لا شيء يحدث .. لا أحد يجيء 1973 


مختارات

  • انطفـاء
  • عـن موسـم النـوح والمـاء
  • مجــيء
  • إشــارات بـريـة
  • صــدأ
  • بكاءٌ في طـريق النـوم
  • الريـحُ في جزر الكراكيّ
  • تخطيطات في دفاتر ابن زريق البغـدادي
  • تلويحةٌ للصيف

 

 

 

 

انطفـاء
 حملتُ أوجهَكُم وشْماً على رئتي

وقلتُ للريح :

هـذا كلُّ أمتعتي ..

حملتُكم شجَراً مرّاً،

وأغنيةً من الرمادِ،

وجُرحاً يابسَ

الشّفَةِ ..

قد كان وجهُكِ شبّاكاً،

ألفُّ بهِ قلبي

وعشْبَ مواويلي

ونافـذتي ..

 

وكانَ وجهيَ في كفّيكِ

سُنبلةً

من النُعاسِ

وكنتِ الماءَ في شفتي ..

ملأتُ أيّامَكُم شعراً وأدعيةً،

وعُدتُ خَجْلانَ من شعري،

وأدعيتي

كيفَ انطَفَأْنا؟

كأنّا لم نُضِىءْ أبداً

ولم تُغَـنِّ لغيرِ الريحِ

حنجُرتي ..

 

 

 

عـن موسـم النـوح والمـاء
رحيلُكِ طيرٌ من القَشِّ

يقتادُني صوبَ أرضِ البكاءْ..

فأسـقُـطُ ملْحاً علىالعَتَبةْ

وأنهَضُ جمراًعتيقاً

وماءْ..

أزرقَ الشفَتَيْنِ

يطوفُ على حجَرِ الكحلِ قبّعةً،

أغرقَتْها شمُوسُ العصافيرِ

في مياهِ النساءْ ..

يا رمادَ المياهِ بعثرتَ وجهي

في لياليكَ، يا رمادَ المياهِ ..

فانثُرِ الطينَ في يَدَيَّ طيوراً

هربتْ من بكائها

في المقاهي ..

من يدَيْكَ انسلَلْتُ ليلةَ غــزوٍ

فرَّ عطرُ مياهِها

من شفاهي ..

تركتِ على شفتيْ

مدُناً من بكاءِ الوسائدِ

أشعَلتِ بينَ يَدَيَّ حصاةً

تُثرثرُ فوقَ فراشيْ

تُضيءُ

تُحدِّثُ عن موسمِ

النَوْحِ والماءِ، إذ ينتهي،

إذ يجيءُ ..

 

 

 

مجــيء
 أتيتُ نَعْشاً ..

صِرتُ قيثارةً محروقةً

يأكلُ منها الدُخانْ ..

تلتفُّ في أوتارِها عُشبْةٌ

من جُرحِيَ الطينيِّ

فوقَ اللسانْ ..

 

 

 

إشــارات بـريـة 
   مقطع

 

وزِّعْ

لغةَ الصبرِعلَيْنا ..

جرِّبْ لُغةَ البكّائينْ

الليلُ شبابيكٌ تهذي ..

وعصافيرُ الفرحةِ  طينْ ..

 

 

 

صــدأ
وجهيْ نُعاسُ طيورِ الماءِ،

يُشعلُهُ رملُ النخيلِ وفي كفيّكِ

ينطفئُ ..

حقائبي حطَبٌ يبكي،

وحنجُرَتي سفينةٌ

شبَّ في أعشابِها

الصدأُ ..

وسوف تبقَيْنَ منديلاً وأغنيةً

بينَ الأصابعِ والأهدابِ

تختبيءُ ..

 

 

 

 

بكاءٌ في طـريق النـوم
عيناكِ تسقُطانِ في دمي

ريحاً،

يدحرجُها وشمُ المشيّعينْ،

فيلتوي الطريقُ في أصابعي،

كحائطٍ من المطَرْ،

وينهضُ البكاءْ

على فمي مئذنةً

من الضَجَرْ..

يختبئُ الحنينُ تحتَ جفنيْ

جزيـرةً  من جُثَـثِ النعـاسْ

أمدُّ كفّي نافضاً عن صوتِكِ الماءَ،

وعن شفاهِكِ الأجراسْ ..

ألقي على حنينِكِ المبتلِّ في المساءْ

عباءَتيوأستحمُّ فيهْ..

حمامةً خرساءْ

تأكلُ من فرحَتِها الريحُ،

ويرتخي النهرُ على جناحِها

عباءةً من خَرزِ البكاءْ

لو ينْحني النومُ على أصابعي

ربابةً زرقاءْ:

تتركُني فوقَ رمادِ الماءْ

حجارةً تسـدّ دربَ النومِ بالبكاءْ..

 

 

 

 

الريـحُ في جزر الكراكيّ
مددْتُ كفّيْ في دمي

أنزعُ عن تُرابِه يديك والبكاءْ ..

فانطرحَ الصوتُ علي يَدَيَّ جثّةً

تُزهُر في شفاهِها حمامةٌ

من ماءْ ..

الدربُ صَوْبَ وجهِكِ التْفِاتةٌ

لكنّما الريحُ

أعمدةٌأرختْ على كآبتي يَدَيْها

وأطفأتْ راياتُها الأجراسْ ..

لكنّما الريحُ

شماتةٌ ترحلُ  بينَ الناسْ ..

 

 

 

تخطيطات في دفاتر ابن زريق البغـدادي
وسادةٌ وجهي، وغُصنُ ماءْ

أحمِلُ في نُعاسِهِ وجوهَكم

يا شجَرَ الكَرْخِ،

وأنسى أنَّ لي من عُمْرِكم عامينْ

تركتُ فيهما يَدَيَّ، عُمْريَ المبتلَّ،

جئتُ دونما عينَينْ ….

لي من غُبارِ الشجَرِ المالحِ

وردةٌ، حَمَلتُها من حطبِ الفقرِ:

ألمْ تروا يَدَيَّ خِرقةً، مليئةً بالريحِ؟

وجهي سلّةً من حَسَكِ الغَرّافِ؟

هذي السفنَ المكتئبةْ

قصيدةً تأكُلُها الخيلُ،

وتستريحُ فوقَها..

وسادةً

أوعربةْ؟

 

” راوَةُ ” كانتْ في دَمي آنيةً

من مَطَرِ الكوفةِ..

هاكُمْ.. في يَديَّ انحنَتِ الطيورُ

علّقَتْ نُعاسَها الأزرقَ في مملكةٍ

ضيّعْتُها صبيحةَ الاثنينْ

وفي مساءِ الأحَدِ الشاحبِ،

جَفّتْ وردةٌ في طَرَفِ الضِلْعِ ..

بكتْ قبيلةٌ في العينْ..

 

 

 

تلويحةٌ للصيف
فرَحُ الوجهِ، أينَ سيكبُرُيا قلبُ؟

أينَ تصيرُ الأزقّةُ

كالخَيْلِ

أينْ؟

أفي وحشةٍ تَفُكُّ نوافذَها

في بكاءِ اليدَينْ؟

أفي جسَد هزَّ أبوابَهُ

تحتَ صيفِ القوافلِ

تلويحةً،

عُشبةً،

قَدَمينْ..؟

في غبارِ الكآبةِ والريحِ أمضي ..

صَوْبَ أرضٍ من الطيورِ

استراحتْ في بكاء النواطير

تهتزُّ

تهتزُّ

تُفْضي ..

 

إلى فرَحٍ ينْحني

في السواقي البعيدةْ

ناعماً، ناعماً، كالقصيدةْ..

 

لم يكنْ فَرَحي

قماطاً،

تشمُّ أصابعَهُ النساءُ وتبكي …

يداً كانَ، يغسِلُها الخَرزُ المرُّ،

والأدمعُ المستديرةْ

كانَ غُصناً يُلوّحُ للعطَشِ المنحني

في الظهيرةْ

وكنتُ

إذا رجَفَتْ رئتي،

أو انكَسرَ النهرُ فيها،

تلقّفْتُ من طينهِ نجمةً،

تتألّق في خيَمةِ القلبِ مِلْعَقَةً

من رماد الجزيرةْ ..

 

مقالة عن الديوان:

 صادمةٌ جـدةُ هـذا الشعـر

 قراءة في لاشيء يحدث .. لا أحد يجيء

                                         محمد شكري

شعرعلي جعفر العـلاق، صوتا ولونا ورسما، كيمياء للأشياء. من لا يعرف بمزج المواد المحرقة لابد أن تنفجر فيه. معانيه مثل أسماك جميلة في بركة تحاول اصطيادها باليد المجردة. الأسماك قد تقع، لكن في اليد الماهرة. العلاق يؤنسن الأشياء. مخلوقاته تبدع نفسها بتشكيلات جميلة:

“كأن طيور الفرات، غزال، على الرمل..”

تميزه، في لوحاته السرياليه، لأن قصائده رسوم، وابداع، في آن واحد، لمسة على الرسوم ولمسة على الإطار.

هل علق الراحلون على النخل أفراحهم،

وعلى رئتي قميصا، يلوح للشام بالميتين؟

هذه لوحة من رسم شاعر. الشعر سؤال بلا جواب. شوق لا نهائي. سفر بلا زمن. مسافة بلا حدود. هذا ما يطرحه شعر العلاق.

إن للعلاق، أيضا، قاموسه وكلماته الرامزة، تنثال في جمالية متحولة، لوازم في كل قصيده: “الرئتان القلب، النافذة، الماء، الخيل، الوسادة، الريح، البلل، الوجه، الرمل، النخيل، الغبار، الطيور، العباءة، الرماد، الهوى، الحجر، الفرح، الجمر، الدم، البكاء، الأبواب، الجزر، الكآبة، اليدان، المآذن، الشحوب، العشب، الخبز، الاشتعال الأجراس.. الخ.”.

أعتقد أنه تعمد تفجير هذه الكلمات عبر كل قصائده، تقريبا، لأنها مشحونة بالجهد والصمود والانفتاح على العالم. على أن هذه الكلمات تجردت، في تعبير العلاق، من معناها المباشر:

حين انحنى شجر النهر،

صارت أصابعه قهوة..

للألوان روائح، للأصوات ألوان، للروائح ألوان وأصوات… هذه هي كيمياء لغة العلاق وتحولاتها على الطريقة الرامبوية. إن لغة الحزن والتألم توحي بالقوة التي تجعل الإنسان يغتصب فرحه ولا يستجديه:

“وكنت، إذا رجفت رئتي،

أوانكسر النهر فيها،

تلقفت من طينه نجمةً… “

هذه هي الكآبة التي لا تستكين إلا بالمضيّ في العاصفة والبرق، بحثاً عن عوالم مجهولة. كآبة روحية وليست كآبة حسية.

شعر العلاق يجردنا من مفهوم ماضي الشاعر. الماضي تاريخ، ” التاريخ كابوس نحاول أن نستيقظ منه، كما قال جيمس جويس على لسان ديدالوس في عوليس.

الشعر ليس مشاعاً كالهواء والماء. الشعر يتكلم بألسنة الشياطين، وأكثر الناس لا يروقهم إلا كلام الملائكة. الشعر تكريس دون نرجسية، تعرية، لكن بطقوس. الشاعر يحلم بسحر الشيء لا بالشيء، بالأنا المتعددة:

– رأيتني رائعاً.

مثلما قال بول فاليري .

من خلال أحلامه واختراقه لذاته ونشوة رؤاه يحاول إمساك الممكن، رغم أنه يعرف إن “الإنسان حلم مستحيل” كما عبر جان بول سارتر عن ملارميه. إن الذي يقول: أنا لي ألف ماض غير قادر على أن يكون له مستقبل واحد. الماضي “ملعقة من رماد الجزيرة” المغزوة، حصار مسيج، صوت ساحرة عوليس. الشعر الحقيقي نار بلا رماد. البحث عن الشيء ثم تجاوزه. الشعر الذي يستهلك كسهولة اشتعال النار في الغاز لا تبقى منه حتى رائحة الحريق. يصير مثل علك ممضوغ جيدا باعثا على الغثيان. إنه قناعة مملة أن نعبر عن الأشياء بنفس السهولة التي نلمسها أو نراها.

القحط والخصوبة، اليأس والأمل. هذا المد والجزر يتلازمان في شعر العلاق. في رأيي، إن شعره فوق الفرح والكآبة، الفرح كآبة والكآبة فرح في شعره.

صادمة للحواس جدة هذا الشعر. يتركنا في حالة: “كل يوم حلم جديد، كما قال وليام بليك. يباغتنا بالذي لم نكن نتوقعه. يحطم الرتيب، يغير المعتاد في التعبير، لا يدرك الليل من النهار في شعره. النهار أو الليل، عنده خاطرة، ترميز، استلهام، مشروع لحياة لا الحياة نفسها. ربما علي جعفر العلاق مثل أوسكار وايلد الذي يفرق بين الحياة والخلق الأدبي. لقد اعترف لاندري جيد بأنه وضع كل عبقريته في حياته، أما نبوغه فوضعه فقط في عمله الأدبي.

الفكرة تحول وانقسامات في شعر العلاق:

– لم يكن فرحي قماطا،

 تشم أصابعه النساء، وتبكي،

 يدا كان يغسلها الخرز المر، والأدمع المستديرة ْ

 وغصنا يلوح للعطش المنحني

 في الظهيرة.

– أن الرمل قريب من فرحتكم، والصحراء

 أكلت في الليل حقائبها…

على هذا النسق، مثل جبران خليل جبران، الفكرة عند العلاق سابقة للكلمة، بحثا عن الجوهر والأسمى.

إن العالم هو ما أفكر فيه، والشمس إنما توجد كما أراها، والأرض إنما توجد كما أحسها، والإنسان نفسه حلم من الأحلام” كما قال شوبنهور في مذكراته.

ذكر تبيسي وليامز، في مسرحيته: “هبوط أورفيوس” بأن هناك طائرا أزرق، بلا رجلين، يعيش سماويا. ينام عاليا على متن الريح. لا يزاحمه نوع آخر من الطيور أقوى منه أو أضعف. كل السماء له إلا الأرض. في جاذبية الأرض موته. هكذا هو شعر العـلاق ، في لا شيء يحدث .. لا أحد يجيء ..