـير هـذا المـوتِ 
بـين الـرمـلِ والـذكـرى :
 دماءُ الخيلِ قدّاميْ
وأشلاءُ المغنّـينَ ورائي ..
كـن رشيقـأ، مثل ظبيٍ ، أيهـاالمـوتُ ..
وكن كـامرأةٍ  تقبلُ من مملكةِ الرمّانِ
كي تمسـحَ بالمسكِ خـطـايـايَ ..
 وبالـدمع ردائـي..
 
 
لـوعــةُ امــريء القــيس

هـودجٌ غـائـمٌ ..
وقـرىً تتمـاوجُ في الـريحِ ..
فاطمةٌ ترحلَ الآنَ :
أيّـةُ قيثـارةٍ كُسِرتْ فجـأةً
فتنـاثرَ، في الكـونِ ، حـبرُ الغنـاءْ ؟
 
إنهـا ترحـلُ الآن :
تحمـلُ جمـرةَ حنّائـها
وتفتّتـها وردةً ..
وردةً ..
في العـراءْ  . .
 
أخـذت معـها نومنـا الممـطرا
أخـذت كلَّ عشبِ القـرى
أخـذت معـها صولجـانَ الأنوثـةِ :
     لا فضـةُ الفجـرِ دافـئـةٌ
     لا المسـاءْ ..
 
آهِ فاطـمُ ..
مـاذا تـركتِ إذن لقصـائدنـا
طللاً باليـاً، أم بقـايـا 
ن
س
ا
ءْ
؟
 
 
حبرُ الـوَحشـة 

كنا مضيئينِ ..
بلْ كنّا نَفيضُ أسى وغِبطةً ..
وتُغنّي حَولَنا الريحُ ..
نُعاسُنا مُمطِرٌعُشباً ويقْظَتُنا غَمامَتانِ
وأيْدينا المَصابيحُ ..
 
نَدنو من النّارِ 
نَفْنى في تَشَمُّمِها حتّى نُجنَّ ..
أحلْمـاً كانَ أمْ لغـةً
يُفْضي بِها جَسدٌ يغلي إلى جســدٍ ..؟
 
آهٍ، كمْ امْتَلأتْ أقْداحُنا فَرَحاً مـراً 
كم اشْتَعَلتْ أصابِعٌ، ومرايا
 كم بكى جسدٌ من لـذةٍ ، وتشظى 
كم بكت روحُ …
 
واليومَ ..
– مهْلاً
أقـلـتُ : اليـومَ؟
أيُّ غـدٍ يجتاحُنا ؟
هل سرابٌ ذاكَ أمْ سحبٌ خفيضةٌ ،
أم يدٌ تصغي لحيرتها؟
أم حِبْرُ وحْشَتِنا، كالغيـمِ
 مَسْفـوحُ ..؟
 
تَنأى بِنا الرّيحُ : 
كلٌّ صوبَ هاويةٍ
يسوقُنـا مطَـرٌ أعْمى وتبْريـحُ . .
 
 
ملكاً كنتُ على الريـح

سطوة تكتسحُ المرآةَ، رعْـدٌ
من نياشينَ، ودربٌ
مغلقُ ..
 
ملكاً كنتُ
على الريحِ، وكانت
بضحايايَ تموجُ الطرقُ
ورعايايَ قطيعٌ يتغنّى بيَ مفتوناً ..
وكان الأفـقُ
شـعراءً يتغنونَ بطغيانيَ ..
 
ماذا يا دمَ المرآةِ ؟
هـذي مدنٌ نائحةٌ، أم أُفُـقُ؟
 
يهطل الليلُ على الليلِ كثيفاً،
وضحايايَ أنينٌ يملأ الريحَ،
وليلٌ ضَيّقُ ..
 
تنحني المرآةُ
مرآتينِ، أيامي ترابٌ ..
لا غناءٌ ينحني لاسمي:
شظايا ونياشينُ من الطينِ ..
بماذا أثـقُ؟
ولماذا كل شيءٍ حجرٌ
مكتئبٌ، أو ورقُ؟
 
شعرائي ورقُ
ونسائي ورقُ
وسماواتي وبطشي ورقُ:
أيّنا المرآةُ ؟   
ليلٌ من أنينٍ 
ومدىً، منكسراً، يحترقُ …
 
 
أوهـــــــام 

أنّ المتاهاتِ أشرعةٌ ،
وبأنّ الحصى سحبٌ
ممطرةْ ..
 
لك أن تتوهّـمَ :
أنّ السرابَ نبيذٌ 
وأنّ التماعاته مُسكرةْ ..
 
لك أن تتوهّـمَ …
لكنْ :
أهذا الذي أنتَ فيهْ
خرابٌ وتيهْ ؟
أم هو الوهـــمُ يا سيّدي  .. ؟
 
 
المـجـنــــون 

من تُـرى
أوصلكَ الـيومَ إلى هـذا المتاهْ ؟
لا خفـافُ الإبـلِ الحمقاءِ قـادتكَ إلى ليلى
ولا هبّت عـلى معـولكَ النائحِ
أقمـارُ الميـاهْ . .
 
كيـفَ أوغـلتَ ؟
حفـرتَ البـئرَ حتّـى بكـتِ الإبـرةُ ..
واشـتدّ عـليكَ الليـلُ حتـى اختلـطَ الحـابلُ بالنـابلِ،
والمـوحـشُ بالآهـلِ، حتّـى بلـغَت حـيرتُكَ الكـبرى مـداها
فلمـاذا يـأسـكَ الـوارفُ يـبلغ مـداهْ ؟
 
يَتـها الـريحُ الخريفيّـةُ 
يـا ُقـبَّرةَ الـوحشةِ، مـن أيقـظكِ الليلـةَ ؟
ُأفْـقٌ مـن رعـاةٍ ؟ إبـلٌ هـائجـةٌ تمـرحُ
في ذاكـرةِ المجنـونِ ؟
أم ضـوءُ خطـاهْ ؟
 
مـورقٌ عكّـازه الأعمـى 
وأحجـارٌ يـداهْ ..
 
 
 
 
 
مقالات عن الديوان:

 

                                                  علي جعـفـر العـــلاق 
                                                   شـاعـر زمن الـوحشـة 
 
                                                   د.عبد العزيز المقالح 
-1-
أعتقد أن الشاعر علي جعفر العـلاق ليس بحاجة إلى التعريف، ومع ذلك لا بأس من الإشارة إلى أنه، إضافة إلى كونه شاعراً كبيراً، فهو ناقد مهم، ولعله من بين أهم الشعراء العرب المعاصرين الذين أقنعوني بأن الشاعر لا مفر له من أن يكون ناقداً. وكما كان العلاق شاعراً متميزاً بصوته الشعري، فقد كان متميزاً في نقده أيضاً، ومن يطالع الدراسات النقدية المتأنية والعميقة لهذا المبدع التي تناول فيها جوانب من الإبداع العربي القديم والحديث، يدرك مدى الجهد الذي أعطاه هذا الشاعر للنقد الأدبي، وما أضافه بأسلوبه المتألق من رؤى تجديدية، تندرج ضمن العملية النقدية الهادفة إلى ترسيخ الوعي بالنقد العربي الحديث وفي إضاءته الواسعة والمختلفة.
وهذه الإشارة لا تعني أنني سأحاول الاقتراب من علي جعفر العلاق ناقداً فذلك ما لا أريده، وليس من شأني في هذه الزاوية على الأقل، وإنما جاء التنويه بدوره النقدي في سياق الحديث عن عمله الشعري الأخير «سيد الوحشتين» بأحزانه الحارقة وغنائيته العالية، للتذكير بما ينقله الشاعر الناقد إلى قصيدته من خبرات تتجسد في مظاهر عدة، منها انتقاؤه للمفردات، وعنايته بالتراكيب والصور، واختيار الإيقاع المناسب لأفكاره ورؤاه. ولعل ما يدهش المتابع لقصائد هذا العمل المتفرد أن الموسيقى تستخدم الشاعر أكثر مما يستخدمها، وأن هذا الاستخدام يأتي عفوياً طبيعياً ومتناسباً مع روح النص وأجوائه، وهو منذ بدأ يكتب الشعر مسكون بهذه الغنائية الصافية العذبة، التي تجعلك تتخيل أن الشعر من دونها يفقد الكثير من روحه ووجوده. يضاف إلى ذلك أن شعره – منذ تلك البدايات – يكتسي ملامح شجن عميق غائر في ثنايا القصيدة. وهو في هذه المرحلة، وفي «سيد الوحشتين» بخاصة تتوتر لغته وتشف عن بكائيات تتناسب مع الواقع الذي أفضت إليه الأوضاع في بلده، حيث يبكي النهر والصخور والأشجار، وحيث كل شيء في ذلك البلد العظيم يندب حظه السيئ وأحلامه المكسورة: 
لمن تغني أيها الراحل؟
 لا دجلةٌ تلك، ولا بابلُ
 كلتاهما موتٌ، وكلتاهما نار البدايات،
 أيقوى على فوضاهما شيء:
 أيقوى دمٌ، أو لغة هوجاءُ، أو ساحلُ؟
أرضٌ من الأضداد:
 كم أشرقت، وكم غفا، مصباحُها الذابلُ.
هل أقول إن كل ما في ديوان «سيد الوحشتين» تداعيات بكائيات تجسد الجراحات الذاتية والعامة، وتكشف أن شاعرنا ليس سيد الوحشتين فحسب، بل وسيدا للغة التي يستخدمها بجسارة، ويتحرك بها ليجسد الأفكار والصور، ويقيم جداريات باذخة للجمال المؤلم الحزين. ولا ينسى أنه ينتمي شعرياً إلى جيل يمتلك إحساساً تاريخياً فائق التطور باللغة، وما تعد به الشاعر المتمكن من قدرات، وأعني به الجيل الستيني الذي جاء بعد أن كان نظام قصيدة التفعيلة قد ترسخ وصارت له مواصفاته اللغوية والفنية الثابتة، وعلى رغم أن المعنى كان هو الأصل في شعر هذا الجيل إلا انه لا يأتي مجرداً من كثافة اللغة واستعارة المجاز: 
 نائحاً أحضن الندى
 مطفأ ً، أحضن الرمادْ..
 كم تدانيتَ ياردى
 كم تناءيتِ
 يا…. بلادْ
-2-
تجسد المرحلة الراهنة بالنسبة إلى الشاعر العربي عموماً، والعراقي خصوصاً امتحاناً عسيراً ليس لشاعريته وسعة خياله فحسب، وإنما لجرأته على البقاء وحتى لا يكرر في لحظة يأس عاصف ما فعله شاعر فذ ونبيل هو خليل حاوي عندما فوجئ بمنظر أول دبابة تقتحم بيروت، فلم يستوعب المشهد وأطلق النار على نفسه ليحررها من معايشة الإذلال والرضوخ للواقع الرهيب المستعصي على الفهم، في زمن يكتظ بالإعلانات عن الحرية والعدالة وحقوق الشعوب والأفراد.
وما من شك في أن الشاعر العراقي – هو الآن – أكثر شعراء الأرض قاطبة حزناً ووجعاً وغضباً، وهو يرى الموت المخيف يبتلع العراق إنساناً ووطناً، بعد أن تحول إلى ميدان للقتل البشع والانتقام من الذات والتهجير القسري. وعلى رغم إجماع الباحثين على أن الإنسان العراقي غير قابل للكسر تحت كل الظروف الاستثنائية، وأنه قادر على الخروج في نهاية قريبة من براثن هذه المحنة الفتاكة إلا أن شلال الدماء الهادر، ومعطيات تحالف عصابات الموت مع الاحتلال، وانهيار مبدأ المواطنة يجعل كل شيء قابلاً للكسر. ومن هنا يمكن فهم حجم السواد الذي يغطي جميع الإبداعات الشعرية الصادرة عن المرحلة وما حفلت به من تعابير فاجعة وغناء حزين يقف ديوان «سيد الوحشتين» للشاعر علي جعفر العلاق في طليعتها:
 سقف روحي خفيضٌ،
 خفيضْ،
 وأحزانها عالية ْ..ْ 
 والطريق إلى الفجر أسئلةٌ: 
 أفق ذاك أم هاوية ْ؟
أي حزن شخصي عالي الآهات، خفيض النوح، هذا الذي يتوهج من أحدث دواوين هذا الشاعر المسكون بالوحشتين، وحشة الخاص، ووحشة العام، وأي جراح غائرة في قلب هذا المقطع الشعري تعكس حريق الجراح التي يئن تحت وطأتها شاعر ما انفك يبكي وقوع وطنه في براثن الاحتلال والتفتيت في قصائد يتعالى منها الألم الحاد والشجى الشخصي والدعوة غير المباشرة إلى اجتثاث الظروف التي أدت إلى الاحتلال ومكنت أعوانه من السيطرة:
 «لمصباحي المكفهر،
 الصغيرْ
 وحشةٌ،
 ولهذي القصيدة، هذي الشوارع ِ،
 هذا الفراش الوثيرْ
 وحشةٌ، فأنا الآن، يا صاحبي،
 سيد الوحشتينْ:
 أتدفأ بالحلم حيناً، وبالوهم حيناً،
 وأرجعُ:
 شيخٌ من البرد، بين عظامي،
 وشيخٌ من الوهم ملء اليدينْ 
وأي صوت معذب يحتوي هذا الصراخ المزدوج الممزق بين الذاتي في أقسى إيقاعاته والموضوعي في أوضح دلالاته؟ ومن يرجع إلى الأعمال الشعرية السابقة للشاعر علي جعفر العلاق سيجد جذوراً لهذا الحزن الغنائي، لكنه كان حزناً شفافاً هادئاً يختلف كثيراً عن هذا الحزن الحارق المشحون بالكآبة والإحساس الهائل بالفجيعة:
«ماذا سنفعل؟ لا غيم على أفقٍ، 
ولا جياد تضيء الليلَ
أسئلةٌ كما الأفاعي وأيامٌ
مبعثرةٌ كما الصخورِ،
أما في الريح أغنيةٌ
لليائسينَ؟
سألنا الريحَ 
هل حملت الى قصائدنا
ورداً، وهل كسرت عاداتها؟
وسألنا النهر كيف جرت
مياههُ دون أعراسٍ؟
أيا وطني إنا يتاماك 
العالم الشعري لسيد الوحشتين لا يقوم على الخيال ولا يستسلم للواقع بموضوعيته ومباشرته، إنه مزيج مدهش من التعبير، الخيال فيه أكثر واقعية والواقع أكثر خيالاً، عالم تفضي فيه القصيدة بعمق موجع صوب حقائق الواقع، بأسلوب وخيال ينصهران ليكتبا شعراً، ولا شيء غير الشعر في ألقه وبهائه.
 
 
                                      بـلـغ الحــيرة الكــبرى
                                      فصار سيـد الـوحشتـين
 
                                       يوسف عبد العزيز
أول ما يطالعنا في هذا الديوان الجديد (سيد الوحشتين) للشاعر العربي العراقي (علي جعفر العلاق) هو صورة مجنون ليلى الهائم على وجهه في البراري، والذي أوصله حبه إلى التهلكة. لكن هذه الصورة وإن بدت محاولة لاستعادة قصة المجنون الشهيرة، فإنها تتحدث هذه المرة عن المجنون الجديد الموله بحب العراق. التماثل كبير بين الحالتين القديمة والمعاصرة، غير أن العلاق قد عمل على تطوير الحكاية التاريخية، بحيث جعل المجنون المعاصر يزداد وعياً باللحظة الراهنة، فلا يترك نفسه لليأس. وبدلاً من أن يستسلم للهزيمة فإنه يشدّ بيدين جسورتين على عكّازه الذي أورق ويواصل المشوار: 
كيف أوغلتَ؟ 
حفَرتَ البئر حتى بكت الإبرةُ
واشتد عليك الليلُ
حتى اختلط الحابل بالنابلِ
والموحشُ بالآهلِ
حتى بلغت حيرتك الكبرى مداها،
فلماذا يأسُك الوارفُ لم يبلغ مداهْ؟ 
ثم: « مورق عكازه الأعمى وأحجار يداهْ 
نشيد الألـم
صورة المجنون هنا هي أحد أهم المفاتيح التي يمكننا بواسطتها دراسة قصائد هذه المجموعة الشعرية، ففي كل مرة تسقط بين أيدينا الأسئلة الجارحة إيّاها حول الذي حدث في العراق، أما الإجابات فتبدو باهتة وغير مقنعة، مثل هذه الحالة العدمية من اللاجدوى وغياب اليقين تدفع بالشاعر نحو اعتناق الجنون، كحلّ مُفترض للخلاص، لكن الشاعر في غمرة هذه الغيبوبة التي تتخطفه، وأمام حالة الخراب الطاغي المعربد الذي يجتاح كل شيء، يشرع في تفقد جسده، فيعثر على ذلك الحبل السري الذي مازال يربط قلبه بالعالم، ويضخ إليه الضوء. المزيد من الاغتباط يتملك الشاعر الذي يلقي بنفسه في تيار الحب الشرس القاسي غير آبه بالنتائج. لكأن الشاعر عبر هذه العملية أراد أن يُعيد الاعتبار للحبّ، باعتباره السلاح الأمضى للعشاق في مواجهة أعداء الحياة: « لي بلاد أحبها وهي تنأى.
هذه العبارة تتردد مثل لازمة في نشيد اللوعة، أو نشيد الألم الضاري الذي بين أيدينا، والذي يحاول من خلاله الشاعر الوصول إلى تلك الأرض المحتجبة القائمة وراء دخان الحروب. المفارقة هنا تكمن في هذا التضاد الذي يحدث، ففي الوقت الذي يلتهب فيه قلب الشاعر بحبه لبلاده ويقترب منها نجد أنها على العكس من ذلك تبتعد عنه. إنها سرعان ما تتطاير من بين يديه كالغيوم، وتتركه عُرضة للذئاب. ربما كان هذه الشكوى نوعاً من أنواع العتاب الذي يبث العاشق أحياناً لمعشوقه القاسي، لكن هل يتوقف الشاعر عن هذا الحب؟ هل يترك تلك البلاد للصوص التاريخ والقتلة كي يُصادروها منه؟ يقول : 
أين تمضينَ؟
بل أين أمضي؟
كلانا مُقبل أم مهاجرٌ
أم كلانا جاء من حلمه القديمِ؟
أنحن اثنان أم واحدٌ؟ 
شقوق يدينا مخبأ للنهارِ
أم لرمادٍ أخضر الريش..
بعد هذه المناجاة بينه وبين بلاده، بعد هذه الأسئلة التي هي بمثابة تضرعات يبثها قلبه الولهان باتجاه أرض الطفولة والأحلام يهتف الشاعر بما يشبه تأكيد الحب : 
بابلٌ أنتِ
ما لنا عنك منأى…
تمائم شعرية
يحتشد الديوان بعناصر الموت، والتفجع على مصير ذلك الوطن الفاتن المغدور الذي ينوء تحت وطأة المذبحة. ثمة بكائنات تندلع في كل مكان، ونشيج حارق يقطع الأنفاس. ثمة وحشة مجلجلة تفترس الشاعر في الليالي الحالكة، وتهيل عليه رمال النسيان، ثمة حيرة كبرى وصل إليها. في هذه الأجواء الملتبسة العابقة بروائح الموت يلجأ الشاعر إلى علاج روحه المريضة من خلال مجموعة من التمائم:
(1) تميمة يوسف: يُسقِط الشاعر القصة التاريخية المعروفة ليوسف عليه السلام، وما حدث معه بسبب جماله وغيرة أخوته منه، على الوضع المعاصر في العراق. ثمة شبه كبير بن الحالتين، ولكن الشاعر لا يكتفي فقط باستلهام القصة التاريخية، وإنما يقوم أيضا بإلقاء عدد من الأسئلة المحيّرة بين يدي القارئ، مثل: 
« هل يوسف طفل البئر أم حيرتنا الكبرى؟ » 
و « هل تمتلئ الآبار بالوحشة أم بالضوء؟ » 
وكذلك « من كان قتيل البئر يا يوسف؟ » 
مثل هذه الأسئلة التي يُطلقها الشاعر تنقل الحكاية من مستواها الواقعي المتداوَل إلى مستواها الرمزي، وهو ما يجعل من قصيدته (نهار من دم الغزلان) قصيدة مفتوحة على التأويل.
(2) تميمة المرأة: في محاولته للتخفيف من أثر الكابوس الذي يقيم فوق صدره يمضي الشاعر إلى المرأة. فلربما يمنحه جسدها المبجّل بعض المسرّة. غير أن مثل هذا الذهاب لا يُجدي، فصورة البلاد المخطوفة التي تم اغتيالها وسحقها صورة تطغى على كل شيء. ما الذي يقوله الشاعر إذاً بين يدي الجسد الفاتك المعرش :
انظري في عيني هذا الجواد المغتلم 
ها هو يشم ثنية ركبتيك الدافئتين 
وعيناه مليئتان بالدموع والشهوة. 
أطلّي عارية كالبرق 
كي يهدأ صهيله الممتد من سهول أوروكَ 
وحتى هذه اللحظة المريرة .. 
في هذا المشهد تبدو المرأة ملجأ للخلاص أمام رجل محطم ربما تكون الحروب قد قذفت به بعيداً عن وطنه. من الملاحظ أن لحظات الحب التي تتحدث عنها القصائد غالباً ما تتعكّر، ففي أوج ذلك الحب تتقدم رياح الخراب وتدمّر كل شي: 
الصَبا وارفُ والمدى عامر باشتباك البروقْ
فجأةٌ تتخطفها الريحُ هاوية تتناسلُ 
لا غيمةٌ في أعالي القصيدةِ 
لا وردةٌ في الشقوقْ..
(3) تميمة الشعراء الأسلاف: في هذه التميمة لجأ الشاعر إلى بعض التجارب الخاصة في الشعر العربي، والتي تتقاطع مشاغلها الرئيسة مع مشاغل الشاعر. مجنون ليلى، مالك بن الريب، امرؤ القيس، الجواهري. أربعة شعراء كتبوا عن الفقد، كل واحد من وجهة نظره. لكأن حضورهم في هذا الديوان هو محاولة للاستئناس بأشقاء الروح المكلومين، بجروح لا تشفى أبداً.
(4) تميمة جلجامش: أمام الأزمات الكبرى التي يمكن أن تمر بها الشعوب تبدأ بالإنصات لصوت ماضيها القديم، بما فيه من بطولات وأشواق. في قصيدته (طائر يُقبِل من مذبحة)، وهي من القصائد المركزية في الديوان يغوص الشاعر عميقاً في التاريخ ويستلهم أسطورة جلجامش. في القصيدة تندغم أوروك القديمة بأوروك المعاصرة ونلمح عبرها جلجامش الذي يشيع بالبهجة والطمأنينة في بيوتها وحقولها، ثم: 
فجأة داهمتا الريح وانكسر النهارُ
شممنا الدم والملح في التلالِ 
و  كانت مركبات التتار تعوي
الأباتشي ظلمة تأكل القلوب 
أخيراً يطلق الشاعر سؤاله الجارح: 
        أكانت شمس أوروك خدعـةً ؟ 
. إنها ذروة المأساة
 
 
                                               قـراءة في سيـد الـوحشتـين
                                                          ميّ مظفـر
-1-
من موقعه النائي، حيث يقيم منذ سنوات، تأتي مكابدات علي جعفر العلاّق (1945) في ديوانه سيّد الوحشتين  لتضيف فصلا آخر إلى فصول تجربته الشعرية الممتدة على ما يزيد على ثلاث حقب . ولد هذا الشاعر وترعرع في جنوب العراق، أي في بيئة شعرية خصبة، حيث الشعر فيها والغناء يتغلغلان في العروق تغلغل مياهها الوفيرة وطينها المنقوع بالأسى: ” يبدو أن الطفل، في الريف، يولد على مقربة من الشعر، أكثر من طفل المدينة. لقد وجدت نفسي في قرية مائية بامتياز، تتجاور فيها المتناقضات إلى أقصى حد: الطين والضوء، الفقر والغنى، الموت والماء.”  وهكذا تهيّأت لطاقاته الشعرية أن تتغذى من نسق البيئة، فضلا عن أنه، مذ كان في السنوات الأخيرة من مرحلة الدراسة الابتدائية، تتفتح على تجربة فذّة لشاعر يعجن كلماته بطين الأرض فيحيلها إلى صور تنبض بالعشق، ذلك هو الشاعر مظفر النواب. من أجل ذلك بدأت تجربة العلاّق الشعرية باللهجة العامية، ليتحوّل بعدها إلى الفصيح من اللغة جاعلا من تلك البداية مدخلا مائيا إلى سواد الأرض وجذورها الضاربة في الأعماق. يقول العلاّق عن تأثراته المبكرة هذه:” لقد زوّدت هذه التجربة (أي تجربة النوّاب) قصائدي اللاحقة بمجسّات إضافية، أتشمم من خلالها لوعة التراب وغيوم الذاكرة، كما أنها جنّبت قصائدي الانحدار إلى لغة التجريد…” .
 ينتمي العلاّق إلى جيل الستينيات من الشعراء العراقيين، وهو الجيل الذي تنوعت تجاربه، وارتفع معه صوت القصيدة الحديثة ليرتاد آفاقا جديدة في مجال التعبير الشعري وأشكاله، ويقيم معاركه الشعرية ونظرياته المثيرة للجدل؛ كان العلاّق بينهم وليس منهم. فقد مضى يؤسس مملكته الشعرية، لا يحتكم إلا لذلك الصوت الشعري الممتد من الماضي إلى الحاضر كما تمثل في شعر السيّاب ومجايليه من رواد الحداثة الشعرية. فقصيدة العلاّق قصيدة عربية بامتياز، وشعره لا يحمل القطيعة مع الماضي، بل إنه يركن إليه في كثير من الأحيان، ويشتبك معه:”باحثا عبر طبقاته الأسطورية والدينية والشعرية عن شرارة المعنى، ومكوّنات الشكل.”  التراث الشعري والبيئة المائية والحس التراجيدي، تلك هي مقومات التجربة الشعرية للعلاّق:”هذا الشاعر مغمور كليا بمياه الشعر، لكنه يجذف وحده”. 
-2-
يتساءل علي جعفر العلاّق في مطلع القصيدة الأولى من ديوان سيّد الوحشتين، مستعيرا لسان حال قيس بن الملوّح (مجنون ليلى) بقوله:
من ترى
أوصلكَ اليوم إلى هذا المتاه؟
لا خفاف الإبْلِ الهوجاء قادتكَ إلى ليلى، 
ولا هبّت على معولكِ النائحِِ
أقمارُ المياه..
كيف أوغلتَ؟ حفرتَ البئرَ حتى 
بكت الإبرةُ، واشتدَّ عليك الليلُ
حتى اختلط الحابلُ بالنابلِ والموحشُ
بالأهلِ، حتى بلغَت حيرتُك الكبرى
مداها، فلماذا 
يأسك الوارف لم يبلغ مداه؟  
هذه القصيدة الافتتاحية تحمل سمتين أساسيتين تميزان قصائد الديوان عامة. فالسؤال -الأسئلة- الذي يستهل به الشاعر علي جعفر العلاّق ديوانه “سيد الوحشتين” ليس إلا مقدمة لسيل من أسئلة ملتاعة تتتبّع مسار الفقدان، قاطعة آلاف السنوات ما بين ارتفاع وانخفاض، ما بين ازدهار وأفول، فترتقي بالشعر من تجربته الشخصية المحض إلى أسئلة الوجود والكون، ومن الهم الفردي الخاص إلى الهم الإنساني الشامل، تكشف عن نفس ملتاعة عبثا تبحث عن مخرج من هذا التيه. 
ليست أسئلة القصيدة الأولى، إذًا، غير مدخل إلى أسئلة تتوالى على صفحات الديوان، تزجّ القارئ معها في حالات استغراب من واقع ينحدر من سيئ إلى أسوأ دون أن يقدر أحد على تسويغه أو إيجاد سبل الخروج منه، هذا إن كان ثمة مخرج أصلا. بل تكاد هذه الأسئلة تكون واحدة من أهم البنيات الدلالية والأسلوبية لقصائد العلاّق منذ (أيام آدم 1993) و (ممالك ضائعة 1999)، لكنها تكتسب هنا بعدا دراميا حادا مفعما بالحس المأساوي. وكذلك نجد أن حالات اليأس المنبثّة في متون القصائد يتغلغل في ثناياها بصيص أمل يرفض الاستسلام، ربما يكون هذا البصيص خافتا أو زائلا، غير أن تكراره يعكس حالة ملازمة وموازية لعتمة الخراب. 
العلاّق، في هذا الديوان بالتحديد، معنيّ بالكارثة التي حوّلت كل حلم عراقي إلى كابوس، وكل كابوس إلى جحيم. وهو ما بين جحيم الواقع وجحيم الذاكرة يتقصّى أبعاد قصيدته، ويلاحقها كما يلاحق امرأة غائمة تنشر عبقها وتومض بضيائها:
أتبعها،
تتركني: لها الجهات كلها،
وليس لي
غيرُ ظلام الورقِ الممطرِ
ملءَ روحي..
القصيدة لدى العلاّق، مجموعة إشارات تبعث رسائلها المضمنّة إلى العالم، أو كما يقول في مقابلة له مع جريدة الزمان: ” توحي، ترسم مناخا يثير القلق والتساؤل، لا تقدم أجوبة.” ويقول أيضا:”إننا نغنّي أغنيتنا الأخيرة مثل طائر التمّ، عندما يوشك على الانتحار يطلق أغنيته الأخيرة لينتحر بعدها.” ثم يقول واصفا موقفه مما يدور في الوقت الحاضر من تمزق العراق وفوضاه:” لا أنطلق من تجربة شخصية، فنحن جميعا في مهب ريح ليست عادية وإنما سوداء تهب من كل حدب وصوب، ونحن نحاول التشبث بمواقع أقدامنا بأي طريقة كانت. قصائدنا عبارة عن صرخة جسد، صرخة ذاكرة، وصرخة حلم محاصر.”   إنه يتحدث باسم الجماعة، جماعة تدافع عن وجودها الحاضر والتاريخي وتتشبث بالأرض والذاكرة لتقاوم “الريح” التي تريد اقتلاع الجذور. وسواء أكان عن قصد من الشاعر أم غير قصد، فالريح، أينما وجدت في قصائد هذا الديوان، تكاد تكون رمز القوة المدمرة:
ملكًا كنتُ على الريح، وكانت
بضحايايَ تموجُ الطرقُ 
وفي قصيدة أخرى:
ماذا تحمل الريح إلى بابلَ؟
غربان تغني، جثثٌ تهذي
وخيلٌ مظلمة.
لكن الدمار، مهما عظم شأنه، لا يخلو من بصيص أمل بالخلاص. إذ سرعان ما نجد الشاعر يلتف حول الصورة كما الفراشة تدور حول اللهب، ليقول برنة هادئة نائحة، مخاطبا بلادا “حجبتها الحروب”:
أيُّ بلادٍ:
تختفي
كي تُضيءَ 
 ولأن هذه البلاد منه وفيه، فهو يطرح عليها سؤالا فيه من التوكيد أكثر مما فيه من الشك، كما في كثير من أسئلة هذا الديوان، إذ يقول لها:”أنحن اثنان أم واحدٌ”، وليخلص في نهاية الأمر إلى الاعتراف:
بابل أنت
ما لنا عنك منأى 
تكاد أغلبية قصائد ديوان العلاق سيّد الوحشتين السبعة والعشرين، تكون قصيدة واحدة متصلة ومنفصلة ذات مقاطع تتفاوت في عدد أبياتها، كما تتنوع في تقنياتها وحدة أو خفوت نبرتها. ومع أن هذا الديوان جاء يستكمل ما سبقه من أعمال شعرية تدور في فلك الغربة والاستغراب و”الممالك الضائعة”، فإن صرخة هذا الديوان جاءت خالصة منبتة من قلب متفجع وروح ملتاعة تجد أن الفقدان وصل إلى حد يتضاءل فيه الأمل بالاستعادة إلى حد التلاشي. وعلى الرغم من ذلك لا تخلو القصائد المشحونة بالأسئلة من أمل، أو وهم بصيغة أمل سرعان ما يخفت صوته منكسرا:
اهدئي،
كالحصى، يا طيورَ
المنافي
لوّحي لبلاد الأسى بالدموعْ
لنهرين من صبواتٍ
وجوع..
هاجس الزمن ومروره السريع إزاء خراب يتسارع معه، هو ما يرعب الشاعر كلما نظر إلى أفق المستقبل دون أن يلمح في غيومه فسحة ضوء: 
لمصباحي، المكفهرِّ، الصغيرْ
وحشةٌ، ولهذي القصيدةِ،
هذي الشوارعِ،
هذا الفراش الوثيرْ
وحشةٌ، 
فأنا، الآن،
يا صاحبي
سيّد الوحشتينْ
أتدفأ بالحلم حينا،
وبالوهم حينا،
وأرجعُ:
شيخٌ من البرد
بين عظامي، وشيخٌ 
من الوهم ملءَ اليدينْ
وتكاد تكون قصيدته التالية بكلماتها التي لا تتجاوز أصابع الكفين صورة شفافة تعبّر عن المأساة الشخصية والعامة، وتتمثل “الوحشتين”، بضربة سريعة شفافة تختزل ببراعة هول كارثة لا أول لها ولا آخر: 
سقف روحي
خفيضٌ خفيضٌ
وأحزانها عالية
والطريق إلى الفجر أسئلةٌ
أفقٌ ذاك
أم هاويةْ؟ 
فالوحشة التي يعاني منها الشاعر والتي تملأ نفسه بالحيرة والاضطراب، كما يتمثل جليا في هذين المقطعين تحديدا، إنما هي وحشتان: وحشة الحاضر ووحشة المستقبل. ف”التيه” الذي يجد الشاعر نفيه فيه اليوم يبدو فضاء ممتدا لا أفق يحدّه، بينما الزمن يسيل متسارعا لينتحر في رماله. 
-3-
تستند تجربة العلاّق الشعرية عامة، وفي قصائد هذا الديوان خاصة، إلى مجموعة ركائز تكاد تكون المحور المحرّك لصوره المستمدة من الطبيعة أولا ثم التاريخ والشعر والمرأة. فكأن الطبيعة بتغلغلها في مفردات شعره، تكوّن الأرضية التي تمتح القصيدة منها ماءها وسر حياتها. وحين تتوغل القصيدة في التاريخ بطبقاته المتراكمة، فإنها تحفر في الجذور التاريخية والدينية والشعرية لبابل وأوروك وبغداد، مراكز الحضارة التي تحول بعضها إلى أثر بعد عين، وتتحاور مع الأسلاف من الشعراء گلگامش، وامرئ القيس ومالك بن الريب ومجنون ليلى حتى الجواهري، أما كانوا جميعا يبحثون عن ممالك ضاعت؟ أما المرأة والمرآة فهما رمزان حيّان يتداخلان حينا ويتناقضان أحيانا. 
من استعاراته الدينية يلجأ الشاعر إلى قصة يوسف وأخوته كما وردت في الكتب السماوية. فصورة يوسف داخل الجب في قصيدته ” نهار من دم الغزلان” تنطوي على رمز ينفتح على أكثر من تأويل. لقد أسقط الشاعر هذه القصة ومغزاها على الوضع الحالي في العراق، حسب قول الشاعر يوسف عبد العزيز:” ثمة شبه كبير بين الحالتين، ولكن الشاعر لا يكتفي فقط باستلهام القصة التاريخية، وإنما يقوم أيضا بإلقاء عدد من الأسئلة المحيّرة بين يدي القارئ… هذه الأسئلة التي يطلقها الشاعر تنقل الحكاية من مستواها الواقعي المتداول إلى مستواها الرمزي.” 
يقول الشاعر في قصيدته هذه:
ليلُ البئر غربانٌ من الفولاذ تنقضُّ
على يوسفَ: هل يوسفُ
طفلُ البئر أم حيرتنا
الكبرى؟
ويقول أيضا بنبرة يملؤها الأسى والتفجع:
مظلمٌ يا شجر الأهلِ، نشيدٌ
قاتم ينهشُ لحم الريحِ، قابيلُ يغني
لطوابيرَ من
الغربان..
هل تمتلئ الآبار بالوحشة أم 
بالضوءِ؟
أقمارٌ مدمّاةٌ
سماواتٌ
من الأشلاءِ، مَن كان قتيلَ
البئر يا يوسُفُ:
فجرٌ همجيٌ ورياحٌ مبهمةْ،
أيّنا شم غبار الشجر المظلم يدنو
أيّنا شمّ دمَه.
قصائد العلاّق مهداة إلى بلد يتمزق، وحضارة تنهب وتاريخ يُزوّر وشعب يهب الضحايا دون أن يدري كيف ولماذا وإلى متى. ولكنها أيضا قصائد تسعي إلى البحث عن ترياق للروح. إنها من الأرض الوطن إلى الأرض الوطن، تنبثق من ذاكرة عامرة بالجمال والألفة لتتيه في سنوات من غربة الزمان والمكان، غربة الداخل وغربة الخارج. فعلى امتداد القصائد تتردد مفردات الخراب والتيه والمتاهة والسراب والوهم والريح والهاوية، بقدر ما تتكرر مفردات الطبيعة: العشب، المطر، الشجر، الماء، الغيم، الغربان، الذئب، ولكل منها دلالتها الواضحة والمتسترة.
على فرض أن قصائد ديوان سيّد الوحشتين تنبع من تجربة واحدة موزعة على مقاطع شعرية، فإن قصيدة “طائر يقبل من مذبحة” ، وهي قصيدة طويلة نسبيا، تكاد تلخص مأساة الشاعر التي هي مأساة وطن، وتطمح أن تكون ملحمة شعرية. إنها تتحدث عن أرض كانت، ولا تزال، موجودة منذ بدء الخليقة، أرض تناوبت عليها الحضارات، فلا تكاد الواحدة منها تضمحل حتى تحل محلها حضارة أكبر وأشمل، وعن شاعر يتغنى بالبلاد مستعيدا أصوات أسلافه القدامى. يتداخل في القصيدة صوت الأنا بصوت الراوي، ويتحدان أحيانا:
“قبل أن تنفلت الظلمة 
من قشرتها، ويصير الليل طفلين
بدائيين: صيفا
وشتاء
قبل أن يغمس عصفورٌ جناحيه بحبر
الغيمِ، أو يبتهلَ الحطّاب للغابةِ
والصخرُ إلى طينٍ
وماء
كنتُ
بل مازلتُ
بل ربما أبقى، أغني
لبلاد:
تارة تطفحُ بالضوء، وطورا
بالدماء…
 وحين يتوغل في الذكرى، متلمسا بعين الخيال خصب الأرض وعلو شأنها وعطائها الوفير، يقول:
كلُّ شيء غائما كانَ
كالنعاسِ، أكانت
نشوة تستفزّني
أم صلاةٌ؟
“أكمل النقص
يا إلهي”، كانتْ 
شمسُ أوروكَ في دمي
وردائي
دافئا كانَ
كالتراب..؟ 
كان الشاعر يومها مهموما بالشعر، ولا همّ له غير الشعر، يحاول أن يرتقي إلى ملكوته، فيذهب باحثا عن أول أسلافه من الشعراء: گلگامش الساعي وراء الخلود.. وحين التقيا صعدا مع المياه معا:
“وصعدنا مع المياه، كلانا 
طائرٌ يحضن الحياة،
كلانا
كان يختضُّ نشوة، كان يمضي صوب أرضٍ
من القصائد والأنهار، يمضي
إلى المنى لا المنايا
آدم عاد نادما:
لم يكن لي جنةٌ
في الغياب. لا
لم يكن لي
غيرُ أوروكَ، والفراتِ
وظلّي.”
وصعدنا مع الغيومِ
ذهلنا:
أمةٌ من قصائدٍ
وخيول.. 
لكن الريح داهمتهما. فالريح التي، مع استثناءات قليلة، لا تحمل غير الدمار، هي هنا ريح كسرت النهار حتى اضطر الشاعر من جرائها إلى أن يستنهض الهمم، ويصرخ:
– واجهوا الريح بالفؤوس
لكنه سرعان ما يعود في البيت التالي لكي يعترف بانكسار:
غرقنا في دم الريح
هائجين
وظل السهل رطبا
من الدماء
وظلّت نجمةٌ في دمائنا
تتلظّى..
الشجر في هذه الأرض، كما تحكي القصيدة هنا، شاهد على تاريخ الأرض. فالشجر يروي قصصا مروّعة تمتد إلى بداية الكون، لذلك يوجّه الشاعر خطابه إلى الشجر طارحا سؤالا استنكاريا متمنيا لو أن هذا التاريخ يكذب:
أصحيح ما رواه الشجرُ؟
– منذُ بدء الكون
كان الدمُ ضوءا بل وضوءًا للعراقيينَ، ,
كان المطرُ
واحدا منهم. وكانَ
الضجرُ
خصلة فيهم، 
أكانوا محض ضدّين
قديمينِ: الندى
والشررُ؟
أصحيح ما يقول الشجرُ؟” 
بعد هذه الأسئلة المليئة بالتورية والتجنيس والتضاد يصل الشاعر إلى ذروة أخرى من ذرى القصيدة، محافظا على موسيقى القصيدة وإيقاعها المتراتب ما بين ارتفاع وهبوط، غير متنازل عن جماليات القصيدة العربية بما في ذلك القافية المتباعدة وثباتها المؤثّر:
نائحا أحضن الندى
مطفأً
أحضن الرمادْ
كم تدانيتَ يا ردى
كم تناءيتِ
يا…
بلادْ. 
وفي وقفة حائرة ذاهلة أمام مركبات التتار والأباتشي، يبدأ الشاعر بطرح سيل آخر من الأسئلة:
أكانت شمس أوروك
 خدعةً؟
 أيكونُ الموتُ يومًا بدايةً؟
 كان الطائر/الشاعر قد نجا من المذبحة، ليهيم في الأرض:
يتلظى بين جمر ورمادْ،
ساطعا يعلو،
ويهوي،
مثلما
يومضُ الجرحُ،
على أسمالهِ
لا شذى الحزنِ،
ولا حِبرُ الحدادْ،
داميًا يعلو، ويعلو
ناشرًا
ضوءُه الدامي
مياهًا
وبلادْ..
مع أن علي جعفر العلاّق يمارس، عمله أستاذا للأدب العربي الحديث، وناقدا مبدعا صدر له العديد من الدراسات، فإنه لا يرى في أيٍّ من هذه الممارسات منفذا للروح وخلاصا من عذاباتها المدمّرة إلا بالارتقاء بها إلى ملكوت الشعر وفضائه النقي. وحين سئل ماذا يعني الشعر لديه، قال:” لا أدرى على وجه الدقة. لكن ما أعرفه جيداً أنني لا أستطيع العيش بدونه. أحس، حين أكون بعيداً عنه، بأنني موشك على الهلاك. شيء مخيف يدب في الروح والجسد معاً: الخلو من المعنى، الافتقار إلى التجانس، الخراب الذي يفتك بالناس والحجارة…. لدي إحساس، يرقى إلى اليقين، بأن الشعر ابن الفقدان وقرين الخسارات المريرة…” وقال أيضا: “لكتابة الشعر ثمن لا مفر منه. إنه.. الوقوف، في كل لحظة، على حافة الهاوية بقلب يرتعد هلعاً وعينين نائحتين. لكنه، من جهة أخرى، أعطاني القدرة على مقاومة القبح والامتهان، والانتصار عليهما بسلاح المقهورين: اللغة، وطاقة التخيّل.” 
أيا وطني
 إنّا يتاماكَ: لا غيمٌ يظلّلُنا
 ولا جيادٌ تغنّي،
حُلمُنا حَطبٌ،
 غناؤنا معتمٌ، والأرضُ
 محضُ صدى.
 ما أوحش الكونََ: لا ليلى
 ولا بردى..