هكذا قلت للريح 2006 

مختارات

  • غياب
  • تشابه
  • ســـؤال
  • حـديث الطير
  • القصيدة
  • حبر الإله
  • سنة جديدة
  • افتراض
  • سهر
  • دافئاً كالخرافة

 

 

 

 

غياب

أذهلتنا طريقتها في الغيابْ

لم تودعْ أخاً

لم تودع

حبيباً

أوابناً

وما فتحتْ

للمغيثين بابْ ..

زمنٌ يتبدّدُ كالماءِ، بين أصابعها ..

لهبٌ عالقٌ بالثياب ..

 

 

تشابه 

 

كم كان بينَ الموتِ والحياةِ من شَبَهْ..

كم كنتَ ترقى في مدارجِ الغيابِ؟

أيّ موتٍ كنت تبغي

أيّ مرتبةْ ؟

كم انكسرنا..

كم تأبّطنا عصا الأخطاءِ  دونَ رحمةٍ ..

فأيّنا احتاطَ لمحنةِ الغيابِ؟

أيّنا انتبهْ؟

كم كانَ فظاّ بيننا الشَّبَه .. !

 

 

ســـؤال

عاد الموتى

إلى بيوتهم خائبين،

وعاد الحالمون إلى وطنهم فلم يجدوه ..

وها هم الشعراءُ يعودون ثانيةً  إلى منافيهم..

بعد أن اطمأنّوا بأن الغدَ

أضيقُ من خُرْمِ إبرة !

فلماذا لم تكنْ بين الموتى؟

ولماذا لم تكن بين

الأحياء؟

 

 

 

حـديث الطير

أنا ابنُ الماءِ ..

لي ذاكرةٌ تغلي، حفرتُ ترابها

الفوّارَ حتى نزَّ منها الدمُ والذكرى،

وأصغيتُ إلى الأنهارِ

لا حبرٌ ولا امرأةٌ..

 

هتافٌ غامضٌ يعلو..

يروغ النهرُ فظاً، مبهماً

كالحلمِ، أو كالنومِ،

ما من جرسٍ في الريحٍ

يهديني إلى أشلائها الغضّةِ..

هل في النهر، أو حوصلةِ

الطيرِ بقايا خصلةٍ، أومقطعٍ منها؟

تقول الطيرُ: “كم مرّتْ

أمام النبعِ حافيةً كمرآةٍ ..

أشمّ الريحَ: أشلاءٌ وهمهمةٌ

وفي مفتتح النصّ بقاياها،

متى يكتمل الموسمُ؟ أو يلتئم

الحلْمُ؟ متى تهطلُ

من قيثاريَ المرضوضِ،

أو تبزغُ من كفّيَ هاتينِ ..

سروجٌ دونما خيلٍ

ونارٌ في فضاءٍ، ممطرٍ عريانْ..

حصىً يفِلقهُ الرعدُ ولا كمأةَ ..

ريحٌ صرصرٌ تعوي، فتقفرُ فجأةً أرضٌ:

فلا لغةٌ،  ولا غزلانْ ..

نساءٌ يتشمّمنَ الحصى والرعدَ في أنهار أوروكَ،

ينادين البداياتِ السحيقةَ غيمةٌ تعرى

وحبرٌ يتعالى الآنْ ..

يعلو الطيرُ، أم يهبطُ؟

نصٌ ضائعٌ في الريحِ، أو في شهوة النارِ

التي تعصف بين اثنينِ..؟

من يطلق هذي الخيلَ من مربطها الطينيِّ:

أدنو أعزلاً ظمآنْ

من مفتتح الغابةِ

أمضي في ركام الورق الذابلِ:

أمطارٌ..

جذاذاتٌ

رموزٌ

وقع أقدامٍ

كناياتٌ

ورعدٌ

يهب الكمأةَ للرعيانْ ..

لا تقلق ”

تقول الطيرُ،

– ” قد تأتي القصيدةُ، هكذا طوعاً،

بلا ضوءٍ شحيحٍ، دون صيادينَ ”

” قد تقبل أنثاكَ ”

تقول الطيرُ،

” من أقصى أنوثتها ”

وشبّ الضوء في لغةٍ مكبّلةٍ،

وفاضَ النهرُ، والتفَّتْ أفاعي السهرِ الساطعِ

كالنصّ الذي لم يكتملْ بعدُ،

وراح المطرُ الأسودُ يشتدُّ ويشتدُّ ..

وما زالت شباك الصيدِ خرساءَ،

متى يدفع هذا النهرُأنثايَ إلى قيثاريَ الموحشِ

أو يأتي بها الرعدُ؟

وحين انكسرتْ شمسٌ على حجرٍ

رأيت الخيلَ تمضي بي كحلْم في اتجاه النهرِ..

أعني في اتجاه ما:

شباكٌ لم يزل يقطرُ منها النومُ، والذكرى،

وثمّةَ في المدى امرأةٌ ستنهضُ،

مقطع ينمو جريحاً

وبقايا نايْ..

أحقاً ثمّةَ امرأةً ؟

أحقاً ثمَّ صيادونَ؟

أنثى النصّ كانت تلكَ

أم أنثايْ..؟

 

القصيدة

مثلَما تتنبّهُ أنثى

إلى أوّلِ الغيثِ، أو يتمدّدُ

غصنٌ، على مهلِهِ في الظلامْ ..

هكذا..

يَتُها البابليّةُ، أقبلْتِ:

آلهةً ومجانينَ

يجتمعونَ على خمرةٍ

أينعتْ في أقاصي

الكلامْ ..

 

 

حبر الإله

إلى أينَ تمضي؟

مضتْ كلُّ ريح إلى نومِها،

ومضى كلُّ ليلٍ إلى منتهاهْ ..

 

وها أنتَ،

أقصدُ: من أنتَ؟

شيخٌ يحدّق في بئرِ أيّامِهِ..

ثمّ ينهضُ

ضوءُ التوابيتِ

يقتادُه، أم هتافُ المياهْ؟

 

وها أنتَ،

أقصدُ: ما أنتَ؟

دبّابةٌ تتقيّأُ

عندَ المسلّةِ مجهَدةً،

وتشمُّ بأظلافِها السودِ

حبرَ الإلهْ..

 

سنة جديدة

أيّامُها ككلابِ الصيدِ،

لاهثةً تمرُّ بي:

أيُّ أيامٍ،

وأيُّ سنةْ..؟

في إثْرِها ثَمِلاً أمضى،

على كتِفي عباءتي، وخساراتي..

أكنتُ كَمن مضى وعادَ،

أضاعَ الحُسنَيَينِ معاً،

لم يَلقَ منفاهُ في المنفى،

ولا وطنَهْ؟

مَن الطريدُ؟

مَن الصيّادُ؟

هل عبرتْ بيَ القرونُ خِفافاً؟

أم أرى سنةً كسلحفاة مدمّاةٍ؟

كألفِ سنةْ ..؟

 

 

 

افتراض
هبْ أنك استطعتَ

أن تضفي على المشهدِ ما يحدُّ من طباعِهِ:

سحابةً  تعبر مثلَ هودجٍ،

قيثارةً باكيةً، سرباً من النوارسِ

المثارةْ..

هب أنك استطعتَ

أن تُضفي على الوردةِ نكهةَ

العذابِ، أوتوحّشَ الحجارةْ..

لكنْ، أتستطيعْ

أن تتناسى كل هذا الدخانْ

يصعدُ من روحك منذُ

اغتصِبتْ بابلُ

حتى الآنْ

 

 

 

 

سهر

ليس لي من جميعِ

السماواتِ غيرُ اسمها وانحداراتها،

هل أنا حيرةُ الطيرِ:

لا هجرةٌ يترقّبها،

لا الإقامةُ تُغويهِ..؟

هذا الخريفُ ينازلني،

وأنا ليس لي غيرُ هذي القصيدةِ،

تفصلُ ما بيننا، وهي عزلاءُ

صافيةٌ مثلُ وردة ..

السماءُ القريبةُ نائيةٌ،

والسفوحُ تئنُّ كما البئرِ:

لا سهري سيّدٌ،لا الندامى يضيئون عزلتهُ،

لا النعاسُ يتوّجُ فوضاهُ

أو يسهرُ الليلَ عندهْ ..

سهري جاثمٌ،

مثلما الذئبُ .. وحدهْ ..

 

 

دافئاً كالخرافة

يتقدمني نحوها حُلُمٌ،

وملائكة ثملونَ،

تسابقني الريحُ دهماءَ،

صافيةً مثلما الخمرُ،

محفوفةً بالحببْ ..

وأُهاجرُ كلّي إلى كلّها

أتأملُها من عَلٍ

تتماوجُ نائحةً في دمائيَ،

صاعدةً من عصور التعَبْ

يتقدمني نحوها

الحنْدقوقُ، ورعدُ الخريفِ

الجميلُ، وهذا الأخُ السيْسبانْ

أتخيّلها تتكسّرُ بين ذراعيَّ كامرأةٍ،

ثم تنسلُّ، في غفلةٍ من أصابعيَ العشرِ

ريانةً كالدخانْ..

دافئاً كالخرافةِ يقتادني الفجرُ،

أو كالحاً مثلما غيمةٌ من شعيرْ..

نمرُّ على حلْمنا، ونخيِّمُ بينَ يديه:

نقيمُ لنا منزلاً ممطراً،

أو ربيعاً صغيرْ..

أمرُّ على والديَّ اليتيمينِ:

يقتسمان الأسى، والبشاشة وارفةً

والسريرْ..

ذاكَ تنّورنا يتعافى من النومِ،

يبدأ سيرتَهُ حين تحضنُ أميَّ

نيرانهُ المرهفةْ

حافلاً بالحنينِ،

وبالأرغفةْ..

أتصاعدُ:

ملءَ جناحيَّ ضوءٌ يهبُّ من الروحِ،

يقتادني الطفلُ مندفعاً من شقوق الهواءِ

ومن قشرة الليلِ..

يخطفه السيلُ من حلْمهِ

حيث ينكسر النومُ والنائمونْ..

آه يا ماءُ،

يا أيّهذا العصيُّ، الحنونْ:

لغةً كنتَ لي، حينما اخشوشنَ الآخرونْ..

يتهادى بيَ النومُ:

حواءُ تمضي إلى النضجِ حافيةً،

وفتىً كان يصغي إلى ضجّةِ النارِ في حلمهِ..

لا مرايا، ولا خيمةٌ

كان حتى الحصى يتشققُّ

من غُلْمةٍ، كان حتى العراءْ..

كلّ شيءٍ يُجنُّ:

الخيولُ ..

الحقولُ ..

الدماءْ ..

آدمٌ يتخطّى طفولتَهُ

فيسيلُ الحصى عسلاً دافئاً

ونساءْ..

ربما الوهمُ يبتكرُ امرأةً

من حنينِ الشجَرْ..

ربما القَشُّ، لا وابلٌ من مطرْ..

ربما واسطٌ

تتموّجُ، فيَّ، كما الأمّهاتُ،

يغنّينَ للشيبِ، أو للقلوب الحجَرْ..

 

 

مقالات عن الديوان:

                                   بعيـداً عـن اضطهـاد المعنى والمخيلـة

                                               جهـاد هـديـب

ربما لو أن المزاج والطبع والتكوين الثقافي وطبيعة الشخص أيضاً، قدّرتْ، جميعاً، لعلي جعفر العلاق الانخراط في بؤس “البربوغندا” الشعرية الراهنة في العالم العربي.. ربما لغدا الآن واحداً من ألمع الشعراء حضوراً في المؤسسة الصحفية العربية التي تتحمل بدورها نصف المسؤولية الأخلاقية والأدبية، على الأقل، تجاه هذه الصخور الكبيرة التي تلقى يومياً في مجرى نهر الشعر العربي.

مناسبة هذا القول هو صدور ديوان جديد للشاعر علي جعفر العلاق الذي يعيش، بوصفه شاعراً، عزلة أنيقة ومضاءة من ذلك النوع من العزلة المفتوحة على الرياح والضوء. حمل الديوان العنوان: “هكذا قلت للريح” وصدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في 104 صفحات من القطع المتوسط، وهو الديوان العاشر في تجربته الشعرية إلى جوار عدد من الأطروحات النقدية المتميزة التي كرسته ناقداً حصيفاً في الوسط الأكاديمي العربي، لكنها لم تنافس موقعه كشاعر متميز عراقياً وعربياً، ويملك مزاجاً شعرياً خاصاً وثقافة شعرية رفيعة، بحسب ما يجيء في كتبه من قول شعري يشير إلى جملة من المشاغل والاهتمامات التي جعلت شعره يشق درباً بعيداً عن الراهن الشعري العربي، بصوت مدرّب على الصمت كما لو أنه وجه البحر ذات يوم صيفي رائق، إن جاز التعبير، لكنه يمور في أعماقه بقلق معرفي وإنساني شفيف ونادر.

لا حاجة للمرء أن يكون قريباً من شخص علي جعفر العلاق ليكتشف ذلك، بل يكفي أن يقرأ ديوانه هذا ويقرأ في ما بين سطوره أيضاً ليكتشف الشخص ذاته، وهذا الأمر نتاج نزاهة مع الذات أولاً، ونزاهة مع الشعر في صفائه لذاته وفي التساؤل العميق حول جوهره المتحول الذي لا يطاله إلا الريب، الذي هو نتاج تأمل.

في هذا الكتاب “هكذا قلت للريح”، تبدو العزلة فكرة أساسية وجامعة للقصائد، بل ربما أن هذه القصائد هي كلها نتاج تأمل في العزلة وفي مكوناتها وإن اختلفت المسميات، وذلك بدءاً من العنوان نفسه بدلالاته ذات الصلة بالمعنى وقبل ذلك بإحالاته النفسية، فأن يقول المرء شيئاً للريح فهذا يعني أن القول سيذهب بددا ويفنى، في حين أن كتابة الشعر، إجمالاً، هي نوع من مقاومة الإنسان لفكرة الفناء بحسب ما تشير إليه التجربة البشرية في مختلف الثقافات في العالم.

في أية حال، فإن هناك عناية شديدة يوليها الشاعر لعلاقة عنوان القصيدة بمضمونها، إنما ليس المضمون المباشر بل المضمر والخفي والذي يتسرب إلى أعماق قارئه فيتخيل لوهلة أنه هو ذاته الشخص السارد في القصيدة ليفيق من غيابه هذا متأكداً أن هذا القول الشعري هو لعلي جعفر العلاق لا سواه. يقول في قصيدة “حبر الإله”:

“إلى أين تمضي؟

مضت

كل ريح إلى نومها،

ومضى كل ليل إلى منتهاهْ..

وها أنتَ،

أقصد: مَن أنت؟

شيخٌ يحدّق في بئر أيامهِ،

ثم ينهضُ:

ضوء التوابيتِ

يقتاده، أم هتافُ

المياه؟

وها أنتَ

أقصد: ما أنتَ؟

دبّابة تتقيأ

عند المسلة مجهدةً،

وتشمّ بأظلافها السودِ

حبرَ الإلهْ..”

وكما في أغلب قوله الشعري، لا يضطهد القول الشعري هنا في “هكذا قلت للريح” المعنى فيحصره في تأويل واحد لا يقبل التأويل، ولا يضطهد مخيلة القارئ؛ فيفسح له مجالاً أن يحيا مع القصائد وكأنه الشخص السارد فيها، فيلتقي شخصان في أفق التلقي كما لو أن أحداً ما يرى نفسه في مرآته هو. هذا هو شعر علي جعفر العلاق: أفسحوا الطريق.

 

                                   العــلاق وماذا قال للــريح

                                          ‏ فاروق شوشة

ينتسب الشاعر العراقي الكبير علي جعفر العلاق ـ أول ما ينتسب ـ الي لغة الشعر يصنعها وتصنعه ويكونها وتكونه وهي لغة تجمعت عناقيدها من غابات الكروم المعتقة وتوهجت ثرياتها بقناديل الروح ومشاعل الاشواق فجاءت علي الصورة التي ارتضاها حسه الجمالي وافتتانه الوجودي ونزعته الانسانية العميقة الصافية‏.‏

وهي ـ ايضا ـ لغة تحققت بالممارسة الطويلة والمكابدة العنيدة والتجاوز الخلاق الذي يسكن شعرية الشاعر ويفجر طموحه ويصنع وعيه الناقد يتجلي في قصائده المنهمرة عبر دواوينه وفي كتاباته النقدية عبر دراساته صانعة من الوجهين معا‏:‏ الشاعر والناقد نموذجا نادرا شديد التوازن والتألق في حياتنا الادبية المعاصرة‏.‏

ولقد بدأ نهر الشعر في ممالك العلاق يتفجر عبر دواوينه الاولي‏:‏ لا شيء يحدث لا احد يجيء‏,‏ ووطن لطيور الماء‏,‏ وشجر العائلة‏,‏ وفاكهة الماضي‏,‏ وأيام آدم‏,‏ وممالك ضائعة‏,‏ وصولا الي مجموعته الشعرية سيد الوحشين‏,‏ ثم ها هو ذا يطل علينا في احدث دواوينه هكذا قلت للريح جامعا لآلئه الاخيرة‏,‏ الشديدة النقاء والتكثيف‏,‏ الصافية اللغة والصورة‏,‏ والزاخرة النشوة والإيقاع‏:‏ كان يأخذني إذ يغني‏,‏ إلي آخر الحلم‏,‏ أحمله حين اصغي الي اول الحلم‏,‏ نمضي معا كان كلانا ينادي ربيعا مضي‏,‏ أو هوي لم يحن بعد‏,‏ كان كلانا يغني ويصغي ليزداد قربا من اللحظة المفزعة‏,‏ فجأة والخريف يهيئ اشجاره للمشيب‏,‏ اختلفنا عن امرأة‏:‏ كم تغني بها‏,‏ كم هتفت بغرباتها‏:‏ ابتعدي‏,‏ لم تكن غير وهم يداهم‏,‏ في لحظة‏,‏ رجلين‏,‏ تركتنا معا ثملين‏,‏ ومضت للمتاهة مسرعة مسرعة‏,‏ لاغبار ولا أمتعة‏!‏

في الديوان الجديد لعلي جعفر العلاق‏,‏ رصد لبدايات تسلل الخريف‏,‏ وكمون في دائرة الوحشة التي تنتاب برودتها مساكن القلب‏,‏ وانتفاضة من يلاحق أيام العمر‏,‏ زارعا في فضاءاتها ما يجلب السلوي‏,‏ ويدفئ الصدر‏,‏ وكأنه طلل ينتشي فجأة حين يقول‏:‏ حين كان الخريف يهينيء لصداقته‏,‏ قلت له‏:‏ ها هما تقبلان مع الغيم‏,‏ مثمرتين‏,‏ فوفر هداياك‏,‏ كلتاهما ستوزع غيم يديها علي كتبي‏,‏ أو علي وحشتي المقبلة هكذا قلت له.‏

هكذا‏:‏ يخرج الضد من ضده‏:‏ نمر ساطع مثل قبرة‏,‏ وقرون الغزال‏,‏ مطر‏,‏ وانا اترنح مستسلما لانثيالات قافيتي ما أزال وتجيئان دافئتين مع الغيم والقافية‏:‏ موسم للحنين‏,‏ وللعافية‏,‏ ها هما‏:‏ مطر شب في غيمتين ها انا‏:‏ طلل ينتشي‏,‏ فجأة مثل وشم اليدين‏,‏ والقطا ثملا تتطاير ملء حنيني اثنتين‏,‏ اثنتين‏!‏

هكذا يصطدم القطا في طردية حجازي ـ وهو غير المتحقق كأنه الحلم‏,‏ والرهان المستحيل ـ بالقطا في قصيدة العلاق‏,‏ وهو رمز نشوة وطلة خريف‏,‏ ومطر شب في غيمتين مثل هذا التوجع والافتقاد‏,‏ والصحوة الطللية والانتشاء‏,‏ لانجده الا في مثل شعر حجازي في طرديته‏,‏ وشعر العلاق في طلل ينتشي فجأة‏,‏ مع بعد المسافة بين القطا هنا وهناك‏,‏ وعمق الفراغ الروحي والحسي الوجودي في القصيدتين‏,‏ والعلاق يمثل معادلة صعبة‏,‏ في هذا الانهمار لقصائده ومجموعاته الشعرية‏,‏ والاخلاص الحميم لدراساته النقدية بدءا بكتبه‏:‏ مملكة الفجر‏,‏ ودماء القصيدة الحديثة‏,‏ وفي حداثة النص الشعري‏,‏ والشعر والتلقي‏,‏ وصولا الي دراساته الاحدث‏:‏ الدلالة المرئية‏,‏ وقبيلة من الانهار‏,‏ وها هي الغابة فأين الاشجار‏.‏

وهي معادلة لم يفلت من قبضتها اكاديميون توهجت وجداناتهم بالشعر‏,‏ ولهجت به ألسنتهم‏,‏ وشيئا فشيئا بدأت انهار الشعر تجف‏,‏ ومائيته تنضب‏,‏ مفسحة مجالا ارحب واعمق لوعي الدراسة النقدية وضوء نهارها الساطع‏.‏

اما العلاق ـ فهو كما يقول عنه الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين‏:‏ يقود مركبته بيسر تقني وابداعي‏,‏ فالكلمات من شدة مراسه في الكتابة‏,‏ والصور‏,‏ تتوالي بين يديه في القصيدة ولاتعانده‏:‏ فقد امسك بشكيمة الخيول‏,‏ وبرع في هذا الذهاب والمجيء بين التواريخ والأزمنة‏.‏

يتناول الماضي والاسطورة كأنهما اليوم‏,‏ والحدث الراهن كأنه يستعاد من ذاكرة تاريخية‏,‏ لاينقلها العلاق نقلا‏,‏ بل يكتبها وكأنه يولدها بحرفة ايقاعية من خلال منظومة التفاعيل التي تشكل السرير الايقاعي لقصائده‏.‏

ويبقي ان الذي قاله العلاق للريح ـ في هذا الديوان البديع ـ سيبقي في الذاكرة طويلا‏.‏

كلمة عن شاعـر المـاء والنـار

                                                   ميسلـون هـادي

-1-

المتتبع لدواوين الشاعر علي جعفر العلاق الشعرية منذ “شجر العائلة” و”وطن لطيور الماء ״، و”فاكهة الماضي “، و”أيام آدم”، وحتى “سيد الوحشتين”، و “هكذا قلت للريح”، سيجد نفسه ملتفا منذ لحظة الوقوف على عتبات النص، داخل شرنقة من خيوط الشجن الشفافة التي عادة ما تلفنا بغشاوتها عندما تهب علينا نسمة عذبة من نسائم الربيع في يوم ممطر، أو تشرق علينا حزمة من أشعة شمس حنون في يوم خريفي جميل…فكيف الأمر إذا كان رذاذ هذه التباريح يهب علينا خفيفا من حاصل جمع الاثنين، ذائباّ في سطور من الكلام المنتقى بعناية فائقة، وأناقة رفيعة، تليق بفارس من فرسان الشعر العراقي هو الشاعرعلي جعفر العلاق.

هذا مايفعله ويقوله ديوانه “هكذا قلت للريح”، وهو ديوان عراقي بامتياز… حافل بالحنين والشجن والعذوبة العراقية، فضلا عن الثراء في اللفظ والمعنى، وعقد القران الصعب بين اثنين أحدهما حسيّ غنائيّ والثاني فلسفيّ وجوديّ.

يقول الشاعر في هذا المقطع من قصيدة “دافئا كالخرافة:

“يتقدمني نحوها

الحندقوق، ورعد الخريفِ

الجميل وهذا الأخ السيسبانْ

أتخيلها تتكسرُ

بين ذراعيّ كامرأةٍ

ثم تنسل’

في غفلةٍ

من أصابعيَ العشرِ،

ريانة كالدخان

إن الشاعر إذ يصعد بعربته الأثيرية ويقودها عبر آفاق الوجد، فإنه يدعونا معه الى الصعود والنجاة من هذا الركام الواقعي المظلم والمرير، بالتماس أثر ما يمكن الإمساك به من شجن هو كل ما يتبقى للارواح المتعبة من هذا الواقع الآيل للزوال أتصاعدُ

ملءَ جناحيّ ضوءٌ

يهب من الروحِ

يقتادني الطفلُ مندفعاً

من شقوق الهواءِ، ومن

قشرةِ الليلِ..

يخطفه السيلُ من حلمهِ

حيث ينكسر النومُ

والنائمونْ “

ولكن حتى رحاب السماوات قد تضيق يهذه الأرواح الهائمة المسكونة بالحلم الذي يفارق واقعا غريبا:

“ليس لي من جميعِ

السماواتِ غير اسمها

وانحداراتها،

هل انا حيرة الطيرِ:

لاهجرة يترقبها،

لاالإقامة تغويهِ..؟

هذا الخريفُ

ينازلني، وانا ليس لي

غير هذي القصيدة، تفصلُ

مابيننا، وهي عزلاءُ

صافية ٌ مثل وردة ْ “

الهيام بالجمال يربكه والأحلام أوهام تمضي وتصبح من حصة الريح.. فماذا يقول الشاعر لهذه الريح:

ماذا ستكتب عنكَ الريحُ؟

قال: وهل لهذه الريحِ ِ

غير الرملِ:

تكتبه حيناً، وتمحوهُ

حيناً،

مثل عابثةٍ تعطيكَ

جمرتها في الليلِ،

ثم الى سواك تمضي،

كما يمضي الغرابُ،

كما تمضي اللقالقُ في ماءِ

الخريف..”

وهذه الأيام التي يأخذها البشر بجدية تامة، ويظنونها مكنونة بالمغانم إلى الأبد، هي الأخرى تمضي مسرعة غير عابئة بشيء فتكرر نفسها بعبث وتركض إلى المجهول من سنة قديمة الى  سنة جديدة:

“أيامها ككلاب الصيدِ،

لاهثةً تمرّ بي:

أيّ أيامٍ

وأيّ سنةْ؟

-2-

 إن الشاعرعلي جعفر العلاق يحقق معادلة صعبة في جعل حسه النقدي حاضرا لتحقيق وظيفة الشعر الخلاقة وعدم الانفصال عنها بتراكيب مشوهة أو مغمضة أو معقدة، إنما باستعمال قاموسه اللغوي الرقيق لدعم الجانب الفكري والتأملي في القصيدة دون الإخلال بأناقة الشعر وحلاوته. إنه كمن يمسك تفاحتين بيد واحدة ليحقق معادلة صعبة بين المعنى الوجودي الوعر واللفظ الغنائي العذب، فيقود القارئ بهدوء شديد عسى أن يرى الزهور التي قد تنبت في الأرض اليباب. قصائده المعنية بالأزمان والأكوان كلها تتوقف أحيانا عند منعطف عراقي دام وتنظر إليه بعينين حزينتين ترى وتأبى هذا “الغراب”:

“كيف جئتَ؟

ومن أي ليل أتيتْ؟

هازئا بالفراشات، مستسلما

للضغينة، فانشرْ

رداءك في الضوءْ،

حكّ بجناح قطاةٍ

عراقية أصغريك،

ابتكرْ حلما

صافيا كالعذابِ،

وحدثْ شقوق يديكَ

عن الفجر “

أوتنعى آخر ماتبقى من الحلم في قصيدة “سؤال”:ِ

“عاد الموتى

إلى بيوتهم خائبين،

وعاد الحالمون إلى وطنهم

فلم يجدوه…”

سليل الماء والمطر ينعى الغيوم التي جفت في تناغم غريب مع خراب البلد، وينعى الوطن الذي أصابه الجفاف وحلت به الأيام العجاف بفعل من يريدون محو الجمال سابقا ولاحقا:

“أين وجهتهم؟

مجردون من المعنى

كمقبرة منسيةٍ:

لم يعد نايٌ يسيل شذىً،

ولا رصيفٌ،

ولاذكرى،

ولابلدُ “

-3 –

شاعر الماء والنار مسكون بأجمل الأحلام، ولكنها لاتسكن أبراج العاج العالية…ثقافته الواسعة جعلته حاضراً بقوة على جبهة النقد، وفطرته الشعرية جعلته حاضراً بقوة أكبر على جبهة القصيدة..وله حضور أجمل في قراءة الشعر ومجالس الأدب وسرعة البديهة وقول الفكاهة… عذوبة الشاعر في الحياة انعكست على حلاوة شعره ورقة قصائده.. إنه إذا حضر يتألق وإذا تحدث يتألق.. وإذا صمت يتألق أيضاً؛ لأن الرأي عنده دقيق وعميق ولا يقال جزافاً أو نفاقاً. أكاديمي بامتياز تلك صفة أخرى يجب أن تقال.وصفات أخرى كثيرة غيرها جمعها بمنتهى الأمانة.. كأستاذ جامعي بارع ورئيس تحرير قديم وباحث مزمن عن الطروحات الجديدة وصاحب العشرات من المؤلفات النقدية والمنهجية….. ولكن ما يتبقى من وصف أهم وأقرب إلى الناس، وإليه على ماأحدس وأتصور، هو نجوميته القطبية كشاعر يمتد مع المد ولا ينحسر مع الجزر..ليترك على الأرض خريطة الكنز التي تؤشر العلامات، وعيون الرائي الذي ينظر إلى جمال العالم من خلال غروب الشمس واحمرار الورد وتعثر الموج بصخرة الشاطئ…… صفته الشعرية المتميزة موجزها القول.. إنها تترك أثراً ينبض في القلب، وعلامة فارقة في الروح تشبه الأثر الذي يتبقى في الأصابع، بعد الإمساك بأجنحة فراشة