لجأت إلى الأسطورة للتعبير عن واقع أكثر أسطوريةً 

 

حوار: اسكندر حبش …
علي جعفر العلاق واحد من الشعراء العراقيين البارزين على خريطة الشعر العربي، عرف كيف يصوغ من كلماته فضاءه الخاص الذي يبتعد ويفارق. حول الشعر والنقد وبعض القضايا الأخرى، كان هذا اللقاء في عمان.
– لا بدّ للوضع العراقي أن يقودنا إلى الحديث عنه، في بداية هذا الحديث، كشاعر ومثقف، كيف تنظر اليوم إلى ما يحدث هناك؟
* يمكن القول إن ما يحدث في العراق هو زلزال كوني بكل المقاييس، لم يقتصر على جانب من الحياة، وإنما شمل الحياة كلها، ثقافياً، سياسياً، اقتصادياً،… وأنزل خسائر فادحة في قلب الإنسان العراقي ووجدانه. وكان للشعر والإبداع عموماً حصته من هذا الزلزال المدمر، لكنني من جانب آخر أظن أن الإبداع العراقي عبر التاريخ تعود على إعطائنا الدرس البليغ دائماً وهو أن يخرج معافى رغم كل الكوارث التي مرّ ويمر بها. أظن أن الحياة الآن هي حياة عاصفة، مراوحة، دامية لكن في النهاية لديّ أمل في أن الشعوب الحية – وهذا ما تعلمناه من لبنان أيضاً – تخرج دائماً من ركامها، وطائر الفينيق العراقي يكسب هذا الرهان على الدوام.
– وكأنك تشير، في جانب من كلامك، إلى أن الأدب بحاجة إلى زلزال كي يعيد طرح الأسئلة على نفسه؟
* لا أقول إنه في حاجة، لكن الشعوب الحيّة لا تتلاشى أمام الزلازل الكونية وإنما تجعل منها جزءاً من عافيتها الخاصة وجزءاً من رؤياها الخاصة إلى الحياة. لا أقول كنا في حاجة إلى هذا الزلزال لكننا قادرون على استيعابه وهضمه وتجاوزه إلى حياة أكثر عدالة.
– كيف استيعابه وبخاصة أن الثقافة العراقية اليوم، تقع خارج العراق، أين ثقافة الداخل في ظل هذا الحريق الكبير؟
* أنا معك في جزء مهم من سؤالك، بسبب الظروف التي مرّ بها العراق، تعرض الجسد الثقافي إلى التشظي، الكثير من ثقافة العراق ومن إبداعه ترعرع وازدهر في حاضنات قلقة هي حاضنات المنفى. لكن القول إن الإبداع العراقي يتمثل في الخارج فقط، قول يفتقر إلى الدقة الكافية، ان جزءا مهما من المشهد الثقافي العراقي ما زال يتكون في الداخل، هناك مسرح يعمل بحماس حقيقي ورسامون منهمكون وشعراء يسجلون هذا المشهد الكارثي في انتاج شعري يدعو إلى الدهشة، هناك غناء وشعر عامي وتأمل حقيقي في الثقافة والحياة. كل ذلك يجري في الداخل وبالمناسبة هذا شأن العراقي دائماً، فوراء الوجه الرسمي الزاهي البراق في كل الفترات هناك شعر ورسم يقع في الظل، في الجزء الآخر من الجبل وبعبارة موجزة، الإبداع العراقي يحلق بجناحين داميين أحدهما ينغمس في جحيم الداخل والآخر في فضاء المنافي المفعمة بالأسى والتلفت إلى الوطن البعيد.
– لم أقصد أن ليس هناك ثقافة في الداخل، ولكن المشهد الدامي يحجبها عنا، في أي حال، هل تستطيع هذه الثقافة مواجهة ما يحدث؟ أم أنها فقط محاولة لعدم السقوط في مستنقع الموت الكبير؟
* بدءاً إن مواجهة ما يحدث أكبر من طاقة الإبداع، فالدم الذي يسيل والأنهار التي تتدفق بالضحايا والناس الذين يرون وطنهم يتشظى كل يوم، إن هذه التفاصيل جميعاً تفوق طاقة اللغة على التحمل، لكنني أظن أن الصمود في وجه هذا الموت هو البداية الحقيقية لقهره والتغلب عليه، ولكن يظل الأمر بالغ الصعوبة. في هذه اللحظة بالذات علينا أن لا نكلف المثقف العراقي أو المبدع العراقي فوق طاقته، وأعتقد أن بقاءه عصيا على السقوط هو مكسب كبير في هذه اللحظة بالذات. هو النواة التي ستتشكل حولها دائرة الرفض الأكبر لهذا المشهد المريع الذي يحاول جر البلد إلى عصور الظلام والتخلف بكل المعاني.
– وأين علي جعفر العلاق من ذلك كله؟ هل في كتاباته عزاء أم تندرج في رفض هذا المشهد المريع؟
* خرجت من العراق منذ التسعينيات وتوزع عيشي خارج العراق بين صنعاء والإمارات العربية المتحدة. والمفارقة المهلكة بالنسبة إلي أن بعدي عن العراق كان جغرافياً فقط وكلما ابتعدت بي الأرض ازددت انغماساً فيه، العراق فيّ بكل المعاني. وأنا لا أقول ذلك مدفوعاً ببلاغة واهية أو لحظة من الحماسة المتأججة، إن ما كتبت من شعر منذ «أيام آدم» مروراً بـ «ممالك ضائعة» و«سيد الوحشتين» و«هكذا قلت للريح»، ينطلق من إحساس فجائعي بما يتعرض له البلد دون أن يعني ذلك حماسة منبرية أو حنيناً مجرداً إلى ذلك البلد البعيد. لقد حضرت في شعري وبشكل لافت تماماً الأساطير الرافدينية التي كانت تقدم البطل التراجيدي الذي يتمزق بين قدرين قاهرين: الإنسان والإله في صراع محتدم تارة، وفي عناق يدعو إلى الأسى تارة أخرى. لا تجد في قصائدي أن هناك حاجزاً أو فاصلاً بين بلد أتغنى به وبين شأن قلبي أحنو على التعبير عنه، وإنما هناك لحظة من الاشتباك الحقيقي بين هذين العنصرين. وعودة على سؤالك الجوهري هذا فإن العراق ينغرس بعمق في شرايين أبنائه وفي وجدان كتّابه وضمائرهم ولست وحدي ظاهرة تجسد ذلك.
– أريد أن اقول: «لم يكذب عليك المنفى»، بمعنى أن قارئ شعرك لا بد أن يلاحظ أنك لم تسقط في لعبة الغواية التي يفرضها المكان الآخر، زد على ذلك أن قصيدتك بقيت متطلبة أسلوبيا ولم تلعب لعبة السهولة التي تقع فيها عادة قصيدة المنفى، وأريد أن أضيف: هل العودة إلى الأساطير كان بديلا من حنين ما؟
* قضية شائكة والإجابة على هذا السؤال تحتاج فرصة أكبر وفترة أطول من التأمل، لكن لا بدّ من القول إن العلاقة بين الشعر والأسطورة أو استخدام الشاعر للأسطورة ليس قضية رفاه فني، وليس قضية حاجة مؤقتة أو عابرة، الأسطورة سلاح ذو حدين فإن لم تكن بحاجة إلى الأسطورة حقيقة فإن استخدامها لا جدوى منه فقد تتحول عبئاً حقيقياً على النص وقد تتحول إلى عنصر تغريب للنص عن واقعه الروحي والاجتماعي والسياسي. إذاً لا بد من أن تكون ضغوط الواقع ومتطلباته ملحة على وجدان الشاعر ومخيلته حتى يقتنع أن لا مفر من الأسطورة للتعبير عن واقع أكثر غرابة من الأسطورة ذاتها. ان أساطير العراق القديم تحديداً كانت ملاذاً شعرياً بالنسبة إليّ لأنها تمثل تراجيديا من نوع خاص فهي تعيد ثانية إلى الحياة بدايات هذا الوطن الموغلة في القدم وكأنني أتشبث بتلك الينابيع الأولى واستحضرها بكل ما فيها من تماسك فجائعي وترابط يعج بالغرابة ويعج بالاستبسال تعبيراً عن توق حقيقي إلى أن يظل هذا البلد موحداً ويظل عامراً بعناصر البطولة ومواجهة الموت كما كان. أنا في الواقع لم أجد في الأساطير الأخرى – الإغريقية على سبيل المثال – ورغماً عن غناها، ما يقدّم لي العون الذي أتمناه. هذا من جهة، من جهة أخرى، أنا ربما كنت أكثر أبناء جيلي استخداماً لعناصر التراث بكل مستوياته: الأسطوري، الديني، الأدبي، الشعبي، لكن كثافة الأسطورة الرافيدينية في قصائدي في هذه الحقبة تأتي تعبيراً عن إحساس كامل بحجم ما يتعرض له البلد الآن من فجيعة مع الوعي الشديد بأنني لا أسرد أسطورة ولا أعيد رواية أحداثها ولا رصف عناصرها مرة أخرى وإنما أحاول الغوص إلى جوهرها الخفي الذي يضخّ في القصيدة العنف الذي تتطلبه فجيعة الراهن وهي تتفتح على فجيعة الماضي للوصول إلى نص لا يهيمن عليه الواقع فتنتقل شرر المخيلة فيه ولا تهيمن عليه الأسطورة فتقتل حرارة المكان.
أما بالنسبة إلى الجزء الآخر من السؤال، تحاول قصيدتي دائماً أن تكون قصيدتي أنا دون أن تسقط في إغراء ما، إغراء محاكاة الآخر أو مجاراة الموضة أو التجريب المقصود لذاته، دائماً كنت أسعى وراء هدف صعب لا أدري إن كنت قد أفلحت في تحقيقه، لكن هذا الهدف كان يؤرقني دائماً أن أكون شاعراً ذا نبرة خاصة، أسلوب يوحي بقسماته الروحية وملامحه الخاصة. ما أسهل أن تكتب قصيدة تقفز فيها قفزات تجعل من نسيج تطورك مزقاً وجزراً متناثرة لا تنمو ولا تترابط ولا يحتضن بعضها بعضا. القصيدة لدي ليست سهلة، لكن لها منطقها الخاص الذي يبدو متدفقا دون عثرات. تموج بما في الروح من شجن حقيقي دون أن تسقط في المباشرة، أعول دائماً على لغة خاصة لا تشبه لغة الآخرين وأسعى دائماً إلى أن تكون الصورة وكثافة العبارة والاقتصاد باللغة أعمدة أساسية تنهض عليها قصيدتي ولا أجد إغراء في الاشارات العابرة وفي فقاعات التعبير التي قد تدهش القارئ في وهلة، لكن سرعان ما يكتشف أنها خالية تماما بما لحق بالروح من كدمات أو ما عاشه من مباهج.
– تطرح في جوابك سؤالا أساسيا على ما يكتب حاليا من شعر: «وكأننا نكتب قصيدة واحدة»، أنا معك في هذا الطرح، لم يعد قسم كبير من الشعراء يرغب في تشييد فضائه الخاص. إلامَ ترد هذه الظاهرة؟ هل هي جزء من مأزق الحداثة إذا جاز التعبير؟
* هذه النقطة تستوقفني كثيراً وخاصة في ما أكتب من مقالات ودراسات نقدية، إن ضياع الصوت الخاص للشاعر العربي يشكل ظاهرة تستثير الانتباه. إن هناك لغة شائعة يعيش عليها الجميع، هناك موضوعات يتناولها الكثيرون بالطريقة ذاتها. وأظن أنالسبب في ذلك يعود إلى التمثل الحقيقي أو الزائف لقضية الحداثة. الكثيرون تعاملوا مع الحداثة باعتبارها موضة أو زياً، عاشوا في وهم متجذّر في نفوسهم مفاده إذا أردت أن تكون حديثاً فاكتب ما هو غريب أو اغترف من الزبد الطافي على سطح الموج ولا تذهببعيداً إلى اقاصي الروح. لا تغترف من وجعك أنت ولا تتعذب لتضع ملامحك الخاصة في كتابة قصيدة تخصك أنت.
مجموعة أوهام ومفارقات أدت إلى ما أشرت إليه في سؤالك المهم هذا وهو هذا العالم من التشابه. لقد حمل أحد كتبي الأخيرة عنواناً ذا صلة بما نتحدث عنه، وهو «ها هي الغابة فأين الأشجار؟». هناك غابة من الأصوات، من الأسماء، من النصوص، من الشخصيات، لكنها غابة صمّاء متشابهة تبعث على السخرية حقاً والسؤال أين هي الأشجار؟ هو ما نفتقده في مشهدنا الشعري الراهن. إن الكثير من مهرجاناتنا الشعرية والكثير من منابع النشر تضج بالشعراء وبدواوين الشعر، لكن القليل منهم والقليل من هذه الدواوين هو الذي يمسك بكل تلابيب روحك ويجرك إلى ناره الصافية لتشهد لحظة شعرية حقيقية مكتفية بذاتها لا تعيش على أصوات الآخرين ولا تعيش على نبل الموضوعات التي نتحدث عنها ولا تعيش أيضا على مجرد ما تعوده القارئ من خدر الإيقاعوطرب الحواس فقط.
– ما دمت قد ذكرت كتابك «ها هي الغابة فأين الأشجار؟» أريد أن أنفذ منه لأطرح السؤال التالي: ما الذي يقود الشاعر أحيانا إلى الكتابة عن الشعر، عن الشعراء؟ هل نحن بحاجة أحيانا إلى لغتين أو لنقل إلى نوعين كتابيين، ولا أريد بالطبع أن أطرح هنا قضية النثر والشعر.
* أعتقد أن المتأمل في حركات الشعر عربياً وعالمياً وحتى في شعرنا القديم سيلحظ أن هذه الظاهرة ليست جديدة أعني أنيجمع الإنسان بين نشاطين يبدوان متضادين أو متعارضين، الشعر والنقد ويتجلى هذا كثيراً في العصر الحديث. إن الحاجة إلى ذلك كما أرى تتأتى من كون أن القصيدة عاجزة أحياناً عن حمل كل ما يريد الشاعر قوله في أمور يريد طرحها. ينجز الشاعر القصيدةوثمة فائض من الحنين إلى قول شيء آخر لا يتعلق بالذات بل يتعلق بالثقافة، بالشعر، بالنقد، فيلجأ الشاعر إلى كتابة هذا الشيء الإضافي الذي يسير موازياً لتجربته الشعرية يغذيها أحياناً ويتغذى منها في أحيان أخرى. هذا النشاط هو النقد الخلاق الذي يسمّيه إليوت نقد المبدعين. فعندما يكون الشاعر ناقداً فإنه يمارس نمطين من الكتابة: نمطاً يعبر عن رؤياه وموقفه من النصوص. لا شك في أن في كل شاعر ثمة ناقداً كامناً هناك. هذا الناقد يستيقظ بعد فراغ الشاعر من قصيدته. إنه لحظة الصحو بعد أن يجف ماء الحلم أعني بعد أن تنتهي حمى الكتابة ويفصح عن ذاته هذا الناقد الكامن في عمليات المراجعة وتنقية النص وإزالة ما فيه من ترهل ومراجعة ما يحتاج إلى شد أو ترميم. هذا يحدث في كل شاعر حتى إن لم يكن ناقداً. أما في الشاعر الذي يجمع إضافة إلى كتابة الشعر كتابة النقد، فإن الأمر يبدو أوضح وأعمق. أنا أقول دائما إنني عندما أفرغ من دراسة نقدية أو مقالة نقدية يعتريني إحساس عميق بالراحة بأنني فرغت من التعبير عن قضية ما كانت محتبسة في النفس ووجدت طريقها أخيراً إلى الضوء. وهناك ملاحظة مهمة في هذا الصدد أن النقد الذي يكتبه الشعراء يظل مختلفاً عن النقد المحترف فهو لا يأبه كثيراً للارتهان للمنهج القسري أو المعطف الأكاديمي الثقيل. الشاعر الناقد له لغته المختلفة وله هاجس المغامرة التي تجعل نقده خاصاً إلى حد كبير وبالنسبة إليّ شخصياً أسعى إلى أن يكون ما أكتبه في النقد باعثاً على المتعة اضافة إلى مهمة النقد الدائمة وهي القدرة على إضاءة النص من الداخل والمكابدة الحقة للوصول إلى حقيقته الداخلية على مستوى التركيب أو النسيج أو على مستوى الرؤيا أو الموقف.